عبد الرحمن أقريش
الأصيل، يوم من أيام يونيو الجافة.
بدت النباتات والشجيرات في الجردة الصغيرة ذابلة، منكسرة، تحتضر بفعل طقس جاف وخانق يحبس الأنفاس، تنقطع الحركة، فيبدو منظر الحي جامدا مثل بطاقة بريدية.
تهب نسمات خفيفة من الجنوب، تتحرك النباتات، تعود الحياة، تدب الروح تدريجيا في التفاصيل، يسمع صوت الآذان، يستيقظ السكان من القيلولة، يفتح (ادريس الأعرج) البقال الوحيد في الحي دكانته، يعيد ترتيب بضاعته المعروضة، يرش الماء أمام المحل الصغير من قنينة بلاستيكية، يجلس (المخنطر) الحلاق أمام صالونه، يدخن، يتصفح جرائد ومجلات متهالكة، يتصفحها بحكم العادة فهو نصف أمي ولا يحسن القراءة، يعدل نظارته الطبية، وبين الحين والآخر تمتد يده لاشعوريا، يداعب بأنامله الرفيعة أقلام الحبر الجاف، ثلاثة أقلام مذهبة تنغرس بشكل أنيق في جيب سترته.
يبدو الحي مثل بوابة مشرعة، مفتوحا على الجهات الأربع للمدينة، تقطنه نماذج بشرية مختلفة، أسر فقيرة، طلبة، عمال، عاطلون، موظفون صغار، قدماء الحرب، متقاعدون، مهاجرون أفارقة…
تلتئم الشلة دائما في نفس المكان، نفس التوقيت، نفس الترتيب، ونفس الطقوس، يحضر أولا (كبير البصاصين)، أنيقا، حليقا كعادته، بشرة سمراء لامعة في لون العسل، ينظر بعينين هادئتين، يراقب مداخل الحي في حركة آلية ومنتظمة، يليه (البوفري)، يلحق بهما (ولد العرايسة)، ثم (ولد ماماه)، وأخير (بسيط)، ثم يلتحق الآخرون تباعا…
نقف عند مدخل الحي، كنا طلبة شبابا، نتمتع بمكانة خاصة، فقد منحتنا الجامعة سلطة ما، وضعا اعتباريا غامضا، نمارس شغبنا الطفولي وقسوتنا المجانية، نمتص رحيق اللحظة، نستمتع، نقضم كعكة الحياة من غير تردد وغير عابئين بالغذ، نحكي النكت والمستملحات والنوادر الغريبة، نتحرش بالمارة، نتودد للفتيات، نتلصص، نسخر، نلمز، نضحك، ثم نصمت، نطأطئ رؤوسنا، نمثل الأدب واللياقة عندما يمر الكبار والأمهات…
كانت الشلة شعلة من الذكاء.
تمر سيدة في مقتبل العمر، تحمل في اليد اليمنى حقيبة ملونة، مزينة بالفراشات والورود، في اليد الأخرى سطلا كبير من البلاستيك، تتوقف أمام الدكان، تقتني لوازم الحمام، شامبوان، صابونة معطرة، حفنة صابون أسود، أحجار الشبة البيضاء، تبدو منطلقة وسعيدة، تسأل (ادريس الأعرج).
– عافاك، فين كاين حمام النساء ؟
يبتسم ابتسامة ماكرة.
– راه، الباب الأول على اليمين!!
تنصرف بخطوات خفيفة متكسرة، تتمايل، تدندن أغنية شعبية، تدلف إلى الداخل…ثم تخرج جريا، تولول، تلقي بالحقيبة جانبا، وتنخرط في نوبة من الضحك الهستيري، ضحك مجنون لا يتوقف إلا لكي ينطلق بشكل أقوى…
تنظر جهة الدكان، كنا نغرق في الضحك، نقهقه بصوت عال، فقد انطلت عليها الحيلة، ودخلت حمام الرجال.
إلى اليمين يجلس (بابلخير) الزنجي العجوز الذي شارك في حروب فرنسا الاستعمارية، والذي لا تحتفظ ذاكرته من أيام الحرب إلا بفتوحاته النسائية.
يسمع صوت حذاء عصري بكعب عالي، تمر فتاة متأنقة رفقة والدها، تمشي على استحياء، ينظر إليها (كبير البصاصين) بعينين ذئبيتين، نظرة غريبة تستعصي على التصنيف، يتودد إليها (ولد ماماه)، يسمعها غزلا غريبا، مزيج من الكلام الرقيق والعبارات العاطفية المنتقاة بعناية، قاموس جريء ولكنه جميل، تشعر الفتاة بالحرج، تضطرب خطواتها.
يتدخل (البوفري).
– دير الوسخ…راك غادي ثقب الورقة (احترس، لا تلقي الكلام على عواهنه)
تنتابني مشاعر متناقضة، مزيج من الصدمة والدهشة والحرج، أطرق أرضا، أطأطئ رأسي.
يعدل (صلاح) طاقيته، يخاطبني مطمئنا دون ان يتوقف عن قضم أظافره.
– لا تخف إنه أصم، لا يسمع!! (يقصد والد الفتاة)
يمر (المقدم) مسرعا كعادته، يلقي إلينا نظرة اتهام، ننظر اليه بصمت، يتوارى، ثم شيئا فشيئا نعود، نستعيد جو المرح والانطلاق.
نطلب من (بسيط) أن يغني أغنية (الثلث الخالي). (بسيط) أصغرنا سنا، شاب بالكاد تخطى عتبة المراهقة، وسيم، وجه مشرق، عينان جميلتان، واسعتان، يشع منهما ذكاء وفرح طفولي، بشرة بيضاء صافية تنم عن صحة ونضارة، قامة متوسطة الطول، جسم ممتلئ تحركه روح خفيفة منطلقة ميالة للمتعة والانفلات.
يرفع سبابته، يصمت الجميع، يصدر همهمة، نستمع، نستمتع، نتشرب صوته الرخيم وهو يرسم المدخل الموسيقي للأغنية، ينخرط البعض…
يرفع هو رأسه، يشخص ببصره بعيدا، يحرك جسمه البدين، يشد أنفه إلى الأعلى مقلدا الفنان.
( لو بناو عليك سور نهدو بذراعي
لو بناو عليك سور نهد (مو) بذراعي
أو قطعو بك البحور نشقها بشراعي
أو قطعو بك البحور نشق (مها) بشراعي
لو حطوك فجبل عالي
أو حتى فالثلث الخالي
لاااازم نوصل ليييك، لاااازم نوصل ليييك
ياحبيبي، يا حبيبي، ياحبيييبييي…)
يغمض عينيه، يتناغم صوته الجميل مع حركة جسمه الممتلئ، في إشارة إلى الوجد والانخراط…
ثم، بدون مقدمات، ينتقل إلى أغنية أخرى.
( مرسول الحب فين مشيتي، وفين غبتي علينا؟…
تنتقل إلينا العدوى، ينخرط الجميع في متعة حقيقية.
مرسول الحب فين مشيتي وفين غبتي علينا؟
هوم هوم هوم هوم هوم…)
…
يسقط عصفور صغير من السماء، يتحرك بصعوبة، يبدو جريحا، يلتقطه (بسيط)، يجس نبضه.
– آآآي… قلبو كيضرب بالجهد!!
– شوف، شوف إنه يمامة!!
– لا، إنه حمامة!!
– بحال بحال، أشنو الفرق؟!
– ربما كان جريحا؟
– لا، إنه فقط عطشان!!
يدخل (بسيط) إلى الجردة الصغيرة، يفتح صنبور الماء، يرشه رشات خفيفة ويتركه في راحة يده المفتوحة، ننشغل عنه للحظات، يسترجع الطائر قوته، ثم يغادر، ينفلت رشيقا مثل سهم.
ثم يظهر (فتاح) بلباسه الرياضي الأنيق وجسمه الرشيق، يحمل بيسراه صندوق تلفزيون وبجانبه فتاة تكبره سنا، يوقف سيارة أجرة، يضع الصندوق على حاملة البضائع، يودع الفتاة، تقبله، تركب، ينطلق الطاكسي، ويعود هو جهة الشلة في خطوات هادئة.
بدا أنيقا كعادته، ولكنه فقد الكثير من ألق الشباب، يمرر أنامله على صلعته في حركة لاإرادية، في الماضي، أيام الفقر والبؤس كان يغسل شعره بمسحوق (التيد) وصابون (الكف) وكان شعره أشقر، ناعما و كثيفا، ثم عندما أصبح موظفا صغيرا في البريد، أفرط في استعمال أنواع الشمبوان والمراهم، ووصفات التجميل الطبية والبلدية، ومع مرور الأيام تساقط شعره، فغدت رأسه ملساء مثل حجارة الوادي.
يبادره (كبير البصاصين) بالسؤال.
– البنت من العائلة ؟
– لا…
– والجهاز…؟
ابتسم ابتسامة غامضة وحزينة.
– ماعنديش الفلوس !!
منحها جهاز التلفاز العائلي لأنه لا يملك مالا.
عاش (فتاح) تاريخا من الخيبات والهزائم بفعل الفقر والبطالة والأحلام المجهضة، قطع البحر مهاجرا مرات متعددة، وفي كل مرة كان حرس الحدود وخفر السواحل يتكلفون بإرجاعه إلى الحي…
في لحظات الصفاء، نشجعه، فيستعيد حكايته مع السيدة الأسترالية التي تعرف عليها عن طريق المراسلة، يومئذ لم يكن (الفايسبوك) معروفا، هي كانت تنوي الارتباط به، وكان هو ينوي الحصول عن طريقها على الفيزا وأوراق الإقامة …
في البداية سارت الأمور على ما يرام، أعجبت هي بالحي والحمام والسويقة والشمس وضجيج الحياة، أعجبتها أكثر أكلات الكسكس والحريرة والكرعين والبغرير والبابوش ورائحة التوابل القوية…جربت أن تصوم أياما من رمضان، ثم غادرت عندما أيقظها ذات ليلة رمضانية لتناول وجبة السحور، كان النظام الغذائي لرمضان والوجبات الدسمة والمتلاحقة قد سببت لها اكتئابا.
يمر (القسيس قس بن ساعدة) وهو شخص ساذج يداري فشله بقراءة الكتب وسماع الأشرطة الدينية، يتوقف أمام الشلة، يشير جهة (فتاح).
– شفتو هذا…إنه ملحد…راه تيقول الله ماكاين!!
يصمت الجميع، يشعر (فتاح) بالحرج.
– لا تهتموا إنه يقول أي شيء!!
– والله إلى تيقول الله ما كاين!!
يغضب (فتاح) فجأة، يرد بعصبية.
– وأنت باش عرفتيه كاين ؟ عندك صورتو (صورته)!!
نضحك لغرابة الرد وجرأته، ينظر (القسيس) صامتا، ثم ينصرف مصدوما، مهزوما.
يرتفع إيقاع الحياة، يستعيد الحي ضجيجه المعهود، تسمع أصوات صراخ وتوسلات واحتجاج، نلتفت، كان (خاي عبدالله) يقف فوق سطح البيت، ثملا، يتمايل، يقاوم السقوط بصعوبة، كانت ملامحة الخلاسية قد أخذت أبعادا مكبرة، شفاه ممتلئة، أنف أفطس، وعينان متقدان كالجمر… يمسك بيده اليسرى زجاجة (الماحيا) توقفت الحركة في الحي من جديد، تجمهر الفضوليون وعيونهم شاخصة إلى الأعلى.
أمام البيت وعلى بعد خطوات، كانت والدته العجوز تقف مستسلمة، مهيضة الجناح ترفع رأسها، تنظر إليه بعينين منكسرتين.
– نزل أوليدي الله يهديك…
– وياك واكلة…
– إييه أولدي الله يرضي عليك…
– وياك شاربة…
– إييه أولدي الله يهديك…
– وياك ما خصك حتى خير…
– إييه أولدي الله يرضي عليك
– إوا يديك ف…وسيري…(كلام بذيء)
تيأس العجوز، فتنصرف منهزمة.
ثم يخرج عن طوره، يتهور، وينخرط في هستيريا مخيفة، يشعل النار في صناديق خشبية ومتلاشيات، ثم في حركات جامحة، يخلع قميصه، يلقي به إلى النار المتأججة، يرج زجاجة الماحيا، يسكب منها على النار فيتصاعد لهيبها إلى الأعلى…
تطل النساء والأطفال من النوافذ، ينظرون بعيون خائفة، في مكان قصي، يقف المقدم، يراقب الموقف عن كثب، تحضر سيارة الشرطة، يترجل منها رجال أشداء يتقدمهم أخوه بزيه النظامي، يوجه إليه تحذيرا هادئا.
– انزل، براكا، العن الشيطان…!!
ينظر إليه بصمت، يتردد، ثم بنبرة حاسمة ومهددة:
– إوا انزل خلاص…!!
يغضب (خاي عبدالله)، يخلع ما تبقى من ثيابه، يلقي بها في النار المشتعلة، تعود إليها الحياة، تتأجج من جديد، ترتفع ألسنتها عاليا…ثم بصوت مبحوح وحاد.
– والله يلعن دين مو لي خوه بوليسي!!
تراجعت سيارة الشرطة للحظات، ثم توارت.
كان صدى صوته لا يزال يتردد عندما هبت ريح خفيفة، تحركت النباتات في الجردة الصغيرة، وراح عبق الياسمين يملأ المكان، تنزل زخات باردة من السماء.
ينفتح منزل (بابلخير)، تخرج حفيدته، تقف أمامه، بدت مزهوة بتنورتها الحمراء الفاقعة وضفائرها الإفريقية، يقوم الشيخ من مكانه في حركات بطيئة، يتكأ على عكازته، يستند باليد الأخرى على كتف الفتاة…
يرفع (صلاح) بصره إلى السماء يمسح قطرات المطر الباردة.
– إنها دموع الصيف.
تساءل.
– أين نسهر الليلة…أنذهب للسينما ؟
أجاب (فتاح) بصوت حاسم.
– لا، الأفلام المعروضة لا علاقة (رديئة)!!
تدخل (البوفري) بصوته الكسول المتثاقل.
– عندي فكرة جهنمية!!
– أشنو هيا؟
– ندخلو عند (المخنطر) ونقرعوا كاملين!!
…
أعد (المخنطر) صينية الشاي على شرفنا، فنحن ضيوفه، كنا سعداء، نرشف كؤوسنا وندخن بالتناوب لفافة محشوة…
بدا الصالون نظيفا وبسيطا، طاولة ومقاعد خشبية باهتة، جرائد ومجلات متهالكة، رفوف طويلة تنتظم عليها قوارير مملوءة بمحلول الزعفران الأصفر، علب مصبرات معدنية مربعة الشكل، بعضها مملوء بعظام أسنان وأضراس مسوسة سوداء ومخيفة، وبعضها الآخر مملوء بخواتم جلدية يابسة، بدت مثل فواكه مجففة، أسر لي (فتاح) أنها مخلفات عمليات الختان، يحتفظ بها (المخنطر) على سبيل الذكرى والتباهي بتاريخه المهني الحافل…
بدأ الحي يغرق تدريجيا في الظلام، يعود الرجال من العمل، في حين يخرج العاطلون الكسالى للمقاهي في سهرة تمتد إلى حدود الصباح، تتوقف عربة مجرورة، يسمع أزيز العجلات ووقع حوافر الحمار على الأرضية الإسفلتية، يترجل منها شاب بملابس قذرة، يذهب توا لأكياس القمامة، يتفحصها، يجمعها، يلقي بها إلى العربة في حركة آلية ثم يمضي…
نظر إلينا (المخنطر) باستغراب، تردد قليلا، ولكننا حسمنا الأمر…
عندما انتهى، وقفنا ننظر في المرآة، نمرر أناملنا الرفيعة على رؤوسنا الحليقة، مثل أسرى حرب، بدا منظرنا غريبا ومضحكا.
وحده (بسيط) احتفظ بوسامته رغم صلعته البيضاء اللامعة.