أقل ما يمكن أن نقوله عن رواية ذاكرة النرجس هو أنها تجربة صعبة، وعالم يحتاج إلى الكثير من الشجاعة كي يلج إليه روائي في بداية الطريق. لكن الكاتب تحلى بالجرأة وتوغل بخطى ثابتة في عالم السود المنزوي في العتمة في ثقافتنا العربية. عالم مجهول الملامح ومقطوع اللسان. عالم محكوم عليه بالاقصاء وكتم الأنفاس مدى الحياة.
يصور الهاشمي في روايته الأولى، الصادرة عن دار روافد للنشر والتوزيع يناير 2018، كيف أن الحيف الممارس على الهوية السوداء يدفع بشخصياته التي تحمل أعباء الذاكرة الجريحة وأوزار التاريخ المر فوق رؤوسها إلى مسالك وعرة ومضطربة، إلى دروب البؤس والهشاشة، إلى أنفاق ظلامية لا نور فيها.
الحرة هي واحدة من أبطال الرواية. امرأة زنجية تعيش بمدينة الصويرة حياة هادئة تصل حد الملل، فجأة يدفعها السؤال القاهر عن الهوية والجذور والتاريخ إلى التخلي عن حياتها هاته وتمضي في مغامرة البحث عن المضني وتحاول كشف النقاب عن المستور.
مغامرة السفر إلى الجنوب قصد نفخ الغبار عن الماضي ولملمة الذاكرة المعطوبة لم تكن خطوة صائبة جداً، فرغم الجهد الجهيد والتعب الكبير لم تصل الحرة إلا إلى نتف من هنا وهناك لم تطفئ نار لهفة بلوغ الحقيقة، وتحقق تصالح أوكد مع الذات المغتربة في هذا الوجود، بل أيقظت أسئلة موجعة وتركتها معلقة دون أجوبة.
العبدي، البطل الثاني في الرواية، لم يكن أقل بؤسا من الحرة. فهو يعيش تجربة غربة متعاظمة، وأزمة هوية حقيقية. هو نفسه لم يعرف كيف هرب من ذلك الجنوب المهمش، وألفى نفسه ابناً بالتبني لامرأة مسيحية تعيش في المدينة. اطمئنان العبدي لهذا الحضن الدافئ وارتياحه لهذه الحياة الجديدة جعله يشيد أحلامه وطموحاته، لكن الموت الذي انتزع الأم مدام ماري يقلب حياته رأساً على عقب، ويضعه من جديد وجهاً لوجه مع وابل من الأسئلة المحرقة.
يبقى الهاشمي المزداد عام 1993 بطل روايته، التي تمكنت من اختراق حجب البداية خالقة لنفسها حيزاً لا بأس به من النقاش الثقافي والاعلامي، في واقع أنهكته الصراعات والاختلالات، فبحكم التكوين الأكاديمي الذي تلقاه بجامعة مولاي اسماعيل، وتأثره بالأفكار الإنسانية والنبيلة التي بلورها أمين معلوف، وعبد الكبير الخطيبي، وفرانز فانون وآخرون، يقدم الهاشمي نفسه ككاتب عربي يدافع عن انتمائه الإفريقي وعن هؤلاء السود الذين يتقاسم معهم هم الأرض والوطن.
إنه لمن باب المجازفة أن نصنف رواية ذاكرة النرجس في خانة الرواية الافريقية، أو حتى جعلها مجاورة لحركة ما يعرف بفكرة الزنوجة التي تناوبت على تقعيدها أجيال من الإنتلجنسيا السوداء، ما دام، من جهة، لكل مفهوم من هذه المفاهيم خصائصه ومميزاته، وقراءتنا المتأنية للرواية، من جهة أخرى، لا يبسر تسويغ تفكير من هذا القبيل، لكن ما يمكن التأشير عليه فعلا هو أن النص يصب في صلب القضية الزنجية بالبلاد العربية، ومن هنا جاز لنا التفكير، بنوع من التبصر والحيطة في الوقت نفسه، في هدا الأدب العربي الزنجي.
…………….
*أستاذ باحث في النقد العربي الحديث.