دماغ حسن عبد الموجود

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 34
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد هشام عبيه

متى قرأت اسم حسن عبد الموجود لأول مرة؟

 لابد أن ذلك كان في أخبار الأدب قطعا، ذلك الكيان العظيم الذي مات اكلينيكيا مثل أي إنسان ينزعون عنه الأوكسجين، ثم يكبسون على أنفاسه بخرطوم ممتلئ بغاز كبريتيد الهيدروجين المعروف برائحة البيض الفاسد! كان حسن وباقي كتيبة أخبار الأدب وقائدهم هم الأكسجين قطعا، وهكذا عرفت أن حسن صحفي ثقافي وأدبي من الطراز المعروف عالميا باسم "رقم واحد".

  ثم قرأت اسم حسن لاحقا في “اضحك للدنيا”، تلك الصحيفة الساخرة الرائدة التي اختفت فجأة، كابن بلد يحترف النكتة مات ذات يوم بفعل الضحك والقهقهة، في بلد طابعه المسخرة بالأساس.

كان حسن حكاء وساخرا على صفحات اضحك للدنيا كمن يفعل ذلك دون مجهود، وإنما اعتمادا على ذلك المدد القادم خالصا نقيا من السماء. وهكذا عرفت أن حسن من أولئك الذين في يدهم تعويذة سحرية تنفث الروح فيما يكتب، فتجد الكلمات تضحك وتبكي، تصرخ وتتنهد، تهرول وتبطئ، تسمع صوت نهجانها، وصمتها الرهيب.

وفي وشوشة، قرأت اسم حسن لمرة ثالثة، مديرا للتحرير، أي دماغا محركة، وماكينة أفكار تعمل بلا توقف، لتشارك في صناعة تجربة صحافية مظلومة في مصر، وينظر لها بعض كبارات البلد باعتبارها صحافة ترفيهية غير جادة، وكأن الصحافة قدرها أن تكون عابسة كئيبة لاتمنح المرء أبدا الفرحة ولاتنقله لأجواء هو يقينا بعيدا عنها، فلعله يشتم عبر الصفحات قبس من روحها.

وبين هذا وذاك،  قرأت حسن روائيا  متمكنا ومقتنصا لجائزة ساويرس التي تثير الحسد والغبطة وأشياء أخرى بحسب “نفسية كل بن آدم”، فتأكدت من أن حسن قد مسه شيطان الأدب، وسكنه، واستوطن روحه وعقله، ولن يخرج منهما أبدا، حتى بـ”الطبل البلدي”.

هكذا عندما قابلت حسن وجها لوجه، ولأول مرة عام 2011، من خلال عملنا المشترك في جريدة التحرير، كنت المشكلة الأهم هي من يكون حسن بين كل هؤلاء. هل هو صحفي ثقافي أم ساخر، أم روائي أم صانع صحف، أم كل هؤلاء في نفس واحد أطال الله أنفاسه وأبعد عنه شرور الخنفة وكتم الأنفاس.

 ولأني وحسن نشترك فيما يبدو في خاصية الاقتراب من البشر بحذر لعل يكون من بينهم شخصا مفخخا، مر وقت، حتى بدأت الكيمياء في العمل بيننا بعدما مررنا بمرحلة “الاستجداع المتبادل”، خاصة بعدما اكتشفت أن حسن في مفرمة العمل الصحفي اليومي، لايزال يحتفظ بإخلاص الصعايدة ومهاراتهم، فتجده منهمكا منكبا على الأخبار والتقارير المكتوبة من الزملاء في قسم الأخبار على عجل أو على مهل أو بارتباك لضيق الوقت أو لضيق الدماغ، ليعمل فيها حسن لا أجدع جواهرجي يلمع قطع الذهب ليعود إليها بريقها، أو ولا أجدع نصاب يحيل قطع البلاستيك إلى أحجار كريمة لامعة.. هو ونصيبه.

وهكذا عرفت وجها جديدا لحسن، وهو أنه أسطى ديسك صحفي، وهو أمر يجعل المرء يركب معه أي ميكروباص صحفي، وهو مطمئن إلى أن مصيره لن يكون الدخول في “حيطة”! أو على الأقل هو لن يفعل ذلك إلا إذا كانت الحمولة زائدة!

لكن البعد الثالث لحسن عبد الموجود، تجلي لي أخيرا، في أول لقاء خارج نطاق العمل.

كنا في مقهى شهير في وسط البلد، ترتفع فيه الأغاني الصاخبة بدرجة تجعل الصراخ هو اللغة الرسمية بين الحضور، صرخ حسن فجأة موجها حديثه لي “ساعات بالليل تهجم عليا جملة عشان اكتبها في رواية أحسن انها عظيمة.. ساعتها بأحس أني أهم من نجيب محفوظ”، فأرد “كل واحد أهم من نجيب محفوظ إذا هو أمن شخصيا بذلك.. وأظن أن هذا أمر لا يغضب عمنا نجيب محفوظ أصلا”،..  فلا يبالي حسن كثيرا وهو يحتسى العصير من جديد قبل أن يضيف “.. وساعات بحس أني ولا حاجة.. وأن المشوار لسه بدري”، أردد له هامسا محترما هذه اللحظة الخاصة من الاعترافات : وهذه هي شيمة الكبار ياسيد حسن. فيبتسم ثم يبدأ في متابعة مباراة كرة قدم على تليفزيون المقهى. فأتابع معه المباراة متحمسا رغم أنه أهلاوي عتيد، وأنا أشعر بأن المسافات بيننا تتقلص حتى تكاد تنتهي، فلا أعرف سببا لذلك سوى، تلك الروح المدهشة العميقة التي يملكها حسن عبد الموجود. والتي تغلفها طيبة مفرطة، لا يفسدها أبدا محاولات الظهور في صورة الشخص “اللافف”، مع شخص تتغلب روحه الساخرة دوما على كل ما يقابله، وكأنه ينتصر بذلك على الدنيا وبلاويها أولا، قبل أن يتفرغ للمواجهة الأصعب دوما من ترويض للأفكار على الورق. هي تلك المواجهة التي يكسبها دوما.. فنفوز نحن.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم