“خمارة المعبد”.. رحلة للبحث عن الـذات بين القاهرة ودبلن

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد إسماعيل  

رحلة مضنية للبحث عن الذات، والخلاص من سنوات التيه في منطقة ضبابية، لا شرقية ولا غربية، يقطعها بطل رواية «خمارة المعبد» للكاتب المصري بهاء عبدالمجيد، إذ تتنقل الأحداث بين عاصمتين بعيدتين جغرافياً، وقريبتين روحاً، على الأقل في معاناة شعبيهما من مرارات الاحتلال الإنجليزي لعقود طويلة، حيث تدور فصول الرواية الصادرة حديثا عن دار ميريت بين القاهرة، والعاصمة الأيرلندية دبلن.

بداية، قد تتداعى إلى الذهن روايات كثيرة سبقت «خمارة المعبد»، وناقشت «أدبياً» العلاقة بين عالمين مختلفين، الشرق والغرب، وصورت الأزمات الحضارية والعقد النفسية والحيرة التي أصابت أبناء الجنوب، حينما وطئت أقدامهم أرض الشمال، ضائعين في البدايات بفعل الصدمة، وباحثين بعد ذلك عن صيغة للمصالحة، والنجاة من الخيبات، كما كانت حال أبطال «عصفور الشرق» لتوفيق الحكيم، و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، و«الحب في المنفى» لبهاء طاهر، وغيرهم.

ربما لم يشغل صاحب «سانت تريزا»، و«النوم مع الغرباء» نفسه بتلك المقارنات، إذ جرى في النهر ماء كثير، وشهد العالم ظروفا مختلفة، ولن تتوقف حكاية «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا» في الرواية العربية، لن تتوقف عند مصطفى سعيد، بطل «موسم الهجرة إلى الشمال»، ولا حتى عند معتز، الشخصية الرئيسة في «خمارة المعبد».

يؤكد بهاء عبدالمجيد أن «معظم شخصيات هذه الرواية من خيال المؤلف، وأي تشابه مع الواقع هو محض صدفة بحتة وهذا لرفع الحرج»، يأتي ذلك في ختام الرواية، في آخر الصفحات (256) على خلاف المعهود، إذ إن ذلك التنويه يستحق أن يكون في الصدارة، لكن هل ينفي الكاتب ـ على استحياء ـ أي تشابه بينه هو شخصياً وبين بطل الرواية تحديدا، لاسيما أنه توجد بعض السمات التي ستدفع قارئا ماً طالع سيرة الكاتب، إلى ملاحظة بعض التشابه بين الشخصيتين، خصوصاً في التخصص، وفي المحطات التعليمية، أم إن الأمر لا يتجاوز استثمار المبدع لجانب من تجاربه الذاتية، وخبراته الخاصة؟

بتركيبة شديدة الخصوصية، يبني بهاء عبدالمجيد، بطل «خمارة المعبد»، معتز الأكاديمي الذي يسعى للحصول على درجة الدكتوراه في الأدب الأيرلندي من منبعه، المثقف صاحب الذهن المتوقد، المحمل بإرث طويل، وتربية محافظة، وآمال عريضة يعلقها عليه الأهل الذين يعدونه منارتهم. لكن تصحو كل صراعات معتز النفسية في أيرلندا بعد سفره، تشعل الغربة حرائق كثيرة في وجدانه، تقلب هموما مستترة، تشرخ الروح، وتكشف تناقضاتها، خصوصا حين يخضع لاختبارات تتطلب منه خيارات صعبة، على الأقل من وجهة نظر صاحبها: «كان يريد أن يبقى النموذج الطيب والتقي كما كان يلقبه أبوه. فإنه من ذرية يوسف قاهر الغواية وصاحب الثوب الطاهر غير المدنس بالشهوة المحرمة».

تتساقط في الغربة كل الأقنعة، وتأتي لحظة المكاشفة، يستشعر معتز مدى هشاشته، يحصي حصاد حياته، فيجده لا شيء، يقسو على نفسه أحيانا، ويبدو متلذذا بذلك، لاسيما حينما يصطنع أزمة، ويستدعي ذكرى حبيبة، فتفسد عليه جمال اللحظة، ويعكر صفاء كان كفيلاً بتلوين حاضره على الأقل. يقول في إحدى فوراته النفسية «… إنني هنا (في دبلن) تائه بين الحقيقية والسراب، وبين الواقع والحلم، وبين الإيمان واللاإيمان، بين العفة والدنس والخطيئة، بين رغبات مكبوتة ورغبة مستحيلة للتحقق والخروج من أغلال الجسد والطبقة. ماذا سأقول فقير ومحتاج، ولكن هناك حلم أريد تحقيقه. أقول إنني أسقط في بؤرة اللاأنا، وإنني أعاني ازدواجا وإحساسا بالقهر اللانهائي وغير المبرر، أقول إن اختياراتي كلها خاطئة، وإنني لم أفهم من هو أنا! ولماذا أنا! سأقول إنني ضحية نفسي وأسرتي وبيئتي وبلدي الذي يئن تحت وطأة كثير من المشاكل والتخبط. أقول إنني عبقري أعاني نوبات جنون وعدم تحقق، وإنني لا أستطيع أن أميز أحيانا بين ما هو صالح وما هو طالح. أقول إن التاريخ ظلمني، وجسدي ظلمني، ولوني قهرني! ولغتي عائق وسد منيع بيني وبين الآخرين! سأقول إنني خائف ومتردد ومتوتر ومترقب وتملؤني الهواجس والوساوس والخيالات…».

وهكذا يستمر المثقف المأزوم في سرد آلامه عبر تداع حر، يمزج بين الهمين الخاص والعام، يخرج من حيز ذاته الضيق، يضع مأساته الشخصية في دائرة أرحب، ينطلق ليصور آلام كثيرين في هذا العالم.

وكما تتعدد الأمكنة والأزمنة في الرواية تتعد المستويات اللغوية، فالكاتب مدرس الأدب الإنجليزي في جامعة عين شمس، يعمد إلى التنويع في ذلك، فيصدر بعض الفصول بأشعار وفقرات لمبدعين غربيين ترجمها الكاتب، بالإضافة إلى محاولة التناص مع بطل بلوم بطل رواية عوليس للكاتب جيمس جويس. والاستشهاد بأشعار لأبي نواس والحلاج وغيرهما من الشعراء.

بين القاهرة ودبلن تدور فصول «خمارة المعبد»، ينطلق معتز بحلم كبير إلى العاصمة الأيرلندية، وهو الحصول على درجة الدكتوراه، تاركاً وراءه في مصر حبيبة (سهام) لم تلتفت إليه، واقترنت بسواه، وفتاة أخرى (حنان) حاولت الدخول إلى قلبه المغلق على سهام. ينبهر معتز بدبلن، يسير في جنبات المدينة التي تعرف إليها في كتابات مبدعين يحبهم، يهيم تحديدا بمنطقة تمبل بار التاريخية، يتعرف إلى نماذج كثيرة في الغربة، سيمون الأيرلندية المحبة للسلام إلى أقصى مدى، والعاشقة للموسيقى، من حاولت أن تقيم علاقة حب مع معتز، وأستاذته في الكلية التي ساعدته في الحصول على البعثة، وصاحبة السكن الذي أقام فيه، وبائعات الورد البائسات والأنيقات في الآن ذاته. وكذلك يتعرف معتز إلى نماذج عربية كانت تقيم في دبلن من الجزائريين والمغاربة.

تبدأ متاعب بطل «خمارة المعبد» بعد فترة قصيرة من غربته، يتنقل بينأكثر من سكن، يصطدم بعنصرية من قبل بعض المتعصبين، تنفد نقوده، ويضطر للبحث عن عمل، بعد انتهاء يومه البحثي في مكتبات الجامعة، يقف أمام أحد البارات يبيع الورد، تتكاثر هموم الوحدة والغربة والذكريات عليه، تتعمق داخله مشاعر سلبية، وأزمات وجودية، يتورط بعد ذلك في قضية، يتهم بتزوير الأموال، وفي النهاية يفصل من الجامعة، ويعود إلى مصر بلا دكتوراه.

يحاول معتز لملمة ذاته في مصر، يلتقي حبيبته القديمة سهام، فيجدها برفقة زوج ثان، وأولاد، يحاول البدء من جديد، يتزوج إحدى قريباته (علياء) ولكن تفشل القصة بعد أشهر قليلة، يسقط معتز في أزمة نفسية، يصل إلى مرحلة التفكير في الانتحار، يتراجع بعدما يتذكر أمه التيتراه أملها، وظلها في هذه الدنيا، لا تفلح العلاجات النفسية والرقى والتعاويذ، والاستعانة بكل الوصفات، الطبية والشعبية، في شفاء معتز، لكن بعد فترة يصحو ذات صباح شبه معافى، ينزل، إلى ميادين وسط القاهرة، فيجد أصوات المطالبين بالتغيير في إحدى التظاهرات فينضم إليهم، لتكون تلك هي النهاية، أو بالأحرى البداية الجديدة لمعتز.

مقالات من نفس القسم