جمعة اللامي
إهداء/ إلى صديقي بول نيـزان: سنبقى معاً نردّد حكمتك الكاملة “كنتُ في العشرين من عمري. لن أسمح لأحد أن يقول إن هذه هي أفضل سنوات حياتك”.
زميلاتي… زملائي!
هذا يومٌ مائزٌ من أيام عمري.
أقولُ بهذا، وأنا ارغب ـــ وأتمنى أن تنظروا معي إلى حافاته التي أريدُ لها أن تكون في إِعلاني وإِسراري، غير قابلةٍ للانتهاء: إنه يومٌ طويل، لأنه يُعيدني ويَعود بي، إلى العراق: سُرَة أهل العقل، مَجرّة المَعارف، ومثابة الهرامسة والفقراء السعداء.
وهو يوم طويل جداً لأنني سوف أكشف أمامكم، ظاهر وباطن ثقافة “المستنقع “في السجن السياسي في بلادنا.
وبعد هذا وذاك، لأنّ جائزة تنتظرني بعد أَزيَد من ساعتين بقليل، أَلا وهي وقوفي بين أيديكم، أيها الأدباء والأكاديميون والفنانون، حيثُ الاستماع إلى خطابي هذا، والانتباه إلى ما يقوله أهل الفكر والأدب والفن في شأن تجربتي الأدبية والثقافية والأخلاقية. وهذه مُنية كلِّ كاتبٍ مُبدعٍ يحترم نفسه وإبداعه، كما قال البير كامو، بينما كان يتسلّم جائزة نوبل في ستكهولم: “إنّ كل ّفنّان يشتهي أن يُذاع صيته”.
وفي هذه اللحظة الزمنية الفارقة في عمري ـ وأنا على أعتاب السنة الثمانين، وبينما جسدي يتعرّض لغزو الكائنات الكونيّة التدميريّة العمياء، أُعلن أمامكم وفي هذا الصرح الاكاديمي المرموق:
ـ “ها هي حكمة الشامي، يعود الى الحياة “، وأنّ العسس الثقافي، ووكلاء اندريه اليكساندروفيتش غدانوف Andrei Alexandrovich Zhdanov قَد انهزموا في بلادنا، وانتصر المنشقّون والمنبوذون والفقراء السعداء، كما انتصرت راية الحرية وحقوق الأنسان.
(1)
أنا أتديَّن بثقافة الحُـريّة: الحرية ديني النهائي، إذا كان ثمّة ثقافةً تسمى ديناً في هذه الألفية الثالثة في عمر الإنسانية. وهذا البيان يتمنّى على صاحبه أن يكون بليغاً، أي وجيزاً على وفق رؤية الإمام عليّ بن أبي طالب، يتمنى كذلك أن يكون سارداً بين ايديكم أيضاً، حسبَ رؤية السارد البليغ عبد الله بن المقفّع.
وهكذا، سأُروي أمامكم، أخواتي وأخوتي، زميلاتي وزملائي: أنا ابن الطبيعة الخالدة التي أنجبتني لأكون سارداً لما فيها من جمال لانهاية لحافاته، يتطلب مني أن أتحدث في شأنها على وفق نمط أخلاقي في الحرية والمسؤولية، كما هي تجاريبي في السجن والمنفى: المنفى، بل السجن في تلخيص نادر أيضاً، هو الوطن المُميَّز للأحرار والحرية، على رغم التعذيب الجسدي والقهر والنفسي.
يبقى هذا الوصف ناقصاً حيال التجربة الواقعية والثقافية التي أحاطَت بها التجربة الثقافية والواقعية، للكاتب الروائي الفرنسي (بول نيزان) لأنه كان يعي واجباته وحقوقه إزاء ذاته، وحيالَ الذين يحملون اهتماماته ذاتها، ومعهُ أولئك الذين ينشغلون بثقافة الحريات العامة وحقوق الانسان: كان نيزان مثالاً حيّاً وحيوياً، لذلك الكاتب الذي دعوتُ اليه في كتاباتي السردية والشعرية والسياسية منذ سنة 1964 في داخل السجن، وبعد ذلك في خارج السجن.
أنا أتحدث في شأن ” المستنقع” في السجن السياسي، أي ” السجن الآخر” غير المُتطرق اليه في آداب السجون العراقية، والمُهمل عن قصد في خطاب الحرية العراقي، رغم نقصان هذا الخطاب، أو شعبويته أَوغوغائيته في أحيان أُخرى.
إنني اتحدث هنا، بما هو أقسى من تجربة المواطن (حكمة الشامي) في مجموعة”من قتل الشامي”، التي كتبتُ معظم قصصها في سجن ” نقرة السلمان” الصحراوي وقدمتها لوزارة الثقافة العراقية في صيف سنة 1970 من أجل إجازتها، ولم يسمحوا لي بنشرها إلاّ بعد حذف عددٍ من قصص منها في سنة 1975، والتي اًعتبُرت “قصصاً سوداً ” وحُجرت في دهاليز الرقابة الرسمية ببغداد.
(2)
كتب المواطن العراقي “حكمة الشامي” في كشكول غير مُصرّح به للنشر، بل حتى غير مسموح به للتداول المحدود في أوساط ضيقة، عن تجربته الواقعية في “المستنقع” السياسي ما يلي:
كان ذلك الصباح عَكِراً. إنه صباح يوم الخامس من شهر حُزيران سنة 1967 في سجن الحلة المركزي. استيقظتُ مبكراً، وتناولتُ فطوري مبكراً، ووحيداً أيضاً، كما أمر بذلك أعضاء “اللجنة الإدارية للسجناء السياسيين” في سجن الحلة المركزي. ولكن الذي حدث بعد ذلك كان منظراً فريداً في نذالته، في تاريخ السجون السياسية في بلادنا.
تقدم نحوي المدعو (ميم – عبد العزيز) وخاطبني آمراً:
ـــ “اجمع أغراضك”.
ـــ ” لماذا؟”.
ـــ ” لا تسأل. اجمع أغراضك، بسرعة”.
كان عدد غير قليل من السجناء يمارسون رياضة المشي الصباحية، منهم الشاعر ألفريد سمعان والشاعر مظفّر النواب. ويبدو أنهما سمعا أوامر “ميم – عبد العزيز”.
ـــ “ماذا تريد منه؟” سأل ألفريد.
ـــ “سَيُنقلُ إلى قاووش السجناء العاديين”.
ـــ ” قاووش العاديين؟”.
ـــ “نعم، هذا هو قرارنا. وقد تفاهمنا بذلك مع إدارة السجن”.
ـــ “لماذا لم تخبرونا بقراركم هذا مسبقا؟”. سأل مظفر النواب مستوضحاً.
ـــ “يا الله. اسرع. اجمع أغراضك”.
استمر المسؤول الإداري في لهجته الآمرة.
جمعتُ ـ ببطء، أغراضي ووضعتها في منتصف ساحة السجن في بطانية عسكرية، فتجمع السجناء، وأخذوا يراقبون هذا المنظر الفريد: سجين سياسي، يأمر سجيناً سياسياُ بمغادرة فضاء السجن السياسي، الى قاووش السجناء العاديين بموافقة الإدارة الحكومية للسجن.
ـــ “ماذا تفعلون. هذا كاتب صاعد؟” قال ألفريد سمعان.
ـــ “هذا لا يَصحّ” قال مظفر النواب.
ـــ “هو مريض يحمل جراثيم تروتسكي وغيفارا وسارتر”.
وبعد لحظة صمت، واصل المسؤول الإداري للسجن حديثه متوجها الى الفريد ومظفر:
ـــ “إنه غير مرغوب به في جمهوريتنا: جمهورية نقرة السلمان”.
عند ذلك قلتُ له:
ــ”أنا ابن جمهورية نقرة السلمان. مكاني هنا، في هذه الساحة ولن أُفارقها الاّ على جُثتي”.
ثم واصلت حديثي وأنا أُحدق في وجه هذا الرجل الفاشي:
ـــ “أنا كاتب أعرف حقوقي وواجباتي”.
(3)
ربما يشير عنوان هذا الخطاب: المستنقع، إلى رواية للروائي الياباني “شوساكو أندو”. غير أنه ـــ أي العنوان، سوف يثير لدى المناضلين العرب الذين أمضوا زهرة شبابهم في سجون الأنظمة العربية في عقود الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ذكريات مؤلمة، حاولوا ويحاولون تجاوزها أو إيداعها أدراج النسيان، لأنها مريعة ـــ بل مذهلة حقّاً.
إن “المستنقع” يرتبط بالعزل السياسي، والإقصاء اللاّأخلاقي للسجين وتدميره، منهجيّاً، في سلسلة ثقافية وعقابية، داخل السجن كما في خارجه. وللوهلة الأولى، يبدو “المستنقع” سجناً داخل السجن: إنه مكان معزول ومنعزل، جغرافياً وأخلاقياً، يُجبَرُ عددٌ من السجناء السياسيين على المكوث فيه، ليواجهوا إدانة تامة، وعزلة تامة عن محيط السجن، بل حتى ليواجهوا مصيراً مجهولاً في لحظة ما ــ كما حدث معي شخصيّاً.
سَجينُ “المستنقع” ملعون تماماً من زملائه السجناء، وهو مغضوب عليه أيضاً من قبل إدارة السجن الحكومي، كناية عن غضب السلطة الرسمية، مهما كانت مواقفه اللاّحقة، ومنها قيامه “بِنَبذِ”ِ معتقده السياسي وصفته الايديولوجية. إنه وراثة أيديولوجية، حقاً، صدَّرتها الدعاية الثورية في روسيا البولشفية، وأعادت تصديرها إلى الشرق العربي، الأدبيات السياسية الأوروبية، لاسيّما في رواية سارتر الشهيرة: “دروب الحرية”: إن أجيال السجناء العرب في “نقرة السلمان” العراقي، والواحات” المصري، و”الجفر” الاردني، يعرفون تلك المأساة اللاّأخلاقية لذلك “المستنقع”، وبعض هؤلاء كان لهم يد طولى في تشييد أسواره ونسج أخلاقه.
في روايتي “المقامة اللاميّة” التي طُبعت ثلاث مرات في المغرب وقبرص والأردن، تناولت هذا الموضوع المسكوت عنه في الأدب العربي، وكان ذلك نتيجة مشاركة ومعايشة شخصية مباشرة لأهم رموزه وصُنّاعه: كنت أحد ثلاثة ممثلين للسجناء السياسيين في سجن “نقرة السلمان” سنتي 1963 – 1965 وكان هذا الوضع يسمح لي بالتعرف على “السِجل السرّي” لكثير من السجناء، فضلا عن الاطلاع على رأي لجنة السجن القيادية بالكثير من السجناء في ذلك السجن.
ولقد شعرت بغضب ضخم، بل بإحساس لا يمكن أن يصفه غير الذي عاش في مثل هذا السجن من الحزن والأسى، عندما أخبرني أحد المتنفذين في ذلك السجن، أن سجيناً جديراً بالاحترام من قبلي، قد نُقل من ” الردهة الرابعة” إلى” الردهة الأولى” في السجن الجديد، حيث مَقامُ عدد من السجناء الذين يوصفون بأنهم منهارون. في ذلك الوقت كان عدد السجناء السياسيين في سجن النقرة، يربو على ثلاثة (3) آلاف سجين سياسي، بينما عددنا نحن الذين لم نتعرض للانهيار في زنازين “الحرس القومي” الفاشي، نحو سبعين (70) سجيناً.
كان قولاً قاسياً ذلك الذي أخبرني به زميلي، ولم أجد له مبرراً، لا سيما أنني تعرفت مسبقا ً من خلال رواية سارتر: دروب الحرية”، على الإجراءات والإهانات اللاّأخلاقية التي يمر بها سجناء “المستنقع”. وعلى الفور، اتخذت قراري الخطير مع نفسي: الإستقالة من ” مهمة ” تمثيل السجناء السياسيين، وعصيان الأوامر بعدم التحدث مع “سجناء المستنقع”، بل وتبادل الكتب معهم. لكنني دفعت بالمقابل ثمناً فادحاً لإختياري.
تستطيع أن تصف آلاماً أكثر قسوة من التعذيب الجسدي، لكن أحداً لم يمرَّ بتجربة العزل في “المستنقع” السياسي، لا يستطيع التحدث عن هذه الكارثة.
وإضافة إلى هذا قررت ترك “التنظيم” السياسي، في رسالة خطية، أعلنت فيها أنني لم أعد أشرفُ أن أكون عضوا في تنظيم سياسي “يضطهد ” محازبيه بهذه الثقافة الفاشية وهذا الأسلوب النازي.
******
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ “ليلة التخنيث”، وما أدراكَ ما “ليلةُ التخنيث” في ردهات السجناء العاديين، حيثُ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مرعوبة راعبة (!). أنا أكتبُ عن تلك الليلة الرَعيبَةِ، التي كان بيني وبينها في الزمن والمكان، سوى صوت الشاعر الفريد سمعان:
ـــ ” هذا رفيقنا. هذا الفتى أمانة في رقابنا”.
وكان ذلك يعني لي صدّىً لثقافة الإستئصال والحقد والكراهية والشماتة، لولا صبري وجلدي واستعدادي لقبول الموت فرحاً مسروراً، كما علمني إياهُ مرشدي الأول، المصلوب عند باب الإمارة بالكوفة، كما صلب المسيح تماماً: مَيثَم التمّار.
توجّهتُ بصوتي إلى جمهرة السجناء السياسيين الذين كانوا يحيطون بي صامتين، ولا يقدرون على الحركة بوجه مسؤول ” اللجنة الإدارية ” في سجن الحلة المركزي. وسمعت روحي تنشد إلى روحي، مطلع نشيد المناضلين اليساريين وهم يتوجهون إلى أُمهاتهم بصوت واحد:
يا أُمّي لا تبكي عليَّ،
أنا المُناضل يا هَنِيَّ !
وعند ذلك شاهدتُ إشراقة وجه أمي تُنيرُ نهار السجن والسجناء، ومعها دموعي الصخرية، لتهزم قرار ترحيلي إلى ” قاووش السجناء العاديين ” في سجن الحلة المركزي…
(4)
زميلاتي، زملائي الكرام.
إن الشهيد (حكمة الشامي) الذي استمعتم إلى لفتة من لفتاته الآن هو أنا: الكاتب جمعة اللامي، الذي أتحدث اليكم في هذا اليوم الطويل في حياتي، وأنا أقترب من السنة الثمانين من عمري، بينما تنتظر الكائنات الوحشية والقوى التدميرية العمياء في الطبيعة إنتزاع قوة الحياة من جسدي الشائخ.
لقد آمنتُ، نعم آمنتُ مثل أسلافي شهداء الحرية والكرامة في بلدي العراق، أن بحثي عن مفهومي الخاص بي في الحرية والإبداع، خلف أسوار السجون، كما في خارجها، هو جوهر وجودي في هذا العالم، وكلماتي عندما أُرى وجه الله في يوم الفزع الأكبر، وهو رسالتي الى الأجيال الجديدة في العراق، لا سيما الأجيال التي لم يتسنَّ لها أن تتعرف على معاناتنا ــ نحن فتيان “جمهورية نقرة السلمان”، حين قمنا بربط موقفنا في الإبداع والحرية المسؤولة، بموقفنا من حرية الضمير وحقوق الانسان، في كل مكان على كوكبنا الأرضي هذا.
مَرحَباً أيَّتُها الحُريّة.
مَرحَباً أيها المُبدعون الاحرار.
الشارقة ـــ بغداد
14 مارس/ آذار 2022
…………………………………..
(*) نصّ الخطاب الذي وجهه القاص والروائي العراقي جمعة اللامي، إلى الأدباء والمثقفين العراقيين، لمناسبة اليوم الذي خصصته جامعة دجلة العراقية، تحت عنوان: جمعة اللامي… إنساناً وكاتباً، في 14 مارس 2022