“دار خولة” لبثينة العيسى.. حوض أسماك تملؤه اليابسة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن إبراهيم

لا تبدي اللوحة في صورتها الظاهرة أي حوارية مباشرة، كونها تؤهل الناظر إليها تلقائيًا إلى صمت مدفوع بالترقب والرصد، فلن تعبر اللوحة المسافة بينها وبين المتلقي لتهمس له بما يعنيه النظر إلى ظِل المعنى؛ هذا الإدراك الفوري الذي تحيل إليه رواية “دار خولة” لبثينة العيسى – منشورات تكوين ٢٠٢٤ –جعل جميع جُملها السردية في صيغتها الظاهرة تحبو إلى المعنى مباشرةٍ، إلا أنها ما تَلبث أن تعكس ظِلالها في وعي المتلقي حتى يتدارَك بعض السياقات الأخرى حين تنفتح في فضاءٍ أوسع من الكلمات.

هنا يدرك القارئ أنَّ الانصات للصوت الخافت للحكاية، لا يسمعه من ليس على دراية واضحة منذ البداية أنها مراوغة وخادعة، وقد تكون مثل كل ما نجهله، يرقاتٍ لا تسمع دبيبها ولا تراها إلا إذا دققت النظر، كونها تطرح إشكاليات صريحة دون أن تكون على دراية كاملة بأنها تخبئ خلف أصواتها المنفعلة على نحو يثير التساؤل أمام صراعاتها؛ محرضًا أساسيا ،تشد به وتر السؤال منذ البداية حتى أقصاه، لتنفتح المروية كجرح ممتد بحجم اندماله لسنوات.

تبقى الحكاية على الهامش منذ البداية؛ دكتورة فلكلور لها ظهور تلفزيوني منذ سبع سنوات، كانت تبعاتهُ كفيلةٍ بأن تُحدث صَدعًا في علاقة أم وأبنائها الثلاثة، مجرد سطح أملس لامسته أداة حادة ومدببة، لتعود الذكرى مجددةً عهدها مع عرض بالظهور مرة أخرى،  حيلة تنفذ داخل أعمدة البيت لتقبع تحت طاولة عشاء، عشاء أخير إذا ما أصبحت استعارة اللوحة غير مفارقة للرؤية داخل أفق الحكاية، فيما الخط الفاصل بينها وبين ما تستجديه على خطى تلك الوتيرة المتسارعة للنوفيلا، أن النظر إلى الوراء قد يصبح استعارة تضمر في جوهرها العكس، فهي لا تتساءل فقط عن الخطأ والصواب أو عن تجنيس الهوية عبر الأدوات التي تعبر من خلالها إلي الجذور، أو عن المُفاضلة بين الأفراد واللغات، ولكن لتجتر الخسارة أمام ما يجتذبه تأثير تلك الأفكار على مسوخ أمومتها ،بحثًا عن عشاء.

أربعة أبطال أساسيون تدور سرديتهم في حيز زمن عبارة عن يوم واحد تتراكم فيه الأحداث، لحظة تتفتت فيها المحكية إلي أربعة عشر مقطعًا سرديًا، هي فصول مسرحية مقدمة عبر تقنية الراوي العليم، تعي لحساسيتها مرجأ الحوار حين يستند إلي المونولوج، فالحوار هو شعلة لا تنطفئ، ينبش في كل ركود بحثًا عن غبار، معاتبة، حقيقة مواراة، أو سردية مختبئة لا يعي الطرف الآخر جدليتها، لينتظر الراوي اللحظة المناسبة، التي يبقي فيها على شعلة النار دون أن تنطفئ، وليلملم في النهاية بعد أن تحترق كُتلتها الهجينة، أشلاء اليباب.

ينقب عنصر النوفيلا الأساسي وهو “الهوية” عن أصالة مفقودة أمام كتلة هجينية خادعة، تبنى أصواتها من ذات الحس الذي تقوم عليه الهوية وهو “انتماؤها”، فيما على الجانب الآخر تبرز الأمومة بالفكرة ذاتها “كهوية يَغترب عنها أبناؤها”، كون الأبناء في الأساس هم أولاد وطن مكون من أب يعمل أستاذًا للأدب وشاعرًا غيّبه الموت، وأُما تعمل أستاذة فلكلور وظيفتها الأساسية هي حفظ الجذور، أما الأبناء الثلاثة فهم منعتقون عن السياق تمامًا، الأول هو “ناصر” المجافي، والابن لقطيعة مدجنة، تتبنى أفكارها بواسطة سرديات تهدف باشتغالها أن تنمو “مثل نباتات شيطانية ومسمومة”، والثاني “يوسف” المتحكم الذي يحافظ على تطرف أفكاره مثل القابض على جمرة من نار، رأيه لا يحتمل الجدال كون صوته يعلو فوق الحوار، “مثل جدارًا مصمت لا يتخلله الضوء”، أما الثالث فهو “حمد” اللامبالي والذي يبقى على السطح دائمًا ولا يريد أن يتورط في أي اشكاليات أو أفكار مسمومة أو غير مسمومة، جدليةٍ أو غير جدلية، “هو استعارة تفتقد للمجاز”.

فنحن أمام نص تُشكل فيه الاستعارات هامشًا لتصورها نحو الحكاية، تنبث في النص لتوضع بين علامتي تنصيص، كأنها تتهكم على محكيتها من أعلى، غير أنها أحيانًا ما تخون بعض السياقات لتضبط لحظة الفلاش باك بها كعلامة غائيةٍ للحظة الراهنة، يشكل فيها الزمكان عُنصر ترابط  سردياتها المجهولة و المُعلنة، ولتقايض كل ما لا يقال بتخوم زمنٍ راهنٍ وجدلي، وبصوت خافت تثير به ايقاع الحكاية في “متوالية راديكاليةً عرجاء” هي ما تحتاجه كل حكاية محرضةٍ لتكون ذات جدوى.

ومن هذا المنطلق تَرسم بثينة العيسي حواريتها مثل ملصق يخبئ وراءه حقيقة مجهولة، كأن حوارها هو وسيط لحوارٍ آخر ـ  الفكرة تحاورها الفكرة – قد تحتك معها، وقد تنتج عن احتكاكها قنبلة موقوتة، تقبع على مائدة الحوار، تبقى فيها الأم وطنًا ينبذه أبناؤه ولا يريدون أن يكونوا امتدادًا لجذوره، مثل بذرة فاسدة لن تثمر أبدًا مهما سقيتها، وستبقى كأي أم أو وطن، تنهار حصونه الآمنة حين ينبذهُ أبناؤه ويمقتونه، لتبقى هزيلةٍ وهشة، وتسطيع أي فكرة شاذةٍ أن تحتلها بسهولة.

رواية “دار خولة” هي حوض أسماك فارغ يبتلع المجاز حكايتها كاملة، لا حياة فيها سوى شظية متطايرة لقذيفة حرب حطت في وعاءها اليابسة، وليأتي من لم يدرك حيثياتها منذ البداية “حمد” ليلوذ بنجاةً غيبيةً سقطت سهوًا أو عن عمد لتغلق على ما تبقى من خواء، وجودًا رمزيًا للأمل، وليبقى الأفق الذي تسير فيه الأفكار نافذة لتناص يتحسس مكان السؤال في أي ثقب سيقطن فيه المعنى دون مجاراة للهامش، ودون الوقوع في فخ الصوت الأول للصراخ دون أن يعي سياقات الألم، فالراوي على دراية واضحة منذ البداية أنه سيسعي جاهدًا ليقطع شوطًا للأمام بحثًا عن الحكاية، وفي المقابل سيسعى القارئ جاهدًا ليقطع شوطًا إلى الوراء بحثًا عن المعنى.

 

اقرأ أيضاً:

“دار خولة” لـ بثينة العيسى: غَرَقُ سمكةٍ في الماء

“دار خولة” لـ بثينة العيسى: غَرَقُ سمكةٍ في الماء

أبناء بالغون لأمٍّ مختلفة.. في “دار خولة”

أبناء بالغون لأمٍّ مختلفة.. في “دار خولة”

 

مقالات من نفس القسم