حسني حسن
لم يستطع، أبداً، فهم لماذا يكرهونه كل هذه الكراهية المميتة. لسنواتٍ عديدة، بات يراجع، كل ليلة، أفعاله، منقباً فيها عن أدنى نأمة، أو إشارة، قد تنير له طريق حل ذلك اللغز العويص. كان يدرك غرابة البشر، لا معقوليتهم، بل وتناقضهم الصميمي، التراجيدي والشاذ، وبرغم ذلك فقد بدا له أن مواقفهم، المفرطة في العدائية إزاءه، تستعصي على التفسير، بله القبول، على أية حال. في بداية الأمر، أحزنته تلك العداوة كثيراً، وآلمت مشاعره الذئبية، بشدة، حتى أنه شرع يفكر بالرد. ولأنه كان شاباً لا يزال، فقد ارتأى أن يكون الرد مساوياً للفعل في القوة والنزق، إن لم يكن أكبر وأفدح. وهكذا، عاهد نفسه على هجرة واديهم، مرة واحدة ونهائية، والضرب، وحيداً، في البطاح والبراري، وعلى النزول إليهم، فقط بالليل، بين الحين والآخر، خلسة وغدراً، لاقتناص ما يمكن أن تطاله مخالبه، وتفترسه أنيابه، من قطعان أغناهم وماشيتهم في مراعيها، الخصبة السهبية، أو حتى بمراقدها وحظائرها الخشبية الدافئة. ولأنه كان ذئباً حاقداً ممروراً، فقد وطن نفسه على المضي بتحديه، العصبي المنفلت، إلى حدوده القصوى، ونهاياته، الحزينة الطبيعية، مهما كلفه الأمر.
عاماً بعد آخر، غدا الذئب الحاقد، وغزواته الليلية القاتلة، صداعاً مزمناً في رؤوس ساكنة الوادي، شبحاً مفزعاً يؤرق لياليهم، وحساب خسائر ثقيلاً يبهظ نهاراتهم وأيامهم. كانوا قد اصطنعوا كل ما يقدرون على اصطناعه، من وسائل وأدوات التأمين والحراسة، لأنفسهم وأطفالهم وذويهم وقطعانهم، فربوا كلاب الحراسة والصيد الضخمة الشرسة، وابتنوا الأسوار العالية يحيطون بها جنبات الوادي، ونصبوا الكمائن والفخاخ في كل مكان، بل واستأجروا بعض صيادي الوحوش وحراس الأحراش حاملي البنادق، الطويلة الثقيلة، إلا أن شيئاً من ذلك كله لم يفلح بإيقاف تلك الغارات، الليلية المرعبة، التي صارت، بمرور الزمان، قدراً مميتاً لا فكاك منه، أو رعباً اعتيادياً أصبح من الضروي التعايش معه ومحاولة نسيانه.
عندما عبر البوذا الوادي، ذات شتاء بارد، في طريقه لارتقاء جبل الصعود المقدس، هاله ما رأى من أسوار وتحصينات، سامقة منيعة، كانت تلتف حول خاصرة الوادي بأكملها. سأل بإشفاق:
– من يحاصركم؟
رووا له حكايتهم مع الذئب الحقود. حسبوا أنهم قد قصوا عليه كافة تفاصيل الصراع الدامي، الذي يخوضون معه، من دون أن يهملوا أو يتناسوا شيئاً. ظل البوذا ينصت إليهم صامتاً. كان مسبل الجفنين، مفتوح الأذنين، مشرع الروح للنظر في علتهم وأنينهم. ولأنه البوذا، فقد كان اشفاقه عليهم كبيراً وتجريدياً، في آن. فتح عينيه ببطء، ثم سأل:
– هذا كل شئ؟
هزوا له رؤوسهم بالإيجاب، فراح يحدق في عيونهم لدقائق من غير أن يجرؤوا على اجتراح ستار الصمت الكثيف. همس أخيراَ:
– سنرى، لكن قبل كل شئ لابد وأن أسمع منه أيضاً.
– تسمع مِن مَن؟
سألوا وقد استولت عليهم الدهشة.
– من يضرب عليكم الحصار، ويسجنكم وراء أسوار رعبكم.
دعاهم إلى تركه بالخلاء، وحده، خلال الليل، محذراً إياهم من محاولات الاقتراب منه، أو التلصص عليه.
مضى الشطر الأول من الليلة هادئاً، واستغله البوذا في الاستغراق بالتأمل. لم يكن يستعجل اللقاء معه، ولاح له أنها ذات الاستراتيجية التي يتبعها الذئب تجاهه. بطريقة أو بأخرى، كان المستنير يعرف أن الوحش الذي يسجن ناس الوادي مسجون، هو أيضاً، بين قضبان خوفه، هلعه، وكراهيته لأولئك المساجين، فآثر ألا يهدم الأسوار كلها، مرة واحدة، وألا يبقي عليها، كذلك، إلى ما لا نهاية، مقرراً التحلي بفضيلتي الانتظار والتخلي؛ الانتظار حتى يفعل الزمن فعله، السري الصامت لكن الدءوب، والتخلي عن الأمل في نجاح هذا الزمن، بالخصوص، بإنجاز عمله المرتجى.
استسلم جوتاما لشهوة التأمل حتى ما بعد منتصف الليل. وربما كان مما يدعو للسخرية، أن البوذا الذي أقام صرح استنارته، الخالد المقدس، على قواعد نقض الشهوات والتحرر منها، قد أخفق في الخلاص من شهوته الأثيرة، بالخلود إلى التأمل، والاستغراق فيه. لكن على الرغم من ذلك، كان المستنير يحدس، وإن بشكل غامض، أن ثمة من يقف هناك، ويرقبه من بعيد، متحيناً اللحظة المناسبة للوثوب والانقضاض. وفي الظلمة الحالكة للشطر الأخير من الليلة، أبصر، بعينيه المغمضتين على اتساعهما، تلك العينين، الحمراوين المتوامضتين، ذلك البوز، المسحوب الممدود، بفكيه، القويين الضاريين، والأنياب، المشحوذة المشهرة، تلك القوائم، الرشيقة المنتصبة، وذاك الجسد، صارم الخطوط، نافر العضلات، والمتوفز.
– لا تُطل انتظارك هناك، وتعال لنتكلم.
بادر البوذا ضيفه بنبرة هادئة، وحاسمة معاً، لم يجد معها الذئب سبيلاً سوى الامتثال. تقدم نحو هيكل المستنير الضامر بخطوات ثقيلة، لكن واجفة، متسائلاً عن كنه ذلك السلطان الذي ألقاه صاحب هذا الصوت المكتوم فوق وحشيته وألزمها الطاعة.
– لقد روعت الوادي، وأرهبت ناسه، هذا ليس مقبولاً.
– رفضوني فأرهبتهم، وطردوني فحبستهم خلف أسوار خوفهم.
– هلا أخبرتني عن علة رفضهم لك؟
– بطبيعة الحال لأنني ذئب. يريدون أن أصير كلباً، أحرس قطعانهم من أخوتي الذئاب، ألاعب صغارهم، وأقنع بالعظمة التي يقدمون لي بكرم مزيف.
– والآن؟
صاح فيه البوذا كما لو أنه قد بدأ يفقد صبره، الأمر الذي أربك الذئب قليلاً، قبل أن يستعيد رباط جأشه ويسأل بشئ من التهكم والسخرية:
– لا أعرف ما الذي يريده البوذا الآن، هل يعرف البوذا؟
أغرب جوتاما في صمت طويل طويل، ثقيل ثقيل. كان قد أغمض عينيه، مجدداً، وأوقف تنفسه حتى بدا وكأنه قطعة حجر تنتصب بقلب ليل بهيم في حياض وادٍ موهوب للغضب المتبادل، لسوء الفهم، للاحتقار وللانتقام، للحبوس والهلع والجدران، لقردة تتعالى على الذئاب، ولذئاب تحتقر القردة وترفض مصير الكلاب.
حين فتح عينيه ثانية، كانت تباشير الفجر قد أهلت، وكان الذئب قد ذهب، هو الآخر، بذهاب الليل. ارتسمت فوق شفتي البوذا، المشققتين الرقيقتين، ابتسامة صغيرة راضية ومكتفية. كان البوذا يعرف الآن أنه لا يريد ما هو أكثر من ألا يريد، وأن تلك المعرفة، على وجه الخصوص، هي ما كانت تعرفه، بغريزتها، الذئاب في صراعها الدامي مع القردة والكلاب، أو هي ما لم يكن يعرفه البوذا في أوج استنارته.