أحببتُ ما كتب ، أنا التي لم تتغرب إلا سنواتٍ قليلة في صغري ، ولم أذق معنى اغتراب البلد ، ولا المنفى .
أحببتُ الكلمات التي صاغها ، فلمستني ، لمست غُربتي الشخصية ، ودمعت عيني ، أحببت إنسانًا استطاع أن يعبّر عن غربته ووحشته وعما آسى ، فشعرت أنها انا ، أو انها غربتي انا
في مديح كل الكتابات التي لا يكون سياقها العام يلائمُنا ، لكننا عندما نقرأها نشعر بها كسياق خاص
.
بمقدور الشاعِر أحياناً أن يصير حكيمًا وألا يتبعه الغاوون ، وأن يكسر قواعد ثًبِتت منذ أعوام ، وأن الشاعر ليس إلا هائمًا وخياليًا دائمًا ، بل يمكنه أن يكون أكثر واقعية وحكمة من غيره .
هذه الكتابة كانت تلقُنُني دروسًا في الحكمة ، دروسًا أعرفها جيدًا لكن حروفها عندما ترتطم بعيني تحدت طنينًا برأسي .
الكتابة الأقرب دومًا هي الكتابة التي نشعر بها أننا نحن ، أو أنها كتبت خصيصًا لك .
رأيتُ مريد الإنسان ذو الخِبرة والحكمة :
يقول :
” ما مصدر هذه الغصة الصغيرة في البال ؟ وأنا هُنا داخل الحلم بذاته “
وأتساءل ..
هل يمكن لمن عانى كثيرًا وتألم وفارق أن يشعر بلذةِ السعادةِ والوصول أخيرًا دون أن يشعر بغضةٍ ما ؟ أو أن هناك تخلٍ ما عن كل ما رافقه دهرًا ؟
في مرحلةٍ ما بعد أن يُلازمك حزنًا طويل الأمد ، إن واتتك سعادة ما ، بطريقةٍ ينتابُك شعور بالخيانة تجاه رفيقك الأوفى ” الحزن ” وأنك بطريقة ما لا تصدق ما أنت فيهِ ، لا تشعر بهِ كامًلا ، لا تصدق أنك تحياه فعلًا .
.
يقول أيضًا عن السعادة التي تأتي – أخيرًا :
” أنت لا تبتهج فورًا بمجرد أن تضغط الحياة زرًا يدير دولاب الأحداث لصالحك ، أنت لا تصل إلي نقطة البهجة المحلوم بها طويلاً عبر السنوات وأنت وأنت ..
إن السنوات محمولة على كتفيك ، تفعل فعلها البطيء دون أن تدع لك أي أجراس .”
كيف نُشفى من آلام أحزان أوجاع خذلان فقدان غربة واغتراب ، عانينا منه لسنوات فجأة هكذا دون أي مقدمات لمجرد أن الحلم أخيرًا تحقق .
هذا لا يحدث ..
ويقول شارحًا :
” استحالة الابتهاج المطلق بعد الفقدان
أدهشني أن خيالي مستمر في ممارسة شغله رغم وعيي الحال بأنني أمشي على الأرض التي كانت شغلاً لخيالي في سنوات البعد الطويلة .”
.
” إنها المسألة نفسها ، مسألة رتق زمنين بالإبرة والخيط ، الزمن ليس خرقة من الكتان أو الصوف ، الزمن قطعة من الغيم ، لا تكف عن الحركة ، وأطرافها غائمة مثلها “
الماضي يصنع الحاضر بطريقة ما ، الماضي لا يتغير ، تُحفر أيامه أياً كانت حلوها أو مُرها بالذاكرة ، تُحفر حفرًا غائرًا ، أقول دائمًا نحن بحاجةٍ لسعادةٍ بنفس مقدار الحزن الذي عانيْناه ، بمقدار أقل لن يُجدي نفعَا ، شيء بنفس قوةِ الحزنِ وعكس اتجاهه .
.
يقول في درسٍ آخر :
” علمتني الحياة أن علينا أن نحب الناس بالطريقة التي يحبون أن نحبهم بهم “
درس صغير في الحبِ ، أو درس عقلانيْ في الحب ، البعض إن أحب لا يستطيع كبح تصرفاته وإن كانت بدافع الحبِ ، هذه التصرفات التي قد تؤذي مشاعر الآخر ، الآخر الذي قد يتفهم أحياناً أن هذا حبًا ، إلا أنه قد يضيق ذرعًا يومًا ما بما تفعل لأنها ليست الطريقة التي يحبون .
.
يقول في ريبةٍ عن الليلِ :
” أمر محير وغريب ، كل العودات تتم ليلًا ، وكذلك الأعراس واللذة والاعتقالات والوفيات ، وأروع المباهج ، الليل أطروحة نقائض “
وهو كذلك بالفعل ، الليل مجمع كل شيء ، الوحدةِ والحب ، السَّمر أحياناً والبكاء ، الليل مختلف عن النهار ، النهار متشابه عند أغلب الناس ، الليل لا يفعل ، الليل هو الوقت الوحيد الذي يخبرك بالحقائق دائمًا ، إن كنت سعيدًا بالليل ففي الصباح ستكون كذلك ، إن كنت تعيسًا ستستيقظ وأنت تحمل تعاسة الليلة السابقة على صدرك .
الليل هو الوحيد الذي يخبرك بكل صدق كم أنت وحيد تعيس أو سعيد .
.
يقول في الغربة :
“إن العائد يعود وعلى كتفيه أحمال يستطيع المرهف أن يراها ، كما يري عتالاً محني الظهر في ضباب الميناء ، المنشود هنا البطيء ، ستتخذ اهتزازات الماضي مداها إلي أن تهدأ ، وتسكن ويجدها لها شكلها الذي تستقر فيه “
في الغربة نفقد أشياء منا دون أن ندري ، أشياء تتسرب منا عامًا بعد عام ، لا نستطيع أن نحصيها لأننا لا نشعر بها ، أشياء أخرى نحملها ، أشياء لا نعرفها ولا نسبق لنا أن جربناها ، أشياء تتشبث بنا ، كل هذا لا نشعر به إلا فجأة عندما نعود ليبدأ كل شيء في الظهور آثار ندبات الفقدان ، أثار ما ألتصق بنا ..
.
يقول :
” لا غائب يعود كاملاً ، لا شيء يستعاد كما هو “
حقيقة أخرى ، ما يذهب لا يعود ، وإن عاد لا يعود كما السابق .
.
يقول :
“العالم يواصل تأرجحه “
ليست المشكلة في أنه يتأرجح ، المشكلة أنه يتأرجح ونحن داخله ، هو يتأرجح كأنه يلعب ، أي يلعب بنا بكل عبث وكأننا دمى يحركها كما يشاء لا كما نشاء ، العالم يواصل تأرجحه لذلك أنت لا تدري بكل يقين أين ستبيت ليلتك القادمة .
.
يكرر – يؤكد
” الحياة تستعصي على التبسيط “
.
يقول :
“يظننا شلة سعيدة من الأصدقاء لكثرة ما نضحك بصوت عال ، المسألة أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه ”
من المشاهد المُكررة في الحياة بكل سخرية
أتساءل هل دومًا الأكثر ضحكًا هم الأكثر حزنًا ؟
هل إن توقفنا عن الضحك ، صرحنا سعداء حقًا ؟
–لا .
.
يقول في فلسفةِ أخرى :
” من المريح دائمًا أن نصور المأساة فيما يقع علينا فقط ، لا فيما نفعله بأيدينا أيضاً “
ربما لأن هذا قد يخفف من وطأة الأمور ، الشعور بأن كل الأشياء السيئة لا دخل لنا فيها ، هذه الفلسفة مريحة للعقل ، ولذوي صوتِ الضمير العالي الذي لا يسكت ، أن تضع نفسك في خانة المجني عليه وأن كل الجناة يقعون خارج حدودك .
.
في السؤال الأكثر حقيقية يقول :
” لماذا يظن كل شخص في هذا العالم أن وضعه بالذات هو وضع مختلف ؟ هل يريد بذلك أن يتميز عن سواه من بني آدم حتى في الخسران ؟ “
لماذا – البعض – إذا وجد مُتألمًا سارع بإخباره بآلامه التي يحسبها أكثر مما يعانيه الآخر ؟ ما الجيد في الأمر ؟ وما هو وجه التفاخر في ذلك على أيةِ حال ؟
الكل يُعاني دون استثناء .
.
يقول في جملةٍ معبرةٍ عني كثيرًا :
” أن ينظر إلى اطمئنانهم ليخبرهم أن السعادة تكذب ، أن الأمان يكذب ، أن الوسامة تكذب ن الحب يكذب ”
لقد وددت كثيرًا أن أقولها للكثيرين ، يزعمون دومًا أنني شخص كئيب ، لكنني وددت حقًا لو أقولها ثم أتراجع معللة ذلك أني ادعهم يخوضوا ويلعبوا سيعرفون ذلك يومًا ما .
هذه ليست كآبة ، هذا واقع أراه جيدًا ، وهذه الجملة جسدته جيدًا ، الأشياء تكذب ، مزوَّرة ، عليها غشاوة أو على الأبصار .. وأن كل ما يروه غير حقيقي .
.
رأيتُ مُريد الشاعر :
يقول :
” أحب القصيدة وهي تتشكل بين أصابعي صورة بعد الصورة ، حرفًا بعد حرف ، بعد ذلك يبدأ الخوف ويهرب اليقين ، تنتهي عندي تلك اللحظة الراضية التي يسمونها فتنة الخالق بالمخلوق “
يقول أيضًا :
” هل الشاعر يعيش في المكان أم في الوقت ؟ ”
.
يقول أيضا :
” الشاعر يجاهد ليفلت من اللغة السائدة ، المستعملة ، إلي لغة تقول نفسها للمرة الأولى ، ويجاهد ليفلت من أظلاف القبيلة ، من تحبيذاتها ومحرماتها ، فإذا نجح في الإفلات وصار حرًا ، صار غريبًا ، أقصد في الوقت نفسه ، كأن الشاعر يكون غريبًا بمقدار ما يكون حرًا “
الشعر حالة خاصة ، حالة مميزة وغريبة ، لقد كتبت عدة قصائد ولازلتُ أذكر شعوري الأول عندما أتتني ، هو شيء مختلف ، مختلف تمامًا عن أي شيء ، كنت أشعر أن الكلمات تنزف من يدي ، أن روحًا تخرج مني ، دقات قلبي تسارعت بشكل غريب ، الحالة التي تعتريك وأنت تكتب الشعر خاصة مختلفة كليًا .
مرحلة أن ترى الوليد أمام عينيك ، الفتنة الأولى بالقصيدة ، ما تلبث أن تزول مع القراءة الثانية أو الثالثة لها ، لتبدأ مرحلة الخوف والقلق .. هل هي جيدة ؟ كيف كتبت هذا ؟
الشاعر يعيش داخله ، وخارجه ، في أوقات مختلفة وأماكن مختلفة ، الشاعر يعيش في اللامكان وفي اللاوقت ، لا حدود لشيء ، لا ثوابت لشيء ..
على الشاعر أن يكون مختلفًا ، مُخالفًا عن الآخرين ، أن يكون له بصمةً خاصة ، أن يتحرر مما قد يعيقه حتى لو ترتب على ذلك أن يحمل غربته واختلافه وشعره ويمضي بعيدًا .
.
رأيتُ مريد الكاتب
” الكتابة غربة، غربة عن الصفقة الاجتماعية المعتادة، غربة عن المألوف والنمط والقالب الجاهز، غربة عن طرق الحب الشائع وعن طرق الخصومة الشائعة “
الكتابة روحُ أخرى ، روح هائمة لا تجد ضالتها بسهولة ، الكتابة نزف ، وكسر للقواعد ، الكتابة حياة داخل الحياة ، اغتراب في الروح ، عطب لا يؤذي إلا صاحبه ، الكتابة تجعلك حاضرًا فيهم ، غائبًا عنك – أحيانًا .
يقول وديع سعادة ” الكتابة غياب الحياة ”
أختم كل هذا بسؤال طرحه مُريد :
” ما الذي يجعل قصتنا – نحن بالذات – جديرة بأن يُصغي لها العالم ؟