د. نعيمة عبد الجواد
ظهرت الآلهة الإغريقية كرموز لجوانب حياة الإنسان على ظهر الأرض، وطبيعة ووظيفة كل واحد منها مثيرة للجدل. وبالوقوف على طبيعة وسيرة إله العبث والمجون “ديونيسوس”، تدور تساؤلات عدَّة عن فائدته وميزته التي تجعله يثير شعورًا دينيًا ووجدانيًا كسائر الآلهة. “ديونيسوس” إله الخمر يحمل العديد من الألقاب، مثل: “المزهر” و”المثمر” و”اليانع” و”المورق”، وهي ألقاب تشير إلى ازدهاره في فصل الربيع حينما يوقظ الأرض بعد سبات طويل في الشتاء، فيتسرب الدفء لها، ويبعث فيها قوة وحركة، ويحيل الطبيعة لهالة من الفرح والاحتفالات. وبما أنه إله الكروم ومخترع النبيذ، فلقد وجد لنفسه في نفوس البشر مكانة مميزة؛ لأن اختراعه يخلِّص البشر من الآلام والهموم، ويفتح بابًا من النشوة والسعادة. لذا، خلع البشر عليه أيضًا لقب “المخلِّص من كل الهموم”، وقدَّسوه بعد أن وضعوه في مرتبة أكبر قوى الخير.
وتبعًا للميثولوجيا الإغريقية، فإنه بفضل اختراع للخمر، أُزجيت قريحة البشر، فنظموا الشعر، وبُعثت فيهم الرغبة في الرقص والغناء، فأصبح “ديونيسيوس” راعيًا للموسيقى والشعر، واكتسب لقبًا جديدًا وهو “المغنِّي”. وأقيمت من أجله احتفالات صاخبة، كان تدفُّق الإلهام في الشعر والفنون هو علامتها المميزة. ومن ثمَّ، امتازت الأشعار التي تمجِّده وتقام تحت رعايته بالإنتقال بين حالات متباينة من المرح والنشوة، والألم والمعاناة والقسوة، وصولًا إلى حالة من المجون الصاخب. فأصبح رمزًا للحريَّة والتنويع، والخروج عن القيود الصارمة.
وكان الاحتفاء بالأنشودة “الديونيسيوسية” عظيمًا خلال الطقوس الدينية. وتبعًا للأسطورة الإغريقية، فلقد تواصل “ديونيسيوس” بالمسار الدنيوي بواسطة الصياد الجبار “أوريون” Orion الذي وضعه الإله “زيوس” بين كوكبة من النجوم. وفي القرن السادس قبل الميلاد، الممثل والمغنِّي والكاتب المسرحي الإغريقي “ثسبيس” Thespis، والذي كان له الفضل الأعظم في ابتكار وتطوير المسرح المعاصر، عمد إلى تحويل تلك النصوص الدينية إلى عروض مسرحية. وبدأ اهتمامه بالتراجيديا والمسرح حينما كان مغنيا لتراتيل “الديثيرامب” Dithyramb وهي أناشيد الطقوس الدينية التي تمجِّد الإله “ديونيسوس” ويصاحبها رقصات وشخوص. وعلى إثر هذا، حوَّل الطقوس الدينية الإغريقية إلى عروض مسرحية دنيوية بابتكاره مسرح التراجيديا المكتوب شعرًا.
ثم طوَّر الشاعر “اسخيبيلوس” Aeschylus المسرح التراجيدي حتى صار في قالبه المعاصر. ثمَّ، توالى ظهور عظام كتَّاب التراجيديا اليونانية؛ وهم: سوفوكليس Sophocles ويوريبيديس Euripides وأرستوفانيس Aristophanes، والذي خلَّد التاريخ أعمالهم ولا تزال تيماتها وحبكاتها مستخدمة،. ومن المثير للدهشة أنهم لم يكتبوا النصوص التراجيدية نثرًا، بل آثروا القالب الشعري؛ وهذا لرغبة منهم أن يُضفى على مسرحياتهم قداسة ورفعة مثل النصوص الدينية، وحتى تصير فنًّا ومزارًا يحتفي به اللاحقين، تمامًا كالفنون الجميلة الأخرى؛ مثل النحت والرسم والعمارة والرقص. وبالفعل كُلِّلت جهودهم بالنجاح، وامتد تأثيرهم ليس فقط لأزهى عصور كتَّاب التراجيديا الخالدين، أمثال شكسبير وكريستوفر مارلو وفيكتور هوجو وفريدريك شيللر، بل إلى العصر الحالي أيضًا، والذي تمخَّض في قالب “المسرح الشعري” كما يُعرف الآن.
والشعر في المسرح التراجيدي ركنًا أساسيًا؛ لأنه ينقل المتلقِّي إلى ما تشابه الحالة الشعرية، التي أساسها النشوة؛ لما تبعثه في النفس من تقلُّب بين حالات شعورية وحسيّة متباينة من فرح وحزن ومرح وغضب وألم، تمامًا كتأثير الخمر على شاربه، ومثلما كان أثره على منشدي التراتيل الديونيسيسية الذي يشربون الخمر ويرقصون. ومن ثمَّ، ارتقت الدراما الشعرية إلى حالة فلسفية “النشوة” أساسها والمكوِّن الرئيسي لفهمها. وصار ارتياد المسرح يضاهي الولوج إلى “عالم خرافي رائع”، كما يؤكِّد الكاتب العبثي الفرنسي “يوجين يونيسكو” Eugene Ionesco، والذي وصف المسرح بأنه تقمُّصًا لعالم من الأحلام والخيالات، فتصبح تجربة الدخول للمسرح هي حالة تتلاشى فيها حدود الزمان والمكان، ويتحوَّل تركيز المتلقِّي إلى الشخصيات ومجريات الأحداث.
ولقد تفوَّق المسرح الشعري على النصوص المسرحية التي تكتب نثرًا؛ لأن الأشخاص والأحداث ليست نتاجًا لحالة درامية سردية، بل تدغدغ إحساس المتلقِّي عند تفسير الأشعار التي تَطْرب لها النفوس. ولقد وعى روَّاد كتاب التراجيديا اليونانية الأوائل لهذا الأمر. ومن ثمَّ، عندما شرح “أرسطو” العناصر الأساسية للتراجيديا، شدد على أن الغناء والوزن الشعري أو الإيقاع من أركان الكتابة المسرحية، تمامًا مثل الحبكة والأشخاص وباقي العناصر الأخرى؛ وهذا لأن الغناء والوزن والإيقاع هم الرابط بين النص المسرحي كعمل لغوي وكقيمة فنِّية تقدِّم عرضًا مرئيًا ومسموعًا.
وبتعاقب الحقب التاريخية، استمرت كتابة الأعمال المسرحية في قالب شعري، بداية من العصر الكلاسيكي وصولًا للعصر الكلاسيكي الجديد، ومن روًّاد الكتابة المسرحية في تلك الفترة جون راسين Jean Racine وجون موليير Jean Moliére وبيير كورني Piérre Corneille وجون درايدن John Dryden وريتشارد ستيل Richard Steele. واستمرت كتابة النصوص المسرحية شعرًا أيضًا خلال الحقبة الرومانسية.
ومع إتِّخاذ الواقعية مناهجًا ومنحى دراميًا، كان لابد من التخلِّي عن القالب الشعري في الأعمال المسرحية؛ لأن تصوير الواقع ومآسيه، استلزم التخلِّي عن الشعر في النص المسرحي حتى يصير أقرب للحياة الواقعية ومفرداتها. أضف إلى ذلك، الشخصيات الدرامية المقتبسة من الواقع أسلوبها في الحوار نثري. لقد عمد كتَّاب الواقعية إلى صدمة المتلقِّي بمشاهد مُستمدَّة من الواقع تدورعلى خشبة المسرح؛ حتى يسْهُل على المشاهد يتماهى مع شخصيات تشبهه أو تشبه أشخاص يعرفهم أو سمع عنهم في الواقع. ومن أهم الأعمال الصادمة في تلك الحقبة كانت نصوص أنتون تشيكوف Anton Chekhov ودوما فيس Dumas Fils وجورج برنارد شو George Bernard Shaw.
ولقد هيمنت الواقعية على الساحة الفنِّية لأكثر من ثلاثين عامًا إلى أن ظهر الكتَّاب الرمزيون الذين اتهموا الواقعيون بأنهم لا يبحثون إلَّا عن القبيح ويناهضون كل ما هو مثالي ونموذجي لتركيزهم على مظاهر خارجية دون الغوص في النفس البشرية التي تحتاج لاشباع رغباتها بالجمال حتى تصل لحالة من النشوة، تمامًا كمان كان الوضع في الطقوس الديونيسيسة. بل، وتطرَّق الأمر لأبعد من هذا عندما حاول بعضًا من كبار الكتَّاب إحياء المسرحية الشعرية؛ ومنهم: تي إس إليوت T.S. Eliot وكريستوفر فراي Christopher Fry.
ولا يعني اختفاء القالب الشعري للنصوص المسرحية في الوقت الحالي أن المسرحية الشعرية أصبحت لا تطرب السامع وأهمل الكتَّاب قالبها، فالعقبة الأساسية التي تواجه تلك النصوص هو الترويج لها. ومن ثمَّ، يمكن اعتبار أن رغبة الإنسان في الوصول لحالة من النشوة والإمتاع هي ما تدفعه للعودة للمسرح الشعري أو حتى الاستماع للأشعار الدرامية التي تتناول مآسي الحياة اليومية، فتخاطب الشعور، مثلما كان يفعل “ديونيسوس”.