حاوره: ناصر أبو عون
في سبتمبر من كلّ عام تشتعل المواجيد، ويشِبُّ الأدباء العرب على أطراف أصابعهم مثل “راقصة باليه”، وتسطيل آذنهم مثل “فيلٍ”، وتتمدد أعناقهم مثل “زرافةٍ”، وتخفق قلوبهم مثل “مراهقةٍ عرفت العشق من قُبلةٍ عابرة”، وتَتَشوّفُ عيونُهم شاشاتِ التلفزة تشوقًا لسماعِ فوزِ “أدونيس″ كاهنِ قصيدةِ النثرِ العربيّةِ بجائزةِ “نوبل” الذي سجن “منجزه النقدي والنَّظريّ” في “مقبرة فينيقية” عتيقة واقتصر منجزه على”تقديمِ مفهومِ قصيدةِ النَّثر”؛ كما رآه لدى سوزان برنار.. بينما على “نوبل” أن تذهب مختارةً لتَحُطَّ على استحياء في “محراب” الشاعر والناقد المصريّ شريف رزق الذي كرّس جُلّ وقته وعلى مدار عشرين عامًا في حرث أرض الشعر العربيّ بـ”فأس الحداثة وما بعدها”، وغرْسِ، واستزراعِ نظرية “قصيدةِ النَّثرِ العربيَّة” في مشهدِ الشِّعريَّة العربيَّة، عبر منجزِها العربيّ، في تحوُّلاتِهِ المتعدِّدةِ، ورؤاه، ومفهوماتهِ، وتيَّاراتهِ الزَّاخرة، وما صاحبَها من أفكارٍ ورؤى شعريَّةٍ، ومازال يعملُ بشكلٍ مستقلٍّ تمامًا تكريسًا لنظريةٍ هذا الشَّكل وتحوُّلاتها وجماليَّاتها، وقدّم رزق للمكتبة النقديّة “أسفارًا” عشرة هزّتْ الثوابتْ، وكشفتْ زيف المقدّس لدى أدعياء النقد وسدنته؛ كان من أهمها: “الأشكال النَّثر شعريَّة في الأدب العربي“ و“قصيدة النَّثر في مشهد الشِّعر العربي“. و“شِعرُ النَّثر العربيِّ في القرنِ العشرين”، و“آفاق الشِّعرية العربية الجديدَة في قصيدة النَّثر”، “قصيدة النَّثر المصريَّة: شعريَّات المشهد الجديد“،بالإضافة إلى مشروعه الشِّعريِّ، الذي استطاع عبره تجذير وجوده عميقًا في حقل الشعر العربيّ وفي القلب منه جيل الثمانينيات متمردًا على الحرس القديم الذي شاخ على وتد القصيدة واستلذّ المكوث أسيرا في دائرة الشعر الأولى والبدائية، نحن نأمل أن تراوح جائزة نوبل (عنصريتها)، و(جيتوهات) الصهيونية العالميّة، وتحطم قيودها، وتذهب إلى “ديوان العرب” وتحطّ في حجر شريف رزق الذي قدّم للمكتبة الشعريّة رزنامة من الأعمال الشعرية التي من أهمها: “لا تُطفِئ العتمة”، و”الجثَّة الأولى” و“عزلة الأنقاض”، و“مجرة النهايات”، وو”حيوات مفقودة” وغيرها… وقد التقيناه ودار الحوار التالي……….
اشتغالك وانشغالك بالنقد ألا يخلو من مسحة تحيز وخاصةً فيما تبديه من منافحة عن قصيدة النثر بلغت ذروتها إلى خطوط التماس والاصطدام مع قوى المحافظين وتناهت إلى حدّ الاستماتة في سبيل تصدِّرها للمشهد الإبداعي أم إنّ القضية مشروع أكاديمي يستهدف استكمال مسيرة أدونيس، وأُنسي الحاج أم إنها محاولات مخلصة مشفوعة برغبة محمومة في القيام بعملية غرس واستزراع نظرية “قصيدة النَّثر العربيَّةِ” في حقل الدِّراسات النَّقديَّة.
*** بالإضافة إلى مشرعي الشِّعريِّ، أسعى، في مشروعٍ مواز، إلى ترسيخ نظرية شعر النَّثر العربي في مشهد الشِّعريَّة العربيَّة، منذ بداياته التَّأسيسيَّة حتَّى وقتنا الرَّاهن، مشروعٍ أنجزت منه، حتَّى الآن، سبعة كتب، هي المرجعُ الأساسُ في بابِها لدراسةِ القصيدِ النَّثريّ العربيّ، وكثيرٌ من الكتبِ والأطروحاتِ التي أتتْ من بعدِها اعتمدت علَّها بالإشارة إليها، أو دونَ الإشارةِ!، وحقيقةُ الأمرِ أنَّني لم أستكملْ بها مشروعَ أدونيس ولا أُنسي الحاجّ عن شعريَّتها؛ فإنجازهما النَّظريّ في رأيي يتركَّز في تقديمِ مفهومِ قصيدةِ النَّثر؛ كما رآه كلٌ منهما لدى سوزان برنار، وقد حاولَ الشَّاعرانِ العربيَّان، وبعضُ زملائهما، وأتباعِهما، التَّأسيسَ لهذا المفهومِ في مشهدِ الشِّعريةِ العربيَّةِ، عبْرَ فضاءِ مجلَّة “شِعْرِ” اللبنانيَّةِ، أمَّا ما فعلتُه، وأفعله، فهو ما تدعوه أنتَ بغرْسِ واستزراعِ نظرية “قصيدةِ النَّثرِ العربيَّة” في مشهدِ الشِّعريَّة العربيَّة، عبر منجزِها العربيّ، في تحوُّلاتِهِ المتعدِّدةِ، ورؤاه، ومفهوماتهِ، وتيَّاراتهِ الزَّاخرة، وما صاحبَها من أفكارٍ ورؤى شعريَّةٍ، أكرّسُ وقتي منذ ما يزيد على العشرين عامًا لهذِه الغايةِ، وأعملُ بشكلٍ مستقلٍّ تمامًا تكريسًا لنظريةٍ هذا الشَّكل وتحوُّلاتها وجماليَّاتها..
نأمل في تزويد القاريء بملخص بانورامي مكثف للمشهد الإبداعي في مصر بأنواعيته، وتعدد مساراته، وتباين خطوطه بعد ثورة يناير، ومدى تأثيرات (الفوضى الخلاقة)، أو ما أطلق عليه علي منصور في قصيدته اصطلاحا (كراكيب) على خارطة المشهد، ودور المؤسسات الثقافية في ترسيخ (الانحطاط) في ذاكرة المصريين؟ وهل يمكنك الكشف عن سوأة (الحداثة وما بعدها) وانعكاساتها على المنتوج الإبداعي المصريّ بوجه عام والشعريّ بوجه خاص؟
*** نحن نعيش في مرحلة الحِراك الثَّوريِّ، وفترةً انتقاليَّةً تهتزُّ فيها كلّ الثَّوابت بعنف، وتمتدُّ مرحلة التَّحوُّل الثَّوريّ لتشملَ مختلفِ جوانبِ الحياةِ؛ ومنها الممارسة الإبداعيَّة والنَّقديَّة؛ فكلّ ما يستقرّ كيقينٍ جديدٍ سَرْعَانَ ما يلحقه الانهيار، لقد كانت ثورة يناير مُلهمةً ورفعتْ الرُّوح المعنويَّة إلى أقصى الذُّرا، و سَرْعَانَ ما انهارت وتشظَّت آمالها؛ فأسبابُ الثَّورة تعود بقوَّة ومَنَعَة، والأحلامُ تُجهَضُ، والثَّورة لا تنتهي جُذوتها على الرَّغم من الحصارِ الخانقِ، وأغلبُ ما رُوِّج باعتبارِه أدبَ ثورة هو أدبُ مناسبات، ومتابعات تاريخيَّة للحدث في صورة إبداعات أدبيَّة، وقدْ انهارت قيمتُه بسبب أنَّه لم يتحصَّن سوى بالحَدَثِ التَّاريخيِّ الذي سرعان ما انهار واحتاج انبعاثةً أخرى، في ظلِّ مؤسَّساتٍ ثقافيَّةٍ بعيدةٍ عن الحِراكِ الإبداعيِّ الحقيقيِّ، بلْ مقاومةٍ له، وتمارسُ إقصاءَه عنِ المشهدِ؛ عبْرَ التَّكريس لمَن ترضَى عنه؛ فالمشهد الأدبيُّ الرَّسميُّ تحكمه عوامل سياسيَّة وتُديرُه الرَّجعيَّة وعملاء الأجهزة الأمنيَّة، كما يحدثُ في أجهزةِ الإعلامِ؛ فالصَّوتُ الوحيدُ المسموحُ له – رسميًّا- يُمثِّلُ النِّظامَ لا مشهدَ الشَّعبِ، والمشهدُ يمتلئُ بشتَّى التَّناقضاتِ؛ حيثُ تتزاحمُ فيه الأشكالُ، والرُّؤى القديمةُ بجوارِ الجديدةِ، والمزيَّفون بجانبِ الحقيقيُّون. والطَّفرةُ الحقيقيَّةُ في هذه الأشكالِ توجدُ في القصيدِ النَّثريِّ؛ الشَّكلُّ الأكثر طواعيةً ومرونةً، وتبدو في مشهدِهِ الشِّعريِّ أسماءُ عديدةُ من عدَّةِ أجيالٍ، تُساهمُ في إحداثِ انعطافةٍ جديدةٍ في مسارِ الشِّعريَّة الجديدة؛ منها أسماءٌ من جيلِ السَّبعينيَّات لا تزالُ فاعلةً، ومنها: أمجدُ ريَّان، وفريدُ أبو سعدة، ومنها من جيل الثَّمانينيَّات: علي منصور، وإبراهيم بجلاتي، وإبراهيم المصري، ومنها من جيل التِّسعينيَّات: عماد أبو صالح، فتحي عبد السَّميع، أشرف يوسف، عصام أبو زيد، محمود خير الله، ومن أحدث الأجيال: خالد حسَّان، عبد الغفار العوضي، محمد القليني، أسامة بدر، أحمد عبد الجبَّار، محمد مختار، محمد رياض، أحمد أنيس، رغدة مصطفى، وغيرهم..
يتناقلُ ثُلَّةٌ من المحافظين القولَ بـ(استقلاليِّةِ قصيدةِ النثرِ)، ولايكتفون بذلك بل يشتغلون على بروباجندا لا تخلو من الدسيسةِ وربَّما هناكَ اتفاق تآمريّ مُبَّطْن من (الكَتَبَة)، و(المُسْتَكْتَبِينَ) لإخراج (قصيدة النثر) من دائرةِ الشعريّة العربيّة.. فبماذا ترد عليهم؟!
*** المحافظون؛ سواء من الأكاديميّين أو من المحسوبين على المشهدِ الإبداعيّ، يرون في نوع “قصيدة النَّثر” نوعًا مستقلاًّ، وهم يهدفون إلى الحفاظِ على مفهومِ الشِّعر، كما وصلَنَا، وكما توقَّف وعيهم وقناعتهم عنده، وهي محاولةٌ بائسةٌ، من عقولٍ توقَّفَ وَعْيَهَا عندَ مراحلَ تأبي أنْ ترى غيرَ ما تعلّمَتْه، وتربُطُه بأغراضٍ دينيَّةٍ أو سياسيَّةٍ، تقحمها على قضيةِ الشِّعرِ، وهي عقولٌ غيرُ قادرةٍ على النِّقاش، ولا تختلفُ عن فكر التَّكفيريّين؛ فهذه سلفيةٌ أصوليَّة وتلك أيضًا، هم يمارسون عنفَ السَّلفياتِ “الجهاديَّة” بأشكالٍ متعدّدةٍ، ولا أرى هذا غريبًا؛ فالرَّجعيَّةُ السَّلفيَّةُ لا تزال تُهيمنُ بدرجاتٍ ومسمّيات عديدة على مُجْملِ المشهد العربيِّ… ماذا تفعلُ مع أناسٍ لا يدركون أنَّ القضيَّةَ التي يتعصَّبون إزاءَها قد حُسِمَتْ، بأشكالٍ متعدِّدة، على مدارِ أكثرَ من قرنٍ، ليسَ في مشهدِ الأدبِ العربيِّ وحْدَه؛ بلْ في مختلفِ الشِّعريَّاتِ الأخرى؟… وردِّي المُفصَّل عليهم جميعًا هو كتبي في هذا الشَّأن..
منذ ثمانينيات القرن العشرين ويطرح المنظِّرون رؤى تطالبُ بتجديدِ الخطابين (الدِّينيّ والإبداعيّ)؛ بينما يغضُّ هؤلاء الطَّرْفَ عن فداحاتِ النِّظام السياسي وجرائمهِ في حقِّ مصر والمصريين والذي صدَّر لهم جماعة من”المتثاقفين والحراشف الثقافيّة” التي نمت واستطالت وتبرعمت ثمّ تكلست على يمين ويسار نظام يوليو الذي فقد صلاحيته (Expiration Date).. ما رأيك في لعبة (تجديد الخطاب) هذه؟!
الدَّعواتُ المُتكرِّرةُ لتجديدِ الخطابِ الدِّيني لها أغراض سياسيَّة؛ ولهذا يُلاحَظ أنَّها تتمُّ من مُؤسَّساتِ السُّلطةِ الحاكمةِ وموظَّفيها، في الظَّاهرِ يرفضون خلطَ الدِّينِ بالسِّياسة وهم يُكرِّسون لهذا على طريقتهم، جميعُ الأطرافِ المُتصارعةِ تلعبُ بورقةِ الدِّين، من منظوراتٍ مختلفة، في وسط واقع ملتهبٍ وخانقٍ ومُحاصَرٍ بالفقر والقمع وانعدام الدِّيمقراطيَّة وانتهازية النُّخب السِّياسيَّة والثَّقافيَّة التي احترفت الدِّعارة السِّياسيَّة والإعلاميَّة والثَّقافيَّة..
في محاولة لإبراز هوية النقد العربي تساءل أحد الباحثين: هل طرأ تحول (ما) على مواقف النقاد العرب بعد قرن كامل؟ وهل جرى فحصها وتأمل حصادها؟ وهل جرت مراجعات للمفاهيم والأهداف والمقولات والأدوات والخطوات الإجرائية؟ أم إن الأزمة المنهجية المزمنة على مشارف القرن الجديد ازدادت استفحالا وتزداد مخاطرها؟، وما رأيك في رأي البعض أن النقد المغربي يتفوق على النقد المشرقي؟… كيف ترد عليه؟
*** واقعُ الأمرِ إنَّني أشكُّ في وجودِ مشروعٍ نقديّ عربيّ، وأشكُّ أنْ توجدَ له هويَّة، ولمْ أقتنعْ بوجودِ نظريَّةٍ نقديَّةٍ عربيَّةٍ كما ادَّعى البعضُ، وحقيقةُ الأمر إنَّني لا أرى هذه الهويَّة العربيَّة سوى في بعضِ الإبداعاتِ العربيَّة، ومنها رواياتُ لنجيب محفوظ وأخرى لجمالِ الغيطاني وأعمالٍ شعريَّة لمحمد عفيفي مطر؛ منها “أنتَ واحدُها وهي أعضاؤك انتثرتْ” و: “رباعيَّةُ الفَرَح”، ولكن عولمةَ النَّظريَّات والشَّكلِ هي الأساسُ دائمًا، والنَّقدُ العربيُّ عبْر قرنٍ من الزَّمانِ قد حاولَ التَّمسُّك بهويَّتهِ أحيانًا عبْر استعادةِ التُّراثِ النَّقديَّ، والرَّبطِ بين البنيويَّةِ وعبد القاهر الجرجاني، واستعادةِ آراءِ الجاحظ وابن قتيبة وسواهما، وعبْر قضيَّة “الأصالة والمعاصرة”، كما حاولَ أيضًا الالتحامَ بجديدِ الفكرِ النَّقديِّ ونظريَّاته، في اللغاتِ الأخرى، ولكن دعني أقول لك: إنَّ معظم ما نُدخله في بابِ النَّقد ليس نقدًا، ودعني أميِّز بين ثلاثة خِطاباتٍ تُقدَّمُ باعتبارها نقدًا: أمَّا الخِطاب الأوَّل: هو ما يُقدَّمُ في المتابعات الصِّحافيَّة، في الصُّحف والمجلاَّت؛ للتَّعريف بالمُنتج الأدبيِّ، أمَّا الخِطاب الثَّاني: فينحصر في الدِّراسات النَّقديَّةِ التي تُقدَّم في أطروحاتٍ جامعيَّة تتناول ظواهرَ إبداعيَّةٍ ولسانيَّةٍ في الخطاب الأدبيِّ، والخِطاب الثَّالث: فهو النَّقد الأدبيُّ الذي يلتحم الخطابُ النَّقديُّ فيه بآليَّات الخِطاب الإبداعيِّ، ويرصد مكوناته البنائيَّة والجماليَّة، المُشكِّلة لخصوصيَّة الخِطاب الإبداعيِّ، ومدى إبداعيَّته.
وهذا الخطابُ الأخيرُ هو الخِطابُ النَّقديُّ الحقيقيُّ، بين الخِطابات الثَّلاثة، ويُلاحَظ أنَّ مُعظمَ رموزه أتوا من جهاتٍ إبداعيَّة، ويبدو هذا، بدرجاتٍ مُتفاوتةٍ، لدى: طه حسين، ومحمد مندور، ولويس عوض، وشكري عيَّاد، وعزّ الدِّين إسماعيل، وعبد القادر القط، وفاروق عبد القادر، وإبراهيم فتحي. وبهذا المعنى لا تُعدُّ كتب، مُهمَّة، لمن اصطلح عليهم بالنُّقاد، نقدًا بالمفهوم الدَّقيق، ومنها: “مفهوم الشِّعر” لجابر عصفور، و”بلاغة الخِطاب وعِلم النَّصّ” لصلاح فضل، “الأسلوبيَّة والأسلوب” لعبد السَّلام المسدي، “الخطيئة والتَّكفير، من البنيويَّة إلى التَّشريحيَّة” لعبد الله الغذَّامي، “في نظريَّة الرِّواية” لعبد الملك مرتاض، “مُقدمِّة في نظريَّة الأدب” لعبد المنعم تلِّيمة، “بناء الرِّواية” لسيزا قاسم، “تحليل الخِطاب الرِّوائي: الزَّمن- السَّرد- التَّبئير” لسعيد يقطين، “بنية الشَّكل الرِّوائي: الفضاء- الزَّمن- الشَّخصيَّات” لحسن بحراوي…فهذه الأعمالُ، وسِواها، دراساتٌ نقديَّة، نظريَّة، ويُلاحَظ أنَّ عددًا من هؤلاء(النُّقَّاد) قد انتقلوا من دائرةِ “النَّقد الأدبيِّ” إلى دائرة “النَّقد الثَّقافيِّ”.
ويُلاحَظُ، أيضًا، أنَّ أجيالاً مُتعدِّدةً من دارسي الأدب، تتعاقبُ في المشهد، وليسوا، بالضَّرورة، نُقَّادًا؛ ولكنَّهم يحاولون التَّواجُد باعتبارهم نُقَّادًا، ويُؤدُّون أدوارًا نقديَّة. وعلى الرَّغم من أنَّنا نستطيع أن نرصدَ أجيالاً عديدةً من المبدعينَ، في كلِّ نوع أدبيٍّ، فإنَّنا لا نستطيع أن نتحدَّثَ عن أجيالٍ من النُّقاد، أو عن نقدٍ فاعلٍ في المشهد. وحقيقةُ الأمرِ أنَّه لم تُوجَد حركةٌ نقديَّةٌ، على مدار القرن الذي تشير إليه، في مصرَ، أو غيرها؛ بلْ وُجدَتْ جهودٌ نقديَّةٌ محدودةٌ على فتراتٍ، ووُجدتْ حالةٌ نقديَّةٌ، مع انطلاقِ مجلَّة “فصول” في مُنتصفِ الثَّمانينيَّات، وفي التَّسعينيَّات، أمَّا القولُ بأنَّ حركةً نقديَّة اضطلعتْ بمواكبة التَّحوُّلات الإبداعيَّة، ورصدتْ تجلِّياتها الخاصَّة، فهو ما لم يتحقَّق في فترةٍ من الفتراتِ.
أمَّا القولُ بأنَّ المشهد النَّقديَّ المغربيَّ يتفوَّقُ على نظيره المَشرقيِّ، وفي القلب منه المشهدُ المِصريُّ، فهو غيرُ دقيقٍ، وفيه تعميمٌ؛ فحقيقةُ الأمر أن المشهدَ النَّقديَّ مُتأخِّرٌ عن المشهدِ الإبداعيِّ في شتَّى أنحاءِ الخريطةِ الأدبيَّة العربيَّة، وما يبدو عن تفوُّق المغرب يبدو، فقط، في نقلِ جديدِ النَّظريَّاتِ النَّقديَّةِ الغربيَّةِ، حدثَ هذا في نقل نظريَّات البنيويَّة، وما بعدَها، والحداثة، وما بعدَها، ونظريَّات السَّردِ، وظهرَ هذا في دراساتٍ نقديَّة تتبنَّى فلسفة ورؤى هذه النَّظريَّة، ولكنَّها لم تتواشجْ تواشُجًا عميقًا مع طروحاتِ الخِطابِ الرُّوائيِّ والشِّعريِّ والقصصيِّ، وهيَ دراساتٌ نظريَّةٌ حاولتْ تطبيق أُطرٍ ورُؤى نظريَّات غربيَّة، على المُنتجِ الإبداعيِّ العربيِّ، قديمه وجديده، ويقف في مواجهةِ هذا التَّيَّار، تيارٌ آخرٌ اعتمد المرجعيَّة التُّراثيَّة البلاغيَّة العربيَّة، وحاول تطبيقَها على المُنتجِ الإبداعيِّ العربيِّ الجديدِ، ويبدو هذا لدى محمد عبد المطَّلب، وكلا التَّيَّارينِ يشتركانِ في أنَّهما لا ينطلقانِ من آليَّات الخِطابِ الإبداعيِّ، واكتشافِ إجراءاتِ بناءِ خِطابِهِ الخاصِّ.
اهتمامك بجمع (التراث النثري) للشاعر أحمد راسم (1895 – 1958) وإن كان يؤكد على ريادة مصر في قصيدة النثر إلا أنه كشف عن عمق وتجذّر الخطاب الإقصائي في الثقافة المصريّة منذ الفراعين الأوائل رغم الموجة الحضاريّة الاستثنائيةالتي ضربت شواطيء المحروسة عام 1805”..في رؤية استشرافيّة هل تتوقع اقتراب ساعة الخلاص أم إن الوقت مازال مبكرًا وسيظل المصريون يتجرعون وخاصة المبدعين كؤوس التبعية والاستلاب الممنهج؟
*** إنَّ اهتمامي بجمْع الآثار الشِّعريَّة الرَّائدة لأحمد راسم في شكلِ القصِيد النَّثريِّ، هو جزءٌ من اشتغالي على تجربةِ القصيدِ النَّثريِّ العربيِّ، والحقيقةُ أنَّ راسمَ كان واحدًا من عديدين قدَّموا هذا النَّصَّ؛ كاقتراحٍ شِعريٍّ عصريٍّ موجودٍ في العالمِ الجديدِ، وقد واجه راسمُ ردًّا عنيفًا من رموزِ الكلاسيكيَّة في عام 1922 ممَّا حدا به إلى الهجرة ِإلى الشِّعريَّة الفرنسيَّة؛ التي أصبحَ من رموزِ طليعتها؛ غيرَ أنَّ الإقصاءَ الذي واجهه قد دفعَه إلى التَّخلُّصِ من تجربتهِ الرَّائدةِ في الشِّعريَّةِ العربيَّةِ، وقد قمتُ بإحياءِ تجربتِهِ بعدَ نحو تسعين عامًا، وأشيرُ إلى أنَّني قد كتبتُ عن آخرين، أصبحتْ أعمالُهم الشِّعريَّةِ الطَّليعيَّةِ مجهولةً، ومنهم كامل زهيري؛ الذي كان من رموزِ السِّرياليِّين المصريِّين في الثَّلاثينيَّاتِ والأربعينيَّاتِ، وأذكرُ أنَّه سأل حلمي سالم، رحمه الله، عنِّي، وأنَّه سأله من أينَ أتيتُ بشعره؟ وأنَّه ليس لديه منه شيءٌ! وأنا أرى أن الطَّليعةَ تكسبُ في النِّهاية، وأنَّ الإقصاءَ لم ينجحْ مع الطَّليعةِ عبْرَ العصورِ، وأرى أنَّ الطَّليعةَ الحقيقيَّةَ ستظلُّ تُناضلُ؛ كما ناضلَ أسلافُها، وعلى الرَّغم من كل المعوِّقات فهيَ تنتصرُ دائمًا.
“إنَّ مصر الكبيرة تتقزَّم على أيدي هؤلاء وهؤلاء ومَن أتى بهم، ولكنَّ الإبداع الشِّعري المصريّ الحقيقيّ الحرّ سيظلُّ فاعلًا خارج المؤسَّسة الثَّقافيَّة الخرِبة”. ما دوافعك لوصف تشكيل لجنة إعداد ملتقى القاهرة الدّولي الرّابع للشِّعر بمثابة الجريمة في حق الشعر المصري؟
*** لجنة الشِّعر لا تُمثِّل إلا رجال الدَّولة المَرْضِيّ عنهم، وهمْ في الغالبِ من المُسنّين مِمَن كانَ لهم حضورٌ في المشهدِ الشِّعريِّ يومًا ما، ولكنَّهم ينتمون ويعيشون في عصرِ آخر، ويعاونهم بعض الخدم من الأدعياء المحسوبين على الشِّعر، ويعاونُ هؤلاء وهؤلاء بعضُ المخبرين من معدومي الشَّرفِ والإبداعِ؛ ولهذا رأيتُ في هذا الجمْع مؤامرةً على الشِّعر المصريِّ، وهذا وضْع طبيعيٌّ جدًّا في مختلف مؤسَّسات وزارة الثَّقافة، و ليس غريبًا في المرحلة التي نحياها، ولكنَّه وضْع لا يتغيَّر داخل هذه اللجنة بالتَّحديد لا يرْضَى به سوى من ينتظرون بعضَ الفُتات من حولِ الموائدِ، واللجنة لا تُمثّل الشِّعر المصريّ، وما تُقدِّمه لا يُمثّل إلا أصحابه، أمَّ الشِّعر المصريّ الحقيقيّ حاليًا فمستقلٌّ تمامًا عن هذه المؤسَّسة ولا تعنيه في شيء، المشكلةُ الوحيدة أنَّهم يتحدّثون باسم الشِّعر المصريّ..
في ديوانك الأخير «هواء العائلة» – ثمة ملامح للهايكو الياباني وتنصلٌّ من الثرثرة الشعرية.. لكن لوحظ أنك لا تعنون القصائده، وتكتفي بالرقمنة والتجزيئات والتقطيعات.. أليس ثمة خصوصية في البناء والشكل لقصيدة النثر المصريّة على نظام الهايكو الياباني؟
*** في هذه الدِّيوان؛ وهو قصيدٌ واحدٌ في مقطوعات شعريَّة، تهيمنُ بنيتانِ شعريَّتان؛ بنية التَّشذير الشِّعريِّ؛ عبْر نصوص شعريَّة شديدة الاختزال والوجازة، وبنية شعر الحكاية؛ عبْر التَّوسُّع في آليَّات البنية السَّرديَّة، وفي الحالتينِ تسعى التَّجربة إلى تأسيس تاريخ شخصيٍّ شعريٍّ يستحضرُ حيواتٍ وذواتٍ ومواقف وأماكن وتواريخ عائليَّة ذوَتْ، ونظرًا لطبيعة التَّجربة لم أستخدمْ العناوين الدَّاخلية، أمَّا عن قضيَّة الشَّكل في قصيدة النَّثر المصريَّة، فدعني أقول لك إنَّها، حاليًا، قد خرجتْ على كهنوت الشَّكل، والتحمتْ بخطاب الحياة اليوميَّة وسرديَّاتها الشِّفاهيَّة، وتحرَّرت تمامًا في سعيها الدَّائم لخلْق أشكالها الشِّعريَّة، بحُريَّة لم تتحقَّق من قبل.