الحصان الأبيض
يصعد الشاب ربوةً
باتجاه الحصان الأبيضِ
كي يلبسه اللجام.
ينظر الحصانُ إليه في صمت.
كم هما صامتان.
كم هما في عالم آخر.
***
اللجام. كلمةٌ تبقى قاسية ولو في سياقها الذي اعتدناه منذ أن روَّض أحد أجدادنا الحصان الأول. تبقى دليلا على مقدرة الإنسان أحيانا، وربما مرارا، على تجاهل إنسانيته، واستعمال كائن شديد الرقة والجمال والنبل والكبرياء مثل الحصان.
لا أستطيع إلا أن أتذكر ديوانا للشاعرة الأفروأمريكية الكبيرة “مارجريت ووكر” عنوانه “الخيولُ تجعل الأفق يبدو أكثر جمالا”. قد لا يكون من المنطقي أن أستسلم لغواية الذاكرة فأستحضر هذا العنوان البسيط الصادق. ولكن مَن مِن محبي الشعر يقوى على كبح جموح نفسه؟ كبح الجموح! هكذا إذن نعود أدراجنا إلى اللجام، نتذكر وظيفته المحددة: كبح جموح الحصان.
لا أستطيع إلا أن أتذكر أيضا ما صدَّرت به “مارجريت ووكر” ديوانها، ذلك المقتطفَ المأخوذَ من نص للهنود الحمر، يقول “إن السبب الوحيد الذي يجعلنا نغفر للأوربي جريمة إتيانه بالخمر إلى بلادنا، هو أنه أتى معه بالحصان. فالخيول تجعل الأفق يبدو أكثر جمالا”.
رأى الشاعرُ دي إتش لورنس أن يجعل الإنسان في قصيدته شابا، ربما ليجعل القارئ يفترض فيه القوة، ورأى أن يكون الحصان على مرتفع.
في رواية “الخيميائي” الشهيرة للبرازيلي “باولو كويليو” أقام أحدهم مقهى لبيع الشاي بالنعناع على مرتفع، ونجح مشروعه هذا، فقلَّده آخرون، لكنه ظل واثقا في تميز مقهاه، لأنه لا يكتفي بتقديم الشاي بالنعناع فحسب، ولكن لأنه يقدمه في أكواب صغيرة من الكريستال، ولأنه يقدمه في الهواء الطلق، ولأن الذهاب إلى مقاهي الآخرين لا يقتضي المرور في طريق صاعد إلى ربوة.
هكذا أيضا شاء “دي إتش لورنس”. شاء أن يضع الحصان على ربوة. ربما ليعلي من شأن الحصان، إلى حين يعتليه الشاب، وهو ما لا يحدث في القصيدة. هكذا أراد لورنس أن ينظر الشاب إلى الحصان من أسفل. ربما لينبهنا إلى ضرورة أن ننظر إلى الطبيعة بما هي جديرة به من احترام. ولعله جعل الحصان على ربوة لينبهنا إلى أن الشاب كان مشغولا بما يبذل من جهد في الصعود، فلم ينتبه إلى أنه على وشك أسر كائن آخر، يشاركه الهواء والماء والشمس، ومثلها جميعا، يشاركه الحرية.
وفي القصيدة، نظر الحصان إلى الشاب. ترى هل كان الشاعر بحاجة إلى أن يضيف أنه نظر في صمت. هل كان قارئ هذه القصيدة ليفترض في الحصان غير الصمت؟ ربما. ربما كان الحصان ليصهل. ولكنه لم يفعل. اكتفي بالنظر في صمت. يتيح لنا الشاعر هنا كل مجال لأن نقرأ صمت الحصان، وأن نقرأ نظرته. لنا أن نراها نظرة حزن، أو تواطؤ، أو استسلام للمصير. وشاء لورنس أن يشرك الشاب والحصان في الصمت، بل في منتهى الصمت. وشاء أن يشركهما في الوجود معا في عالم آخر.
أهو العالم الذي يوشكان على ولوجه، أي عالم الرحلة، عالم المجهول. أم تراهما يقتسمان الحياة في عالم آخر غير الذي تحتَّم أن يوجد، عالمنا هذا الذي يسمح بعض كائناته لأنفسهم أن يستعبدوا البعض الآخر.