د. صلاح فضل
مي التلمسانی روائية وناقدة واعدة، منقوعة منذ طفولتها في دنيا الفن والإبداع والكتابة. صدرت لها رواية أخيرة بعنوان ضارب في جذور الأسطورة «دنیا زاد » تمارس فيها لعبة التسمية المزدوجة لمخلوقاتها المحببة المهددة بالفناء.
وهي إذ تقرر امتلاك زمام السرد بطريقة محدثة وعفوية، تحفظ لصوتها مقعدا منظما مستمرا، ثم تمنح المقعد الثاني لمن يجلس بجوارها أو تنساه شاغرا. في مطلع الرواية شغله زوجها الذي لا تسميه وإن كانت تصفه، ليحكى الأحداث ذاتها من منظوره الخاص، كما شغلته إحدى صديقاتها المقربات «نورا» ووضعت عليه مرة ثالثة حلما سوداویا شفيفا. المهم أنها حرصت في معظم الرواية على تقديم أصوات عديدة، تتراوح بانتظام مع ضميرها الأنثوي البارز، کی تخفف عن روحها ثقل التجربة التي تبهظ وجدانها، وهي تجربة «ولادة» شاقة ومهيضة لبنت «توفيت داخل الرحم نتيجة انفصال تام في المشيمة» كما جاء في تقرير الطبيب. لكنها لا تعرف ذلك للتو، انتظروا عليها يومين حتى تقوى على تحمل النبأ، كانت تعتزم تسميتها «دنیا زاد» على طريقة الأمهات المثقفات في اختياراتهن المفعمة بالبواعث الأدبية.
تنحفر التجربة بعمق أيضا في ذاكرة المتلقي لصعوبة تكوينها، يتعين عليه متابعة الانتقالات الحادة لأصوات الرواية بمساعدة نمط توزيع السطور على الصفحات. النمط الكلى المعتاد تشغله الراوية الملتبسة بالصوت الأول. ثم لا يلبث أن ينقطع فجأة وتتشكل السطور بهامش أبيض عريض إيذانا بدخول الصوت الآخر. يستقر الفصل الأول على التراوح بين الزوجين، حيث لا تكتفي الرواية بتقديم عالم الأنثى بكامل تفاصيله ولون حساسیته، بل تضع قناع الرجل أيضا لتختبر طريقه تلقيه للأحداث وممارساته فيها، عندئذ تبرز المفارقات الطريفة بينهما. كيف يخفى عنها طرفا من الحقيقة حفاظا عليها. هنا يتجلى أمامنا مشروع الكاتبة بأبعاده النصية. إنها لا تكتفي باسترداد حقها في وصف عالمها الأنثوي الحميم، وتحديد طبيعة حساسيتها الجمالية بالكون، مما يتطلب تسمية الأشياء بلغتها الخاصة، بل تمد وعيها ليستوعب الرجل أيضا، تعيره كلماتها، ترسم له القناع الذي طالما صنع مثله لها. تأخذ زمام المبادرة بشكل يسمح ببروز الظلال بين التصورات والصور.
تصبح ثنائية الصوت كاشفة عن هذا التماس والتقاطع بين العالمين. يتعين على القارئ حينئذ أن يبني وعيا مزدوجا ومجسدا لكلا الموقفين، هكذا تكتسب الكتابة كثافة خاصة وثقلا واضحا، وكلما تعددت الأصوات أصبحت اللعبة أكثر تركيبا وتشويقا، خاصة في غيبة الراوي الذي يقوم بتوزيع الأدوار والتمهيد للانتقالات. تصطنع الكتابة طرفا من إشاراتها المميزة لتفادي الخلط والارتباك، تأخذ أحيانا طابعا شبه مسرحي، كما يحدث عندما تقول مثلا:
“الحلم: اليوم أتمت «دنیا زاد» ثلاثة أسابيع، أنير لها شمعة وأحملها إلى قبرها الساكن في ركن من أركان الغرفة. أفتح باب القبر وأتسلل إلى حيث الجسد الساجی أضع الشمعة إلى جواره، وأبکي مرة واحدة. في طقوس حب سرية أراها تطبع على جبيني قبلة حارة كحرارة القبر المغلق”.
تظل صورة “دنیا زاد” وتردادها العميق في وجدان الصوت الأول هي التي تبرز إيقاع الرواية، ومدى انتظامها حول محور أساسي، الفقد الموجع لجزء من مكونات الذات، بل تظل فيما يبدو المعيار الذي يتحكم في انتقاء الأحداث والتركيز عليها. بقية المشاهد والتجارب تكتسب درجة التحامها بالنسيج الروائی بمدى ارتباطها العميق بهذا الحبل السري الذي انقطع بيولوجيا فأخذ يجدل حياة الأم نفسيا ويصبغ رؤيتها اللوجود.
وعي الكتابة بذاتها:
على أن هناك سمة جوهرية في « دنیا زاد » التلمساني هي أنها مفعمة بلون خاص من الشعرية الفاتنة، يتمثل في التنفس أمام المرآة، في قلب نموذج علاقة الكتابة بالحياة، بدلا من أن يكتب الفنان مفردات حياته يحيا كتابته، تصبح العملية الإبداعية هي الأصل. ولأن الإبداع خلق اقترن كثيرا بالولادة فإن طبيعة تجربة الرواية ذاتها تعطى فرصة مواتية لتوهج هذا الموقف المعكوس. يتماهی توق التخليق مع شوق الكتابة. يصبح الموت في الرحم صورة للإخفاق في الإبداع، وهذا منطق معقول، لكن المشكلة تبدأ عندما تصبح هذه الفكرة هاجسا قائدا لاستراتيجية الكتابة ذاتها، فقد يؤدى الوعي الشديد بها إلى تلعثمها، كما تؤدي بنا بمراقبة طريقة تنفسنا أو مشينا، إلى ارتباكه وتعثره.
تفقد الحياة موقعها الأصلي أمام المرآة الإبداعية التي تقوم بدور البطولة. كان هذا يحدث لشباب الشعراء عندما يحفظون بالليل أبيات الوداع الفاجع لحبيباتهم ويأخذون في إنشادها صباحا أمامهن بنشوة الشعر وحميا الكلمات السحرية فإذا بانتصار الشعر يتجسد في فقد الحب. تصدق الحبيبة الأبيات وتمسح دموعها وتنتهي القصة كما أمرت القصيدة. ولا يصل الأمر عند «مي» إلى هذا الحد، ولكن فتنة الكتابة تجعلها تجهض تجارب عديدة في سطور قليلة کی ترددها بتواتر شعری إذ تقول مثلا: “أكتب عن الانتظار، عن رهبة وجود كائن آخر ينمو هناك، وسط شعيرات دموية أليفة، تحتضن بقايا حيوانات منوية أليفة تشبهنا. أو أكتب عن ذاكرة خائبة، تحتفظ بوجه أزرق فوق صفحة سماء زرقاء تقوم مقام «الجنة» الآن. أين إذن هو صاحب العرش» وكم من الكيلو مترات تفصله عن وجه “دنیا زاد” المستدير.
أو أكتب عن قهر الخوف بخوف آخر. كأن تخاف على ملابسك من الاتساخ وسط حشد من المتأنقين عديمي الفائدة، أو أن تخاف على صورتك في التليفزيون حين تسألك المذيعة ماذا كنت تقصد بعنوان “نحت متكرر” ثم تطالع صحف كل يوم خوفا من أن ينسوا ذكر اسمك في الصفحة الأدبية، وتتصل بإحدى الصديقات لتطمئن على صحة أولادها وعلى أنها شاهدتك على الشاشة ذلك المساء… إلخ”.
يقوم فعل الكتابة في هذا السيناريو السريع مقام فعل الحياة، مقام الممارسة. يصبح هو الهدف، تختزل مشاهد الحياة في حروف الكتابة. وبمقدار ما تلتصق الحروف بالواقع الحرفي تضيق رقعة المتخيل وتهبط السماء على الورق. لا شك أن إشارة «می» المحددة إلى «نحت متكرر» إلى جانب السياقات العديدة، تجعل الكتابة أشبه بالاعتراف، والقصة أقرب للسيرة الإبداعية، مما يتطلب شجاعة كبيرة في المشاهد الأخرى، خاصة الحميمة. لكن مستوى النضج والاكتمال في توصيف التجربة أدبيا يجعلها مستوفية للشرط الأخلاقي، أو عابئة به، ففعل الحب مشروع مثل فعل الكتابة، بل على العكس، دائما ما كان مصدرا للزهو، لولا الفقد ولذعته الحادة المسمومة التي تلفحنا بريح العدم في لعبة الموت.
هنا نلاحظ أن القصة قد نسيت تقنيتها الأولى في توزيع السطور، اندمجت في السرد واستأثر به الصوت الأول. بل عندما بلغت لذة الكتابة درجتها القصوى، تستعين الآن بأدوات أخرى لتحقيق هذا التجسيد الذي يشبه «السينماسکوب»، تسلط أضواءها على ما يرف في الذاكرة من أوهام، أو يتمثل في المكان من حركة ومشاهد تغير قوانين اللعبة أثناء ممارستها. هل يخسر القارئ شيئا ؟ لا أحسب ذلك، بل يتفادى ارتباك الانتقالات المفاجئة، حيث يحقق توحيد المنظور في الكتابة تلقائيا انسجام التلقي دون مجهود كبير. تتكشف له حينئذ أسباب اختيار الأحداث ومنطق انتقائها. إذا كان قد تساءل في البداية عن جدوى الفصل الخاص ببيع الفيلا العائلية التي كانت تطل على الحقول ومدى علاقته بالولادة والفقد فإنه لا يلبث أن يرتاح لاستقرار الراوية في شقة المريوطية واستقبالها للزائرين فيها. يطل مع صاحبها ليرقب الحيوات المجاورة وينظم “جدول” حركة الأسرة الصغيرة بعاداتها وتقاليدها البسيطة، عندئذ يكون القارئ قد أصبح جديرا بالقيام بدور المخاطب الذي يسند إليه وتلتئم على صفحة ذاكرته التفاصيل المبعثرة في فضاء النص. يكون قادرا على إعادة إنتاج المشاعر والتصورات، ولاستقبال شيء آخر جوهري في الأدب هو معناه الكلى.
إذ عندما تستقى الكتابة مادتها المباشرة من الحياة اليومية، كما يحدث في هذه القصة، تصبح مهددة بالإجهاض، بفقد دلالتها المركزية لأن المعاني تأخذ في التوزع المشتت على كل اللحظات المرصودة. لأن ما يجعل لشريحة ما من الحياة وجودا معنويا إنما هو كيفية اقتطاعها خاصية الحافة التي تقف عندها، أي النهاية، والعلاقة التی تربطها بما يجاورها من شرائح، ما يسمى «المونتاج» في لغة السينما. فإذا ما ضاع الكاتب وسط الاستطرادات فقد القارئ قدرته على اقتناص المعنى.
كانت می التلمسانی مهددة بهذا الضياع عندما أخذت تسرد بتركيز شديد أحداث قصتها المكتوبة، مهما كان نصيبها من التخييل، قائلة: «بعد مضي شهور کنت قد كتبت كتابا جديدا، وقدمت استقالتي من عملي الحكومي، وخاصمت عددا من صديقاتي. وشربت السيجارة السادسة في حياتي، وقررت أن أنجب طفلا ثاليا يتحرك الآن في جوفي. كما أنني تشاجرت لأسباب تافهة وكدت أصدم رجلا بسيارتي في الطريق العام.. ثم إنني شاركت زوجي بيع بيت العائلة وشاركت شهاب الدين (طفلها الأول في الرابعة من عمره) تجربة الحب الأولى… إلخ».
لا ننسى أن بعض هذه التفاصيل قد كتبت في القصة بحنو بالغ وشعرية فائقة، لكن سلسلة الوقائع في الحمل الجديد واختباراته ستفتح دائرة مختلفة لرواية أخرى لن تكون «دنيا زاد» عنوانا ملائما لها. عندئذ تقرر الراوية اصطناع نقطة تحول في الكتابة کی تختم قصتها قائلة «لحظة حداد أخيرة لكل هؤلاء الذين سقطوا في بئر التحول وماتوا» عندئذ يصبح بوسعها أن تتحدث نقديا عن الرواية باعتبارها تمثيلا للحياة المنبثقة من ظلمة النقد تستطيع هي وبقية النقاد أن تعثر على معنى كلى للأحداث لأنها اقتطعتها عند تلك النقطة وقاومت الاسترسال في امتداداتها الحيوية لتغلق منها دائرة خاصة لا تشفي فضول القارئ لمعرفة ما حدث مع الحمل الثالث. المهم أن القصة تكتمل وإن كانت الحياة لا زالت تتشكل. عندئذ يتخالف الفن مع الوجود بعد التحام شديد، وتتجلى إرادة الإبداع في هذا الصدق الذي ينبض في الكتابة بقدر ما يترقرق فيها من شعر يبدو الوعى المسنون بعجينة الحياة باعتبارها مادة للإبداع. تنهض اللغة والتقنيات الذكية لصناعة رغيف ساخن طازج منها يفوح بالطيبة والجمال الفتان.
……………
*من كتاب “تحليل شعرية السرد” ـ مجموعة الأعمال الكاملة لصلاح فضل ـ دار الكتاب اللبناني