درس العربية وآدابها فى جامعتى لندن وكامبريدج، قبل أن يعمل فى القسم العربى بإذاعة الـ «بى بى سى» من 1940 إلى 1945، ثم عاد إلى مصر عشقه القديم مع نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث قام بالتدريس فى جامعة القاهرة. فى تلك الفترة التقى «دينيس» أعلام الأدب العربى فى مصر كـتوفيق الحكيم، ويحيى حقى، ويوسف إدريس، ونجيب محفوظ، وغيرهم، وبدأ رحلة عطاءٍ لا تزال مستمرة للآن.
هنا لقاء مع شيخ المترجمين «دينيس جونسون ديفيز» فى محاولة للتعرف على ملامح هذه الرحلة، مصاعبها، ولذاتها:
< كيف بدأ اهتمامك بترجمة الأدب العربى؟
ــ غادرت أوغندا إلى انجلترا التى لم أحبها على الإطلاق، ولم آلف برودتها فى مقابل دفء السودان وأوغندا، وهناك أودعونى مدرسة داخلية، حيث كان العقاب بالضرب أمرا طبيعيا، وفى الرابعة عشرة من عمرى منعنى ناظر المدرسة من ممارسة الاسكواش لصغر سنى، ورغم أن أبى لم يكن مهتما بالاسكواش لم يعجبه موقف الناظر، و«ركب دماغه» وأخرجنى من المدرسة، وسألنى عما أريد فعله فى حياتى، ودون أن أعرف لماذا وجدتنى أقول له: «عايز أدرس عربى»، ثم انتقلت إلى جامعة «كامبريدج»، ولم يكن تعلّم اللغة العربية متاحا هناك لمن هم أقل من 16سنة، وكان يجب أن أفعل شيئا فى تلك الفترة، فذهبت فى السنة الأولى إلى جامعة لندن، وبعدها لجامعة «كامبريدج»، لكنهم أصروا على تعليم اللغة العبرية كشرط لدراسة العربية، اعتقادا منهم أن العبرية أصل العربية، ووجدتنى أدرس عبرى قبل العربى، لكن أثناء دراستى سمعت حوارا بين والدى حول عدم توافر المال اللازم لاستكمال الدراسة العبرية فقررت التوقف ودراسة الفارسية بدلا منها على أن أدرس مقرر سنتين دراسيتين فى عام واحد، ولحسن حظى كان لى صديق باكستانى، يعمل والده طبيبا لوالد شاه إيران، وكان يجيد الفارسية فعلمنى إياها، وعندما تم اختبارى فى الفارسى والعربى حصلت على الدرجة الأولى فى الفارسى، والثالثة فى العربى.
< رغم عشقك للغة العربية وآدابها، فإنك تعتبر الفصحى لغة ميتة.. فلماذا؟
– ذات مرة قال لى أحد المدرسين: ألا ترى أن اللغة العربية جميلة؟ قلت: نعم لكنها ميتة، فاستغرب الكلمة تماما، لكنى أراها ميتة بالفعل، مثل اللاتينية، فأنا من أنصار اللغة العامية فى الكتابة، من أنصار يوسف إدريس، وليس نجيب محفوظ، وسبق أن قلت رأيى هذا لمحفوظ منتقدا إصراره على أن يتحدث كل شخوص أعماله على اختلاف مستوياتهم الثقافية والاجتماعية بالفصحى، وقلت له: ليس معقولا أن يتحدث الجميع نفس اللغة، لكنه كان يرى أن تحوّل الكتابة إلى العامية سيكون صعبا على غير المصريين، فأخبرته بألا يهتم بغير القارئ المصرى لأنه الأهم، خاصة أنه حتى أساتذة الجامعات لا يتكلمون الفصحى.
< هل معنى ذلك أن نجيب محفوظ كان يضع عينيه على الترجمة؟
ــ لا.. لم يكن الأمر كذلك، وبالمناسبة محفوظ هو أول من ترجمت له عملا إلى الإنجليزية وكانت قصة «الزعبلاوى» أولى قصص مجموعة «همس الجنون»، ونشرتها مع قصص مصرية وعربية أخرى فى مجموعة بعنوان «قصص عربية حديثة» «Modern Arabic short stories»، ثم ترجمت له لاحقا خمس روايات، وعن العامية تحدثت أيضا مع محمود تيمور، وهو أول من ترجمت له مجموعة قصصية كاملة، ضمت مختارت من قصصه، ونشرتها فى القاهرة على نفقتى الخاصة، وكان قد كتب قصة بالعامية ثم قلبها إلى الفصحى فأخبرته أنه أتلفها بذلك، فرد قائلا: « مستر دينيس لو مد الله فى عمرنا فسيتحدث كل فرد فى مصر بعد خمسين عاما باللغة الفصحى»، لكن هذا لم يحدث فى الواقع.
< ألا ترى أن الاهتمام بالفصحى شىء جيد، من باب الخوف على اللغة الأم؟
ــ بالطبع أنا لا أطالب بهجرها، فالناس يقرؤون القرآن بالفصحى، لكن ليكتبوا ويقرؤوا الأدب بالعامية.
< لأى مدى ترى اختلاف الأدب العربى الآن عنه فى بداية ترجمتك له؟
– بالطبع اختلف الآن كثيرا، حيث تخفف من كثير من التابوهات، وبات هناك حرية أكثر، وأتذكر أننى حينما أعطيت لأحد الأدباء الكبار قصة كتبها أحد الشبان، لأستطلع رأيه فيها أخبرنى أن الولد موهوب، لكنه رفض اعتبار قصته أدبا لاحتوائها على مشهد يصور حمارا يتبول فى الشارع، أيضا أصبح للغة استعمالات أكثر ثراء وتنوعا، فضلا على تناول الأدباء الشباب الآن لموضوعات تهم القارئ العادى الذى لا يقرأ سوى القرآن الكريم. وأعتقد أن «علاء الأسوانى» مثلا هو أول من كتب لهذا الجمهور، بالطبع كتب من قبله أدباء آخرون، لكنه وسع دائرة القراءة، أو على الأقل ساعد على ذلك.
< هل تلمس فعلا تراجع فن القصة القصيرة الآن؟
– نعم ألمسه، فالجامعة الأمريكية ترفض نشر أى مجموعةٍ قصصية، حتى فى انجلترا، لأن دور النشر أصبحت ترحب بالروايات أكثر من القصص القصيرة.
< سبق وأعلنت أن العالم يشهد انحسارا فى ترجمة الأدب العربى كيف ترى ذلك؟
ـ نعم؛ والانحسار يزيد، فالأدب العربى كما وكيفا لا يوازى الأدب الفرنسى أو الإيطالى مثلا، وهذه مسألة تحتاج لبعض الوقت، لأن القارئ الإنجليزى اعتاد رؤية أبطال وشخصيات كُتّاب مثل دستوفيسكى، ومن الصعب أن تدخل قلبه بأسماء أخرى، فمثلا يستطيع أى شخص أن يقرأ الأدب الروسى لكنه ربما لم ير بعدُ شيئا من الأدب العربى، وجزء من المشكلة مرتبط بترجمة الأدب العربى إلى اللغات الأخرى، فهناك بعض المستشرقين يضعون هوامش كثيرة للترجمة، ويرهقون القارئ بتفاصيل هو غير مشغول بها، وأذكر أن أحد المستشرقين ــ لا أريد ذكر اسمه ــ كتب مقدمة أحد كتبى المترجمة، وذكر فيها أنه لا يعرف قواعد الترجمة جيدا.
< وماذا عن مجلة «أصوات» التى توليت مسئوليتها؟
ــ مجلة «أصوات» كانت فكرتى بالأساس، وهى مجلة فصلية كانت تنشر الشعر والقصة والنقد، وصدرت باللغة العربية فى الفترة من 1960 إلى 1963، ونشرت فيها لعدد كبير من أصدقائى الأدباء العرب مثل بدر شاكر السياب، وغسان كنفانى، وزكريا تامر، وغيرهم.
< لديك عدد من الترجمات لكتب إسلامية، ماذا عنها وعن أصدقائك المسلمين؟
ــ اهتممت بالدين الإسلامى على الدوام، ولى أصدقاء مسلمون كثيرون منهم «عز الدين إبراهيم» الذى التقيته صدفة فى طائرة كانت متجهة إلى قطر فى الستينيات، حيث كان يقيم هناك قبل أن يتولى مسئولية الشئون الثقافية للشيخ زايد، وفوجئت به يخبرنى أنه قرأ ترجمتى لمسرحية «يا طالع الشجرة» لتوفيق الحكيم، وأعجب بها كثيرا، وعرض أن نتعاون معا فى الترجمة، وبالفعل أنجزنا معا تراجم لمجموعة كتب عن الأحاديث القدسية والنبوية و«الكلم الطيب» لابن تيمية، وغيرها.
< وكيف كانت علاقاتك بالأدباء العرب الذين ترجمت أعمالهم؟
ــ من الضرورى جدا أن يعيش المترجم فى المكان الذى يترجم فيه لأصحابه، ومعظم الأدباء الذين ترجمت أعمالهم كانوا أصدقائى، مثل «يوسف إدريس»، و«غسان كنفانى»، الذى ربطتنى به صداقة قوية. وأصعب من ترجمت لهم الراحل محمد مستجاب، لصعوبة لغته وظروف بيئته مقارنة بمحفوظ الذى كانت كتاباته سهلة نوعا ما، و«يوسف إدريس» كان صعبا أحيانا، لكنه كان متصلا بالناس ويكتب عنهم بعمق أكبر، بخلاف«محمود تيمور»، الذى كتب عن عامة الناس وهو غير متصل بهم؛ وظهر هذا فى كتابته.
< كتب «نجيب محفوظ» مقدمة مذكراتك الشخصية، وأنت كنت صاحب اقتراح تخصيص الجامعة الأمريكية جائزة سنوية باسمه، فكيف حدث ذلك؟
ــ عندما كنت أعد كتابا عن مذكراتى الشخصية وتجربتى مع الحياة والترجمة، أخبر أحدهم «محفوظ» بذلك فتطوع بكتابة مقدمة لكتابى «مذكرات عن الترجمة»، رغم أنه كان كبيرا فى السن وقتها، واقترحت أمر جائزة محفوظ لأول مرة على «مارك لينز» مدير النشر السابق بالجامعة الأمريكية ولم يكن مهتما آنذاك، ثم أعدت عليه اقتراحى مرة ثانية، وذهبنا لنجيب محفوظ فوافق، وبالفعل بدأوا تنفيذ الاقتراح عام ١٩٩٦، ثم حازت الجائزة شهرة كبيرة.
< ترجمت وأعددت أكثر من 40 كتابا للأطفال مأخوذة من الأدب العربى، فماذا عنها؟
ــ بدأت نشر كتب الأطفال عندما جاءنى شخص انجليزى متزوج من مصرية، يريد تأسيس دار نشر بمصر وطلب منى كتبا للأطفال، فأبديت استعدادى وكان شرطى أن تكون القصص عن جحا وكليلة ودمنة وغيرهما، وتأخرت فى ذلك لأن المشكلة التى دائما تواجه أى كاتب هى أين الناشر؟، فلا أحب أن أعمل لمدة سنة ثم ألقيها فى سلة المهملات، لذلك لم أفكر طوال عمرى فى الكتابة للأطفال لعدم وجود ناشر متحمس لهذه النوعية من الكتب، والآن اختلف الأمر بعدما أصبح هناك أكثر من دار فى مصر ودبى على استعداد لنشر أى كتاب للطفل.
< هل يشترط أن تحب العمل الذى تنوى ترجمته؟ وهل أنت انتقائى فى اختياراتك؟
ــ فى كثير من الأحيان نعم، فأنا أحببت الطيب صالح فترجمت كل أعماله بغض النظر عن أى شىء آخر، وعندما التقيت عز الدين إبراهيم وأعطانى كتاب «رياض الصالحين» ترجمت الكتاب لأننى أحببته، فبدأنا فى الأربعين النووية، ثم الأربعين القدسية، لأن سهولة اللغة جذبتنى، واستوقفتنى المعانى كثيرا، وترجمت أجزاء كبيرة من القرآن الكريم، لكننى اكتشفت أنها صعبة ويجب أن يعرف المترجم معناها، والمعنى ليس مجرد ترجمة كلمات.
< هل وجدت فروقا كبيرة بين الأدبين المصرى والإفريقى؟
ــ نعم هناك اختلافات كثيرة، فثقافات البلاد تختلف باختلاف مناخها وظروفها الجغرافية، وقد عشت فترة من حياتى بالمغرب وهناك إذا تحدث اثنان بالعامية يبدوان كأنهما ليسا عربيين.
< ألهذا السبب عجزت عن ترجمة إحدى روايات الكاتب العراقى «فؤاد التكرلى»؟
ــ نعم، فقد كانت الرواية كلها بالعامية العراقية ولم أستطع إكمالها، وأنا كما قلت سابقا من أنصار العامية، لكن العامية العراقية صعبة جدا.
< هل فكرت يوما فى اعتزال الترجمة؟
ــ لا أتعامل مع الترجمة كمهنة يمكن ان أعتزلها فى وقت ما، ولست محكوما فى تعاملاتى مع أى كتاب بعدد الصفحات أو الكلمات، وكل ما أتمناه أن يخرج الكتاب بمستوى جيد ويراه الآخرون.
< لماذا تركت مصر لفترة، ولأى مدى تراها اختلفت الآن عنها فى بداية إقامتك فيها؟
ــ تركت مصر بعض الوقت عندما حدثت مشكلات مع الجامعة الأمريكية، لكنى عدت مجددا، واشتريت بيتا بقرية «تونس» فى الفيوم، حيث أفضل الحياة بعيدا عن القاهرة، ولو استطعت لعشت هناك دائما، وبالطبع اختلفت مصر كثيرا، وأعتقد أنكم أعلم منى بذلك، النفاق والتلوث والزحام فى تزايد.
< هل استطاع الأدب فى تقديرك ملاحقة تلك المتغيرات التى رصدتها؟
ــ لم يلاحق الأدب هذه التغييرات حتى رواية «عمارة يعقوبيان» لم ترصد ما يحدث الآن، للأسف الجو هنا غير أى مكان آخر بالعالم.
< لو نظرت خلفك الآن فهل تظن أن ترجمة الأدب العربى كانت تستحق أن تبذل فيها أكثر من نصف قرن؟
ــ أنا راضٍ تماما عما قمت به، وقد عملت فى بداياتى فى لندن كمحامٍ، لكننى لم أحب المحاماة، وأنا سعيد تماما بقضاء عمرى فى ترجمة الأدب العربى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلا عن جريدة الشروق الجديد المصرية