نور الهدى سعودي
الإزميل انزلق من يد سالم وسقط على الأرض برنين معدني حاد. تحت طبقة الجير المتساقط، شيء أخضر يتوهج بضوء خافت. ليس طلاءً ولا حجراً، بل نقوش تنبض كعروق حية تحت جلد الجدار. حروف أمازيغية قديمة تتحرك ببطء، تعيد ترتيب نفسها أمام عينيه المذهولتين. مد إصبعه بحذر، وفي اللحظة التي لامس فيها النقش، سرت رعشة باردة في ذراعه كاملة، كأن الجدار يتعرف عليه، يتذوق دمه عبر الجلد.
البيت ورثه قبل أسبوع عن جد لم يعرفه، رجل مات قبل ولادته بعقود. محمد بن يوسف، النقاش الذي اختفى ذات ليلة ووُجد ميتاً في هذه الغرفة بالذات، جسده عارٍ وعيناه مفتوحتان على سر لم يبُح به.
النقوش تشكل كلمات الآن. جملة واحدة واضحة بالأمازيغية:
– أنا محمد، وهذا وشمي الأخير.
سالم يتراجع خطوة. على إصبعه الذي لمس الجدار، خط أخضر رفيع يظهر. ليس جرحاً، بل وشم يتشكل تحت الجلد. يحاول مسحه لكنه يتمدد، يزحف على يده، يرسم كلمات:
ـ سالم بن يوسف بن محمد.
الذعر يتملكه. يركض نحو الباب لكن قدميه تثقلان فجأة. النقوش على الجدار تتوهج بقوة، وكأنها تستيقظ من سبات طويل. الغرفة كلها تنبض الآن، الجدران تتنفس، والأرضية تموج تحت قدميه.
يسقط على ركبتيه. الوشم يتسارع، يغطي ذراعيه بالكامل. لكن ليست مجرد زخارف. إنها ذكريات تُكتب على جلده طفولته، وجه أمه، أول يوم في المدرسة، كل لحظة عاشها تظهر كنقش أخضر. ومع كل ذكرى تُحفر على جسده، يشعر بها تتلاشى من عقله.يحاول الصراخ، لكن صوته يخرج نقوشاً على الجدار. كلمات خضراء تصف صرخته بدلاً من سماعها. الوشم يصل لصدره، بطنه، ساقيه. جسده كله يتحول للوحة حية.
ثم يحدث شيء أغرب. ذكريات ليست له تبدأ بالظهور. يرى نفسه لا، يرى جده شاباً يقف في نفس الغرفة، يمزج أصباغاً بدمه. يشعر بيأس الرجل، بقراره الأخير. جده اكتشف سر الوشم الأبدي، كيف يحفظ الإنسان نفسه كاملاً في الحجر. لكن الثمن كان باهظاً التحول من لحم ودم إلى ذاكرة جدارية محفوظة.
سالم يستوعب الآن. البيت ليس مجرد بيت. إنه جسد جده الحقيقي، والجدران جلده، والنقوش ذاكرته. وهو الآن يُضاف لهذا الأرشيف الحي، حلقة جديدة في سلسلة لم تنقطع.الليل يتعمق. جسد سالم مغطى بالكامل بالوشوم المتحركة. كل ذكرى، كل فكرة، كل حلم، محفور على جلده ثم ينتقل للجدار. يشعر بنفسه يذوب، يتحلل، يصبح جزءاً من شيء أكبر.
لكن في اللحظة الأخيرة، عندما يكاد وعيه يتلاشى تماماً، يحدث شيء غير متوقع. النقوش تتوقف. الوشوم على جسده تبدأ بالتراجع. الجدران تصدر صوتاً كالأنين.
صوت خافت يهمس من الجدران، صوت جده:
ـ واحد فقط… واحد من كل جيل… اختر.
الطقس يحتاج لضحية واحدة من كل جيل. سالم عيله الاختيار، إما هو أو… يتذكر ابن عمه، غانم، الذي سيأتي غداً لمساعدته في ترميم البيت.
الفجر يقترب، سالم يقف بصعوبة، جسده عارٍ والوشوم تتلاشى ببطء، تاركة آثاراً خافتة كالندوب القديمة. لكن ذكرياته لم تعد كاملة. هناك فجوات، أشياء مفقودة، كأن الجدران احتفظت بضريبة.
يلبس ثيابه بيد مرتجفة. عند الباب، يتوقف وينظر للجدران. النقوش هادئة الآن، لكنها تنتظر. تنتظر الضحية التالية.
في الصباح، يستقبل غانم بابتسامة متعبة. ابن عمه يدخل بحماس، يتحدث عن خطط الترميم، عن إعادة الحياة للبيت القديم. سالم يقوده للغرفة، يشير للجدار المغطى بالجير.
ـ ابدأ من هنا. يقول بصوت خافت.
غانم يأخذ الإزميل، نفس الإزميل، ويبدأ بالحفر. الجير يتساقط، والنقوش الخضراء تظهر، تتوهج بضوء جائع.
سالم يخرج من البيت، يغلق الباب خلفه. من الخارج، يسمع صوت الإزميل يتوقف فجأة، ثم صمت طويل، ثم صرخة مكتومة.
يمشي في الزقاق دون أن يلتفت. في جيبه، مفتاح البيت يبرد كالثلج. على معصمه، وشم صغير وحيد بقي من الليلة الماضية تاريخ اليوم وكلمة واحدة، “مُختار.”
بعد ساعات، عندما لا يخرج غانم ستأتي الشرطة. سيجدونه جالساً في وسط الغرفة، حياً لكن فارغاً، عيناه تحدقان في الجدران المغطاة بنقوش جديدة. سيقولون إنها صدمة عصبية، وسينقلونه للمستشفى حيث سيبقى صامتاً لأسابيع.
سالم سيزوره مرة واحدة. سيجلس بجانب سريره، يمسك يده الباردة، ويهمس:
ـ أنا آسف.
غانم لن يجيب، لكن إصبعه سيتحرك قليلاً، يرسم في الهواء حروفاً أمازيغية قديمة. سالم يفهم الرسالة:
ـ دورك سيأتي.
البيت سيُغلق مرة أخرى. لكن بعد جيل، وارث آخر سيحصل على المفاتيح. سيدخل بفضول، سيرى الجدران المغطاة بالجير، سيأخذ إزميلاً ويبدأ بالحفر. والدورة ستستمر.
في دفتر قديم مخبأ في قبو البيت، مكتوب بخط باهت: “العائلة ليست من نشترك معهم الدم، بل من نشترك معهم اللعنة. والهوية ليست ما نختار أن نكون، بل ما يختارنا لنكون.”
سالم يعيش الآن في مدينة أخرى. لا يتحدث عن البيت، عن تلك الليلة، عن الاختيار الذي اتخذه. لكن في الليالي الهادئة، عندما يغلق عينيه، يرى الجدران تنبض، النقوش تتحرك، وأصوات كل من سبقوه تهمس من الحجر:
ـ أنت منا، ونحن منك، والوشم لا يُمحى أبداً.
على معصمه، الوشم الصغير ما زال هناك. أحياناً يتوهج بضوء أخضر خافت، يؤلمه، يذكّره. وهو يعرف أنه مجرد تأجيل. يوماً ما، عندما لا يجد البيت ضحية من الجيل التالي، سيستدعيه. سيعود، طوعاً أو كرهاً، ليكمل ما بدأه جده.
الهوية، يفكر سالم وهو ينظر لانعكاسه في المرآة، ليست ما نحمله فحسب، بل ما يحملنا. وبعض الأحمال ثقيلة جداً لدرجة أنها تسحقنا، أو تحولنا لشيء آخر تماماً. شيء ليس بشراً ولا حجراً، بل ذاكرة حية محبوسة بين الاثنين.
البيت ينتظر. الجدران تحتفظ بكل شيء. ويوماً ما، سيعود وارث آخر، سينجذب للنقوش، سيلمس الجدار، وستبدأ الدورة من جديد. لأن بعض العائلات لا تورّث المال أو الأرض، بل تورّث نفسها، ذاكرة بعد ذاكرة، وشماً بعد وشم، حتى لا تضيع الهوية في زحمة النسيان.