رائحة بيروت

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 2
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إبراهيم مشارة

قومي من تحت الموج الأزرق، يا عشتار

قومي كقصيدة ورد..

أو قومي كقصيدة نار

لا يوجد قبلك شيءٌ.. بعدك شيءٌ.. مثلك شيءٌ..

أنت خلاصات الأعمار..

يا حقل اللؤلؤ..

يا ميناء العشق..

ويا طاووس الماء

من قصيدة :يا ست الدنيا يابيروت ” نزار قباني.

بيروت أم الشرائع، عروس المدائن، باريس الشرق ، دالية الحسن التي اشمخرت وتجلت عناقيد جمال في وجوه حسانها وفي حدائقها،في أرضها و في سمائها .

لبيروت رائحة كما للربيع رائحة وللورد شذا وللمسك أريج . رائحة بيروت من رائحة العشق من رائحة البحر المضمخ  برائحة أرزها وصوت فيروز.

بيروت، سرة الدنيا ، التاريخ الضارب الجذور إذا فاخرت المدائن بعراقتها ، وبيروت السحر الذي يتعانق فيه الماء اللازوردي بالعمران الأبيض  في بياض الياسمين وجماله.

بيروت التي أعطت العالم العربي قواميسه اللغوية ومتونه الفكرية في أواخر القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين ومزجت بين رصانة الثقافة العربية العريقة وجدة الثقافة الغربية الحديثة  حتى استوت درة في تلك المقولة الذائعة”القاهرة تكتب وبيروت تطبع والعراق يقرأ” هذه هي ثلاثية الثقافة العربية منشورة على هذا المثلث القاهرة بيروت وبغداد، لكن لا فبيروت تكتب وتطبع وتقرأ وتنقد وتتمرد.

بيروت فرس جموح لا تسلس القياد لكل فارس، بيروت جنية لا يستهويها أي غناء ولا يراودها أي فارس أحلام فعمرها من عمر التاريخ وجمالها من متون الجمال لا من حواشيه ،هي شهرزاد لا تحكي لشهريار الزمان ألف ليلة وليلة بل مليون مليون ليلة وليلة !

تبدو بيروت من الطائرة مجرة بيضاء يعانقها الماء ويمعن في عناقها يهصر غصنها الميال في خليجها المشهور مجرة بيضاء تمتد إلى اللامنتهى من جهة الشرق أو الغرب وترتفع الأبراج الحديثة لتشير إلى حركة عمرانية تحديثية لبيروت كأنما بناها مردة سليمان !

ها أنذا في شارع الحمراء سان جرمان بيروت أتأمل مقاهيه  تلك التي ادخرت بين جنباتها مجد الخمسينات وتمرد الستينات من الحمراء  مر كل شاعر وكل مثقف حر وكل متمرد على آداب القبيلة ومراسيم الجبر السياسي والثقافي  من هنا من مقهى” ستاربكس”  الذي هو “فلور” الشرق  مر نزار وغادة السمان وأدونيس ومحمد الماغوط وبين جنباته  يدخر المقهى ذكريات المجد الغابر  من روعة المغامرة مع يوسف الخال وأنسي الحاج وبول شاؤول وغيرهم.

مازالت مكتبة أنطون معلم من معالم شارع الحمراء لولا أن معدل القراءة انخفض  وثمن الكتاب ارتفع كثيرا ،أواصل الطريق مستقيما باتجاة “الروشة” واجهة البحر حيث الصخرة المشهورة والتي هي  معلم بيروت الطبيعي  ويسميها البعض صخرة الانتحار هنا المدينة  تشبه كثيرا مدن جنوب فرنسا ،تبدوحواشي بيروت وأطرافها  المتلألئة في الليل مجرات وسدما كونية ، من الحمراء في الاتجاه الآخر أنعطف باتجاه البحر أمر بالجامعة الأمريكية وجه بيروت الأكاديمي المشرق أتذكر شاعري الأثير كذلك خليل حاوي الذي كان يسكن قريبا من هنا والذي انتحر صباح يوم عقب الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 لم يتحمل رؤية ذلك المشهد ولم يتحمل قبل ذلك الخذلان العربي وكان يمهد لرحيله في شعره:

والضوءَ المداجى عبر عتمات الطريق ،

ومدى المجهول ينشقّ عن المجهول،

عن موتٍ محيق،

ينشر الأكفان زرقاً للغريق،

أمر بحديقة بيروت والسرايا  كاتدرائية سان جورج ثم مسجد الأمين أحد أفخم مساجد الدنيا  حيث يرقد الشهيد الحريري ومرافقوه  الذين استشهدوا معه إلى جوار المسجد  الباذخ المترع جمالا وجلالا بلونه الذهبي  وقبته الزرقاء اللازوردية  ومآذنه الأربع والذي يشبه كثيرا مسجد علي باشا في القاهرة   وحين يرتفع الآذان منه للصلاة  تتيه في ملكوت الروح   بين سحر الصوت وجاذبيته  وثقل الأمانة ثم ساحة النجمة حيث البرلمان  تعطر أنفي رائحة الأركيلة  المنبعثة  من المقاهي الباذخة التي تذكرني بمقاهي الحي اللاتيني هنا الجمال الصارم والمجد العريق في ما يعرف ببيروت الغربية، إلى الأمام الخط الفاصل بين بيروت الشرقية والغربية.

الخط الأخضر أو الوهم الفاصل بين أنانية الإنسان وطيبته في ذات الوقت !

والذي دفعت بيروت فاتورته جسيمة بين أعوام 1975 و1990

بيروت ياسمينة لا شرقية ولا غربية عرشها على ماء الجمال والسحر والغنج .

كم أكره المدن المتبرجة تلك التي تاريخ ميلادي أعرق من تاريخ ميلادها إن الخريطة التي نعيش عليها تشبه كثيرا ميناء الساعة أرقامه بضع مدن وعقارب الساعة تشير إليها  والباقي خارج الميناء  وكم أعشق بيروت رائحة بيروت وسحر بيروت برغم زحمة السير فيها  وغلائها برغم مشاكلها التي لا تمنعني  من عشقها والتذلل إليها ومراودتها عن نفسها لتفضي إلي بسر السحر فيها وأنا أسمع صهيل طرقاتها في جوف الليل وحمحمة الحنين إلى زمن معين .

بيروت الصمود برغم كل شيء برغم الجراح، بيروت الأمل الواعد بيروت الكنز المخبأ، بيروت السحر المعتق .

أيتها الفينيقية !

يا سليلة الورد والنار

مازال في الكأس صبابة

من عشق وجنون وإباء

فأنا بعد الخمسين

أخطو خطواتي الأولى

بين الورد والنار

لم تثنني المراسيم ولا الآداب المرعية

عن الجموح والكبرياء

هل ربحت  الرهان؟

يوم رميت خلف ظهري

علم “ماكان وما يكون ”

ونبذت الدرويش والبحار على السواء

وضعت في متون العشق والضباب

يلفه الضباب؟

أساطير من نسج حوريات القمر

تنهل من أقواس الغمام

وتغمغم أناشيد الغرام

إذا الليل عربد والنهار نام

فهات العنقود من كرم تلك الدالية

واعصريه من جموح تلك الرابية

في صحة الإباء

يلفه الإباء

 

مقالات من نفس القسم