ذاكرة المقموعين

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فريد أبو سعدة

"اسحب ذيلا قصيرا، فقد تجد في نهايته فيلاً" !! 

فيلليني

يفتتح وحيد الطويلة متاهة الكوابيس بعبارة “هذا ما حدث بالضبط

وتنتهي بعبارة “على الأرجح هذا ما حدث” !!

يبدأ من ما يعتقد انه حقيقة وان كانت مؤلمة وينتهي إلى شبكة عنكبوتيه من الحقائق الموجعة تتوازى وتتقاطع ، تقب وتغطس في بئر الذاكرة

حذاء فيلليني” لوحيد الطويلة، رواية عن القمع والتعذيب والاختفاء القسرى ،وتختار لإظهار هذا الرعب حكاية “مطاع”، المعالج النفسي، الذي تعرض للتعذيب في المعتقل ، دون تهمة أو جريمة ، يبدأا لحدث الروائي بلحظة دخول زوجة الضابط (المتخصص في التعذيب) عيادة “مطاع” المعالج النفسي ، وبينما يستمع إلى حكايتها البشعة معه، ويسمع صوته ، صوته الذى تدرب طويلا على تمييزه ، فيكتشف أنه هو ، الضابط الذي عذّبه قبل عشر سنوات، ويبدأ في استرجاع لحظات التعذيب القاسية الأليمة ،ها هو فجأة ، وجها لوجه مع جلاده ، وها هي تخبره أنه كان يعذبها طوال فترة زواجهما ، بل وتحرضه على تعذيبه لكي تنتقم مما فعله بها.

يجد مطاع نفسه أمام فرصة للانتقام من الوحش ، الذي دمره جسديا ونفسيا ، وجعله يقضي بقية حياته في ملاحقة الكوابيس، لكن صوتا آخر داخله يدفعه إلى المسامحة ، كي لا يتحول إلى وحش مثله.!

يسحب وحيد الطويلة الذيل القصير شيئا فشيئا عبر 13 فقرة سردية ومشهد أخير، ليخرج لنا الفيل أو الكابوس الأكبر !

يجرى السارد العليم حواراته مع الشخصيات ليحكم الإطار اللازم للرواية ، لكنه في كرم زائد يمارس الشروح المسرحية فقط في كثير من الفقرات ، تاركا لشخصياته الوقت الكافي لعمل مونودراما رائعة ، تعرض فيه كل شخصية مأساتها ، وتبرر أفعالها أو تفسرها في أحسن الأحوال ،

فعل هذا : مع الضابط ، ومع زوجته، ومع الجارة ، ومع مأمون ، ومع فلليني

وهو يتماهى مع كل الشخصيات عبر ألاعيب السرد ” أعرف أنني ألعب بالضمائر ، وأتحدث بكل ضمائر المخاطب والغائب ، لأنني أوقن وأبصم أن تعذيب واحد يعني أننا عُذبنا جميعا ، وأن تغيير الضمائر إنما يشير إلى أننا صوت واحد

هكذا يمكن فهم الإهداء

إلى الذين صرخوا ولم يسمعهم أحد

إلى الذين لم يستطيعوا أن يصرخوا

وهو يستخدم المونتاج في تقطّيع السرد ، كما يفعل المونتير، جاعلاً من الزمن أزمنة ، ومن المكان أمكنة، ليعطي للتعذيب ديمومة ، وللدكتاتورية اقانيم معتبرة ، ولا ينسى أن ينثر أمامنا أسماء في رحلتنا الكابوسية ، كعلامات في الطريق : ستالين ، ماو ، صدام حسين ، القذافي ، الخ

تقول الزوجة

لم يشبع يوماً، لا من الرجال ولا من النساء، لم يشف غليله، لا يعرف دوراً غيره، رفض وظيفة المحافظ ووسَّط كل من يعرفهم ليبقى في موقعه، قالوا إنه مجنون بحب الوطن ولا يحب الأضواء، يعشق رائحة الدم، الوجوه المكلومة، المرعوبة، الأرواح المكسورة، الأنوف النازفة كرامتها، الانسحاق، التذلل، صعقة الكهرباء، المطارق، كماشة نزع الأظافر وكماشة نزع الروح، ثم بعد ذلك اليقين بأنه المنقذ لها من الضلال والزندقة.أنا لا أريد قتله، وإلا لما أتيت به إلى هنا، كان من الممكن أن أضع مسدسه بيده ليقتل نفسه، أنا أريد أن أتفرج عليه كقرد في قفص، أرخي له فيغني ، وأزجره فيرقص ويعرض مؤخرته

بينما يقول ضابط التعذيب في منولوجه

تقولون عني إنني جلاد، تتفوه بها أيها المعالج من بين أسنانك وتجز عليها، أراها تسكن عينيك بالشرر، تستولي عليك من غير أن تنطق بها، بخسَّة تقولها زوجتي التي منحتها شرف اسمي منذ البداية، كان يمكن أن آخذها قسراً ولو كانت في حضن أي رجل ثم أرميها في أي وقت.أنتما وغيركما لا تعرفون ما فعلته من أجلكم، لكنني لا أعير أمثالكم أدنى اهتمام، أنا فعلت ما فعلت من أجل الملايين الأخرى، من أجل أن تسعد كل عين وتنام هانئة، عيني هي عين من بات يحرس في سبيل الله، ضحيت بسعادتي في سبيل الوطن وأبنائه، حاولت أن أحميكم من أنفسكم ومن الآخرين….

من أنت يا مطيع، حشرة على جدار كبير بنيناه نحن، تأخذ من تعبنا لراحتك، تعرف النساء وتسرح معهن على حِسَّنا، بمعرفتنا وبإرادتنا، تأكل وتشرب وتنام وتحلم، ولو جاءك كابوس فأنت المخطئ، نحن لا نرسل الكوابيس إلا إلى المخطئين.

لقد أفنيت عمري كله في خدمة هذا الوطن، نذرت كل وقتي لأبنائه، أسعدت خمسة وعشرين مليوناً، ضحيت براحتي وراحة بيتي من أجلهم ..

ماذا تريد يا مطيع ، أنت الآن مطيع اسما ومعنى ، نحن من اخترعنا الروبوتات قبل أن يخترعها اليابانيون ، هم يصنعونها من الجماد ونحن نتفوق عليهم بصنعها من بشر، من لحم ودم ، هم يحركونها من بعيد بريموت ونحن وضعنا الريموت نفسه داخلك

ويقول مأمون

أجلسونا في الأعراف مثلك ، بروفة مكتملة لجهنم ، لم يعترف احد على أحد ، لم يصدقونا لكنهم في النهاية لجئوا إلى لعبتهم المعروفة ، جندونا جميعا كعملاء بعد خروجنا ، لكنني رددت الصاع صاعين ، ما من شخص طلبوا منى معرفة معلومة عنها إلا واتيت بعكسها ، ما من شخص طاردوه إلا وحذرته.. ، جلادك كان يشك بزوجته ، كانت تذهب من ورائه إلى معالج نفسي ، في نفس شارعك ، وفي نفس بنايتك هل هناك احد غيرك؟

: نعم هناك خمسة في هذا الشارع وواحد آخر في نفس البناية

أرسل وراءها مأمون ، كلنا اسمه الحركي مأمون ، كلنا مآمين يا دكتور!! ، ربما مأمون الذي وقع في قرعتك كان مثلي ، وبدل أن يعطي اسم المعالج الذي تذهب إليه المرأة أعطى اسما آخر كي يضلله !”

خطأ تافه وغير مقصود وربما بنية طيبة ، كان هو الذيل القصير الذي أغرى الراوي بسحبه .

يفتح لنا وحيد بئر الذاكرة المقموعة ولا يرحمنا ، يلقي بنا في دواماتها القاسية ، لنرى مخاوفنا وتلاحقنا الكوابيس ، ونرى كم نحن جلادون وضحايا ، وان السلطة لا تتناسل من نفسها ، إنها تختار عملائها وأدواتها من طبقة المقموعين !وبهم تمارس القمع في دائرة جهنمية !!

يمكننا أن نقتطف من سرد وحيد الطويلة فقرات كأنها قصائد نثر، ورغم ايروتيكيته الفائحة إلا أنه يقدمها للقارئ ملطفة بالمجاز !

عد لجارتك التي تداويك دون أن تحاسبك ، إنها لا تفكر في أصابعك التي داوتها يوما ، بل تفكر معك بأصابعها ، عندما تهل عليها تبدأ في تشغيل اوركسترا الحواس ، لا توفر آلة ، اللمس الخفيف ، اللمس ، أن تتكور في حضنك كقطة ، تكلم كل عضلة فيك ، وتكلم كل عظمة في إصبع ، كي ينتفض إصبعك لتشفى ، كي يصحو العازف فيك ويشهر آلته، هي لا تفكر في نفسها ، هي تفكر بك ، أن تستعيد نفسك لتستعيدها !، أحيانا تلبس ملابس واسعة كأنها ستخبئك فيها !!

هناك أيضا نزعة التهكم المصري الحاذق والحارق معا كأن يقول الضابط “هل تعتقد أننا نحلق شعر المساجين على الزيرو للتسلية أو الاستهزاء ؟ ، نحن نسلم الزبون تسليم مفتاح لأهله أو للملائكة “!!

أو يقول على لسان الضابط ” اكتب مرة سابعة وثامنة يا جرذ ، النملة التي تمشى أمامك على الحائط حكت حكايتها سبع مرات ، لم تخطيء في روايتها مرة واحدة ، لم تغير مثلك في تتابع الحكايات ، روت كل ما حدث منذ مولدها سبع مرات ، متشابهه كل مرة وبنفس الترتيب

وللسخرية والتهكم دور بارز في تكثيف الدلالة وتسويغها للذهن العام

ومتاهة الهلاوس التي تدور بمطاع ، وتتكرر فيها بعض العبارات ، وتستغرق ما يقرب من نصف الرواية ،هي كلها استعارة كبرى لمخيلة الخاضع للتعذيب المؤرق بالكوابيس ، وهى لا تنتهي إلا بفانتازيا ملهمة من فيلليني !!

الرواية رعب يلتصق بالذاكرة ، لكن سرد وحيد الشاعري ، والتهكمي ، والحس الايروتيكى البديع ، بل وإشراكه القارئ في ما يقص كان معينا على مواصلة القراءة في جلسة واحدة ، يا الهي كيف يمكن للألم والرعب أن يكون ممتعا !!

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم