دهشة إدغار موران بعد المائة

إدغار موران
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إدغار موران

ترجمة: الحسن علاج

لا يتوقف إدغار موران (Edgar Morin) وهو البالغ من العمر مائة وثلاث سنوات عن التأثر بالعالم والحياة. لماذا نحن أحياء؟ ولماذا ينبغي علينا الرحيل؟ هذه الأسئلة الأولية لم تفارق المفكر أبدا، ثم إنها تستمر في بعث فضول قوي بداخله وهذا المقتطف شاهد على ذلك.

كيف يمكن التعبير عن هذا الإحساس بالذهول، بالفرح والأسى الذي يجتاحني أثناء تحديقي في الطبيعة، الأشجار والسماء؟ إمعان النظر ـ في ظل هذه الأثناء ـ في عصفور صغير أجهل فصيلته، ضئيل الحجم أكثر رشاقة من حمامة، ممشوق وضامر الرقبة، يتهادى برشاقة، ينقر مخبّاً على العشب؟

الاندهاش من الحياة: ليس فقط لأني مازلت على قيد الحياة في عمر مائة سنة وسنة واحدة، بل بكل بساطة أن تكون موجودا في قلب الحياة التي أستمتع بها في نفس الوقت مثل عصفور، آلاف شفرات العشب، زيتونة قريبة، أشجار النخيل الأكثر بعدا؛ في بستان، يمارسون نشاطهم، بما فيهم أنا، من أجل العيش بدون استثناء.

لماذا هذا التكاثر، هذه الإبداعية حتى في ورقة أشد صغرا، معمل صغير ليَخْضر مُلتقطا لطاقة شمسية؟

فوراء هذه الدهشة أمام الحياة، دهشة أن تكون على قيد الحياة، ليس فقط كوني جئت إلى الحياة عبر ضربة حظ حيوان منوي سريع تسرب إلى بويضة والدتي، وليس فقط لأنني قاومت عمليات الإجهاض الفاشلة التي أملاها الداء الذي ألم بها في القلب، وليس فقط لأني ولدت مخنوقا بالحبل السّري، بل فقط لأني حي وسط الأحياء، والأهم من ذلك لأنني أوجد على ظهر البسيطة.

ثم إن الحياة على الأرض تذهلني بطريقة مغايرة منذ أن وعيت نظامها البيئي الخرافي، عبر العداوات والتضامن، الشراسة والتعايش. تشكل هذا النظام البيئي بين الطبيعة الحية والطبيعة الفيزيائية للأرض، المياه، الجبال والوديان.

لغز نظام الكون الذي يربط ويصل العناصر الخاضعة للارتجاجات والفوضى، ثم يبدع ذرات، جزيئات، نجوماً وأنظمة شمسية. وعلى الكوكب الثالث لشمسنا حدثت أعجوبة تنظيم بيئي ذاتي رائع تولدت عن لقاءات بين مكونات جزيئية مختلفة، فيزيائية كيميائية خالصة حيث تنبثق المميزات الخاصة لما يُسمى الحياة: الإدراك، التكاثر الذاتي، التصليح الذاتي، الحركية، الامتصاص المستمر للطاقات الخارجية لمقاومة، بلا توقف، للتحلل والموت.

والأكثر إدهاشا هو ضآلة الاندهاش من الحياة.

فوراء اندهاشي بكوني حيّا أرزق في هذا العالم، ثمة اندهاش بضخامة هذا العالم، الذي لا نعرف عنه أسباب حدوثه وإلى أين يقود تمدده.

ليس هذا الكون نظاما متقيّدا بقوانين ثابتة، مثلما اعتقد بذلك العلم الحتمي على غرار بيار سيمون دو لابلاس (Pierre-Simon de Laplace) . فإذا كان يتضمن مبادئ تسمح، مع ذلك، للعناصر بالخضوع لفوضى الاضطرابات، التكتل في تنظيمات، أو خلافا لذلك أن تقوض بعضها بعضا، فعبر تلك التفاعلات والارتكاسات، فإن الكون يعتبر، بشكل غير قابل الانفصال، نظاما، فوضى، تنظيما، بمعنى كونا مركبا.

بالإمكان رؤية الشمس الغاربة ـ حيث أنا ـ مباشرة، عبر ستار ضبابي يقيني من الإصابة بالعمى ؛ إنه أشبه ما يكون بقمر أشد إضاءة، شمسي وقمري في الوقت نفسه. نحن لا نرى النجم يحيا، يتغذى وينظم نفسه بواسطة النار، يقذف بدون توقف بشواظه الشمسي.

كذلك فإن ملايير النجوم تحيا بالنار وبواسطة النار. وبالتأكيد، فإنه من المعروف أن الحرارة تزداد قوة من جراء تركيز المادة النجمية تنتج الانفجار، ثم إن ثمة تضادا تكامليا بين قوى الجاذبية المركزية والقوى الطاردة للنار التي تحافظ طيلة مليارات السنين على هذاالتنظيم بالنار وعبر النار. إلا إنني لا أتوقف من أن أندهش أكثر، أنذهل، من أن هذه النار التي تدمر كل شيء على الأرض، ولاسيما في أصياف حرائق الغابات، لا تتوقف أو تكل عن بناء شمسنا.

لذلك فإن كل شيء يبعث على دهشتي: حياتي، الحياة، العالم.

في نفس الوقت يخالجني فرح غامر، نوع من السعادة المطمئنة في تأمل الحياة النباتية من حولي. وبما أنها تتغذى على الطاقة الشمسية عبر تفرعاتها وعبر المواد المعدنية من خلال جذورها، فإن الحياة النباتية ليست من العدوانية والافتراس في شيء. لكني أعشق أيضا الحياة الحيوانية، رشاقة القطط، مهابة السِّباع، وسرعة الغزلان. يزعجني البعوض الذي يتشبث بوجهي، لكني معجب بالذبابة التي تعتبر آية صغيرة للطبيعة. كما إني كنت أقابل يوميا ذبابة أثناء وجبة الإفطار على مائدتي، والتي أصبحت معتادا عليها.  كان لدي ثمة إحساس ببداية ارتباط بيننا.

“ارتباط ” هو الكلمة الإيثولوجية  éthologique) ( للإشارة إلى الصداقة والحب، مصطلحان لا يتوجب علينا الاحتفاظ بهما للبشرية بعدُ. إننا لا نلاحظ فقط تلك المشاعر بالنسبة لنا لدى كلابنا أو قططنا الأليفة، بل أيضا بين أفراد من نفس النوع وأحيانا من فصائل مختلفة، وهو ما لا يمنع، علاوة على ذلك، كماهو الحال لدينا من العدوانية والقتل.

أحب أولا وقبل كل شيء العصافير، من طائر الدوري إلى الكوندور ( النسر الأمريكي )، لاسيما طيور السنونو التي تمخر عباب السماء عاليا أحيانا، وفجأة تمر كالشهاب أمام ناظريّ. أنتظرها بفارغ الصبر كل ربيع. وكم كنت سعيدا وأنا أرى ظهور جولاتها.

من بين كل الديانات، أفضل تلك التي تبجل الشمس وتلك التي تعظم القمر. وهكذا أشعر بداخلي بالسلطان المطلق للإله إنتي  Inti) (، الإله شمس لشعب الإنكا. لقد وجدت أن التبتل الدائم لرهبانه وتُقاته، على قمة مدينة ماتشو بيتشو، أمرا بديهيا. يعود عشقي الصوفي للقمر إلى والدتي، لونا Luna) (، التي غادرت الحياة وأنا في العاشرة من عمري. إني أتأمله بورع لمّا يكون بدراً، مثل البارحة مساء. أؤدي بنفسي الصلاة إلى الإلهة تانيت في رواية سلامبو:” عندما بدوت، ساد هدوء على الأرض ؛ الأزهار تتفتح، وتسكن السيول، يمد الناس المتعبون صدرهم نحوك، والعالم بمحيطاته وجباله، كمرآة، ينظر في وجهك 1“.

أدين أيضا بدين آتون، إله الشمس، الذي عبده إخناتون وجعل منه إلها موحدا. أليس هو من يمسك بكوكب الأرض في مداره؟ أليس هو من يمنح الطاقة الضرورية للحياة؟ أليس هو من يسود في سمائنا؟ أليس هو من تتعذر رؤيته وهو العلي القدير الذي نستند عليه تماما؟

يغمرني السرور الإستثيقي حقيقة وأنا أتأمل جماليات الحياة، طبيعة الشمس، القمر والنجوم. أشعر في نفس الوقت بحماسة تواصل وتكامل شبه صوفي بداخلي وبأناي في العالم. ثم إني ـ وبصفة دائمة ـ أحس ببساطة أن أكون حيا أرزق الذي هو شيء آخر غير متعة الحياة، التي تتضمن بداخلها اتقادا والتي لا أدركها الآن إلا وهي في تقلص.

ولئن كنت أشعر بالامتلاء كوني على قيد الحياة والاستمتاع بالحياة التي يداهمني الإحساس بفقدان الحياة عما قريب، وأكبر من الحياة بكثير، هو أن العالم برمته سوف يتلاشى معي وإلى الأبد. إن أناي الذاتية وأناي الموضوعية سوف تزولان في نفس الوقت، ثم إن هذا الإفناء سوف يكون في الوقت نفسه إفناء للعالم بداخلي.

سوف يواصل العالم مغامرته من دون أن نعرف ما إذا كانت منذورة إلى التبدد النهائي أو أنها تكون دائمة التجدد، سوف تنطفئ شمسنا وسوف تتوقف الحياة. لكن حتى ذلك الحين ما الذي سوف ينجم عن تقاطع الأزمات العظمى التي تكابدها الإنسانية. أتحسر على كوني قد أغيب لمدة عام أو عامين لإدراك ما الذي يتبلور، ينهار، يتشكل. أخشى من أن تطرأ فترة طويلة، تراجعية، مع العلم أن غير المحتمل يمكن أن يغير كل شيء إلى ما هو أفضل أو إلى ما هو أسوأ على حد سواء.

سوف أرحل في خضم إثارة تاريخية كبيرة.”

………………….

1 ـ غوستاف فلوبير، سلامبو، فصل 3، 1862.

مصدرالنص: مقتطف من كتاب: Encore Un moment … Denoél,2023

مجلة العلوم الإنسانية الفرنسية Sciences Humaines عدد ممتاز (30) غشت ـ شتنبر 2024

مقالات من نفس القسم