تايس جاماثا
ترجمة: أحمد عويضة
العمل الإبداعي ليس مجزيًا، خاصة عندما يكون مقررًا له ألا يكون كذلك. لهذا السبب أخفي يومياتي جيدًا حتى يتعين على سكوت أن يسعى بجهدٍ على الأقل ليجد شخصياتي. هم ينتظرونني، محميون منه، في الرسائل التي أحتفظ بها في أدراج الكومودينو.
تعارفنا أنا وزوجي إثر غمزة عين.. الملازم فيتزجيرالد، لطيفًا يسكب وعود الحب. بعد سنوات أدركت أن عينيه لا تريان إلا داخله فقط، لكنّي كنتُ في حاجة للشعور بأن بؤبؤي عينيه هما السبب في سرعة الخفقان داخل صدري وذلك الخدر البسيط الذي جعل رأسي تتحرك في دوائر بينما تبدو ثابتةً للآخرين. جلسنا فوق سقف سيارة أجرة بجسدين يقطران الكحول بينما نستمتع بالنظرات المتمعنة للناس الذين يمرون بجوار السيارة مظهرين حسدهم القح. تلك هي اللحظة التي لخصت كل حياتنا في نيويورك بإخلاص.
ستة وثمانون يومًا من الاحتجاز
أهرب – وأنا في الغرفة- مستعيدة لحظات الحرية البراقة التي عشتها إلى جواره دون الالتزام بتسلسل زمني. كل ذلك خداع.. بالنظر إلى أنني لا أستطيع أن أفعل شيئًا سوى الشرب في الفراش وأنا أفكر في مكانٍ أخفي فيه كتاباتي كي لا يسرقها. أتخيل في مذكراتي رجل طويل القامة يرتدي حلّة وابتسامةٍ محتالة، أتمكن من رؤيته تقريبًا وأنا أكتبه وللحظة أظن أنني فقدت عقلي. أخترع له ماضٍ متواضع تمكن من تحويله ببراعةٍ إلى حياة ناجحة. لا أشعر بالذنب من مغامرتي تلك، أقنع نفسي بأنني أحاول تعويض الغيابات، وأرسم وسط الجدران التي تحتجزني بدون أبواب لقاءنا الأول في محطة القطار. أمسك جاتسبي بيدي فسرى النمل في جسدي، وقعنا في الحب بين الأسطر المتراصة في الأوراق. في بعض الليالي كنت أصرخ منادية باسمه، لكنه يظل يتلاشى.
مائة وسبعة وستون يومًا من الاحتجاز
شبه شفافٍ هو حضور جاتسبي العظيم في غرفة نومي، يأتي ويتبخر بينما سكوت – مثلي تمامًا- يحاول حبسه داخل الفقرات. احتفظت به مخفيًا قدر ما أمكنني من وقت، لكن عندما يكون خيال زوجي شحيحًا فإنه يرفض مواجهة الأوراق الفارغة وبدلًا من ذلك ينبش في يومياتي. يتذبذب جاتسبي ويعبر الجدران قبل أن أستطيع الإمساك به، يغضب سكوت لأنه لم يجد أوراقي في درج الكومودينو، يضرب ويركل بقدميه ويحمّلني ذنب الاستحواذ على بطل روايته. أبذل جهدي لإخفاء المليونير خلف الستائر الداكنة لغرفتي، يصبح حليفي ونخطط للهرب سويًا.
الهواء الرطب المكتوم وارتجاع بعض الكحول في حلقي يجعلاني أشعر بالغثيان، أطرق بابًا لم يهتز حتى تحت وطأة ضرباتي، لا أحد يسمعني. يسري فيّ الخدر حتى عظامي من الحبس. بدت لي حافة الكومودينو الخشبي المطلية بالورنيش كعارضة خشبية، أستعدت سنوات برائتي وأمسكت بها وأنا أصعد وأهبط في حركات بيليس وباس كورو[1]. وبينما أرقص أُقرِر أن رفيقي سيكون رومانسيًا، عندئذ ظهر جاتسبي من وراء الستار حاملًا قدرات جديدة وشرع في مراقبتي. تمكن أخيرًا من النظر إلي دون أن يتبدد.. لم يُغادر في تلك الليلة. أتخيله، أكتب عنه بينما أبتكر حياة نعيشها سويًا في الثلاثة أقدامٍ التي أشغلها من السرير الإنفرادي الذي أقضي فيه جلّ يومي. أهديت إلى جاتسبي شخصيةً.. ليس عليه أن يختفي بعد الآن، أنا وحدي من يقدر على رؤيته في الوقت الحالي.
مائتان وثلاثة وأربعون يومًا من الاحتجاز
سمعني سكوت أتحدث إلى نفسي، فقرر أن يكون كريمًا وفتح الباب كي أتمكن من العبور أنا وشخصيتي التي ابتكرت. أعدّ لي إفطارًا شهيًا كنوعٍ من المصالحة القسرية. قال إنه ينتظرني في المطبخ حتى أفهم أنه يمكنني مغادرة غرفة النوم. وحينما خرجت ووقفت أمام باب المنزل لاستنشاق بعض الهواء بحث هو عن جاتسبي الذي لم يعد قادرًا على التلاشي، فلم يعد لديه أي خيارٍ سوى الاستسلام لقلمه. احتفظ به سكوت في درج مكتبه الممتلئ بالأفكار المستعملة المتجعدة وهو يفرك كفيه مبتسمًا ابتسامةٍ جشعة. لقد وجد أخيرًا بطل روايته الجديدة.
أُطلِق سراحي مؤخرًا، تجولت في المنزل كأنني أستكشف أرضًا غير مأهولة. أتأمل بلاط الأرضية ذو النقوش التي تُشبه أهداب مفرش المائدة المتطايرة بفعل تيار الهواء الذي يتسلل دون إذنٍ عبر شقوق النوافذ.
سرعان ما انتبهت إلى أنني لم أر جاتسبي منذ عدة ساعات، شقّ الشعور بالذنب فرحتي وطفقت أبحث عنه في أركان المنزل حيث تخيلت أنه يمكن أن يختبئ. لم أجده خلف الستائر، تحت السرير، ولا حتى في درج الكومودينو. ساعاتٍ من التفتيش المتمعن جعلتني أظن أنه قد احتُجِز في حلمي، وكمحاولة يائسةٍ لشخصٍ خاسر أتناول جرعة زائدة من الحبوب المنومة لأسافر للقاء من أحب.
…………………….
نُشِرت في موقع زندا في أكتوبر 2022
[1] حركات من رقص الباليه الكلاسيكي