أمجد ريان
وصف إدوارد الخراط ديوان إيمان مرسال الأول “اتصافات” بقوله إن لها رؤية خاصة، وشعراً خاصا “فيه بلا شك إنجاز حقيقي، ليس فقط ما ينم عن موهبة حقيقية، بل ما يومئ بإبلاغ إلى شاعرة حقيقية” ووصف التجربة قائلا: عندها (محاولة للإمساك بلحظة للتكون، وإيقافها، لتأملها، التأمل عندها هو نغمه الاستقرار”. يشير الخراط هنا إلى قضية التأمل وهى القضية الأساسية التي استشرت في المرحلة الأولى من نشاط الشاعرة العام في قلب وهج الحداثة.
تبدأ إيمان في خوض المرحلة الثانية بعد قدومها إلى العاصمة في الوقت الذى يتواكب فيه القدوم مع دخول الواقع كله إلى منطقة جديدة تنمو فيها ظروف اقتصادية واجتماعية وثقافية مغايرة، وبحساسية عالية ويقظة، تعانق الشاعرة واقعها الجديد وتنغمس في همومه ليدفعها وتدفعه، لقد انهارت منظورات فكرية كبرى كانت قد هيمنت على الحياة لفترة طويلة، بدأ الشك يحل محل اليقين في كثير من هذه البديهيات التي تتزيا بالإطلاق والنهائية.
ورأت أن فكرة الهامش هى الفكرة الوحيدة الممكنة الآن ليس فقط في موضوع المرأة، بل في التعبير عن كافه قضايا الواقع اليوم.
تطرح الشاعرة الهوية الجديدة للإنسان المشتت في جزر صغيرة محاصرة، كل إنسان يعانى من الإحساس بالضعف الشديد والعزلة داخل الماكينة الجبارة للواقع الاجتماعي الجديد، هذا الواقع الذى بدأ يدخل في هياكل التنظيم الصارم والتكنولوجيا الخارقة، ووسائل الاتصال التي لم يسبق لها مثيل، بينما لا يستطيع الإنسان أن يجرى علاقة حميمة مع أقرب الناس له.
ياتى ديوانها الجديد ليعبر عن أقصى تقاطع بين الشاعرة وواقعها الجديد، الممر المعتم، هو الهامش الذى يشكل اهتماما مركزياً في تفكير الشاعرة، والرقص هنا هو الممارسة الحياتية والإبداعية الجديدة، بينما تؤكد كلمه (تعلُّم) هنا رفض الشاعرة للمعارف التقليدية الشائخة، ورفضها للرؤى والمناهج والإيدولوجيا التي تطرحها مرحلة الحداثة اجتماعياً وفكرياً وجماليأً. إنها تبحث عن طريق بكر جديد، وتريد أن تفهم الواقع من جديد، وتفهم نفسها من جديد من خلال الأوليات التي ينبغي أن تتعلمها من جديد، أن تتهجاها، وأن تنشئ المعرفة التي تخصها إنشاء، وتكتشف أدواتها اكتشافاً. والرؤية التي يطرحها الديوان تقترب من التركيب المتباين للإنسان اليوم، تساؤلاته الجذرية التي تطرح للمرة الأولى في سكة مختلفة، تأملاته الأولية البسيطة : الطفولة الممكنة، الذات الجديدة، العلاقات الإنسانية الجديدة التي ينبغي أن تتجاوز عفونة الود المعلن، الموت الذى يحاصر عقولنا وأجسادنا، الموت الذى نفشل في عدّ جثثه التي تتساقط حولنا، الشيخوخة التي سقطت فيها أفكارنا، علاقتنا بالثقافات الواردة، الأكاذيب المسكّنة التي نوهم بها أنفسنا فنغرق في التبريرات والرتوش والسرقة، الجسد وإمكانية أن يستقل وأن يتحرّر، الحسيّة التي هى شهادتنا الطازجة الأولى لفهم الوجود، والحرية التي نفتقدها ونحن جالسون في علب على قدر مقاساتنا، نعانى من الوحدة المريرة والانفصال.
إذا خرجت من هنا
سأمسك يد أول شخص يقابلني
وسأجبره على مصاحبتي إلى مقهى جانبيّ.
السرد هنا لا ينتقل بين سطوح الأشياء، بل على العكس هو يفتح البنية العميقة للسؤال الجديد الذي يرفض تحويل الجسد إلى دمية جنسية، ويقيم العلاقة المباشرة بين الجسد والواقع. السرد هنا لا علاقة له بسرد قصيدة النثر المعروفة، بل هو يؤسس لنص شعري مختلف تتجاور الأشياء فيه فلسفياً على نحو يبرر منطق التراكم الهائل بعد أن انحلت الروابط الوهمية الكبرى. التي صنفت الوجود فيما مضى إلى هياكل خاوية، سيهزها الفعل العنيف:
ولكني كتبتُ
أن تمزّق طلقة من مسدس مجهول
استقراراً معتماً
تشوّش عظيم
تصدّع
وارتطام شظايا ليس بينها سابق معرفة.
ـــــــــــــــــــــــــــ
الهلال أكتوبر 1995