هذا مدخل أساسي لقراءة نص “خَلق الموتى” للروائي ممدوح رزق، والصادر عن سلسلة “إبداعات الحرية”. فالكاتب يعي تماماً أنه يكتب نصه وفق جماليات ما بعد حداثية، وأي مدخل آخر لن يساعد كثيراً في فك شفرات النص.
وطبيعي إذا اختلفت رؤيتنا إلى العالم، أن تختلف طبيعة العالم الروائي الذي نكتبه بالضرورة، فهو لم يُعد مطابقاً له، ولا حتى موازياً، بل أصبح فاضحاً له، متمرداً عليه، ساخراً منه.
ما يهمنا هنا تشريح أهم التقنيات التي لجأ إليها رزق في بناء نصه باستقراء محورين فقط هما: العنوان وهوية النوع.
خلق
عنوان النص “خلق الموتى” يضعنا مباشرة في صميم حالة “ما بعد حداثية”. ففعل “الخلق” امتياز إلهي، قد يُنسب إلى البشر تجوزاً أو مجازاً، كما إنه يستعمل للدلالة على عملية إيجاد ما ليس موجوداً. وطالما أن مفهوم “الموتى” لا ينفصل عن كونهم كانوا “أحياء” في مرحلة ما، فمن المفترض إذن استعمال فعل “إحياء الموتى”.
لكن الكاتب، وإن أصر على السطو على هذا الامتياز الإلهي، وإنجاز ما يشبه المعجزة عبر “خلق الموتى”، فضل ألا يتورط في عملية “إحياء” للموتى “كما عاشوا فعلاً”.. بل يريد لهم خلقاً مختلفاً وفق مخيلته الذاتية، كما رآهم، أو كما أراد أن يراهم. فهو وإن لم ينفصل تماماً عن شذرات واقعية تخصهم، يذهب بهم إلى أفق آخر، منفصل عن رتابة الواقع، ويتفوق عليه في عبثيته وشطحاته.
ومهما كانت ثمة تفاصيل تتماهى أو تتطابق مع الواقع، أو تحلينا مباشرة إلى سيرة الكاتب نفسه “ممدوح رزق”، ففعل “الخلق” الذي يتصدر النص ويشير إليه، ويؤسس للعقد السردي بينه وبين قارئه، هو تأكيد بأن العالم الروائي الذي يشيده، نتاج خالص لمخيلة كاتبه، ولا يطابق أي معايير أو مقاييس أخرى، من خارجه. سواء من العالم الواقعي أو حتى العالم الروائي المتعارف عليه. فالنص مجال سيادي لكاتبه يؤسس له ما يشاء من قواعد.
نأتي إلى “المضاف إليه” في العنونة “الموتى”، وهم أيضاً “المفعول بهم”، فالكاتب يخلق “موتى” من العدم، أو يستحضرهم من غياب، كي يبقوا في الضوء، كي يتصالح معهم (حتماً أخفق في هذه المصالحة أثناء وجودهم الواقعي)، كي يورطنا في محبته لهم، يضحك معهم، ويسخر منهم غالباً. كأنها حفلة لخلع الأقنعة، وليس ارتدائها، للتهزيئ وليس للتكريم، وللانتقام أحياناً.
يستحضر رزق الموتى من نافذتين سحريتين:
ـ الأولى نافذة واقعه. فنحن القراء ـ على الدوام ـ نجلس مع الكاتب في صالة شقته في المنصورة، نشاهد التلفزيون مع أسرته وأصدقائه، نتلصص عليهم في غرفهم الخاصة، ونتابع كل ما يدور من ثرثرة ومشاحنات، وكيف تحافظ الأسرة على القيم التقليدية كالترابط واحترام الزوج والأب، رغم أنها في حقيقة الأمر تتحلل شيئاً فشيئاً.
من ثم أبطال النص والساردون الأساسيون له، هم: الأب المدرس الذي تجاوز السبعين ويقرر الانتقام من أسرته بفضحها على الإنترنت، الأم المدرسة في ميت حدر والتي تقضي الوقت مع زميلاتها على المعاش وتتنزه في رأس البر أو حتى شرم الشيخ، ثم الابن عازف الترومبيت، والأخت الفنانة التشكيلية المتزوجة. أسرة مثالية بالمفهوم الديني والاجتماعي، لكن هذا تحديداً ما يفضحه النص! وإن كان الحضور الذاتي والمباشر للكاتب نفسه يجعلنا أكثر حذراً في التعاطي مع “فخ” الواقعي، فما ينشره الأب من فضائح عائلته يختلف جذرياً عما ينشره الولد من فضائح. على الدوام ثمة فراغات وانقطاعات ما بين الواقعي والتخييلي، من ثم فإن إطار السيرة التي تبدو ذاتية جداً، أو واقعية جداً، ليس أكثر من حيلة سردية.
أما النافذة الأخرى التي يستحضر منها الكاتب موتاه، فهي ثقافته الخاصة، أي ما يقرأه من كتب وروايات وما يشاهده من أعمال فنية. فتطل علينا أسماء مثل ريتسوس في الاستهلال، كافكا، ودي ألن، أونجاريتي، بوكوفسكي، كامل الشناوي، وغيرهم.
هذا الحضور، يدمج التجربة الذهنية للكاتب في تجربته الحياته، وقد يمثل تكريماً ما لتلك الأسماء، أو جلبهم كشهود على بؤس تجربته الحياتية وتوريطهم فيها مثلما هو متورط، أو تعرية وفضح لخبراته القرائية. فمطالعة معظم هذه الأسماء تحيلنا مباشرة إلى الولع بما بعد الحداثي، كقاسم مشترك بينها.
يحضر هؤلاء الموتى بنصوصهم الخاصة وأقوالهم، وأجسادهم أحياناً حينما يتورطون في مشاهد موازية أو متداخلة مع المشاهد الواقعية، مثلما في صفحة 64 عندما يدخل من الشباك ـ وليس الباب ـ شبه المفتوح أشهر الظرفاء في الثقافة العربية على اجتماع الأسرة في صالة الشقة، وكأنه متحف كوني، يضم هذين النوعين من الموتى. من حفروا أسماءهم على وجه الحياة ومن ماتوا دون أن يعبأ بهم أحد.
نسف التعريف
وصّف رزق نصه على الغلاف الخارجي بأنه “رواية”، فإما أنه يستسلم للتجنيس التقليدي لأشكال الكتابة، أو يريد أن ينتزع مفهوم الرواية من هويته الكلاسيكية، كي يتسع لنصوص تكتب خارج متنها التقليدي.
صحيح أن الرواية، في تقليديتها، قادرة على تمرير حمولات متنوعة من شعر وقصة قصيرة ومقال وتشكيل، لكن تلك العجينة يعاد خلطها بطريقة مغايرة في النص ما بعد الحداثي.
وصحيح أيضاً أن الرواية، التقليدية جداً، تتخلق من مكان وزمان وشخصيات، وتكتب وفق نسق لغوي ما، ولم يعد شرطاً أن تتجاوز خمسة آلاف كلمة. لكن تلك العناصر لا تتمازج مع بعضها البعض وفق المعيار الجمالي المتعارف عليه. فابتداء يقع النص كله في أقل من 75صفحة ، ولا تتمازج عناصره وفق بنية زمنية محكمة صعوداً نحو حبكة ما، بل هي على الدوام في حال من السيولة والتفكك والانقطاعات والتجاور.
نحن دائماً أمام موقف روائي مضاد يؤسس لسلسلة لا تنتهي من المفارقاتِ، كما تظهر في أبسط متوالياتها السردية عندما يؤدي المصلون الصلاة بنسخة من كتاب “نادي القتال”، أو يعاقب الأب ابنه ظناً منه أنه أضاع “البتاع” ولا يجد الابن أدنى فرصة كي يعرف ما هو “البتاع” الذي ضاع! أو حين يجد نفسه في مطعم كشري ويضطر للجلوس والأكل مع غرباء هم على الأرجح يحتقرونه وينفرون منه، أو يرى أبوه يكرر “الأفيه” نفسه عشرات المرات متوقعاً أن يظل مضحكاً ومسلياً.
كل مفارقة أشبه بقطبين “سالب وموجب” يؤسسان للمشهدية، التي هي قوام هذا النص، فنحن إزاء نص جارف في مشهديته، وتعريته، مثل مشهد “جيص” الأب، أحد أهم إنجازاته التاريخية التي لا ينساها أفراد العائلة، مشهد الدلدول، ومشهد ممارسة الأم للعادة السرية.
لم تعد هناك “حكاية” بالمعنى التقليدي يستطيع القارئ أن يمسك خيوطها ويتتبعها من البداية إلى النهاية، ثم يستخلص منها “حكمة الدهر” مثل مقولة “خطايا الآباء يرثها الأبناء” ـ حتى وإن التمسنا ظلالها في النص ـ لأن الكاتب ليس مشغولاً بلف حكمة جاهزة في خيوط سردية ناعمة كي يأتي القارئ فيتناولها ويمضي.
بل إذا سألته عما تحكي رواية “خلق الموتى” لن يجد إجابة، وإذا سألته السؤال التاريخي الأشهر: ماذا يريد الكاتب أن يقول؟ أيضاً لن تعثر على إجابة.
إن القارئ تورط أخيراً ورطة كاتبه، كلاهما لا يملك حكاية ولا معنى جاهز للوجود. ليس معنى ذلك أن الرواية ما بعد الحداثية لا أخلاقية، لكنها ذات أخلاقية مغايرة وملتبسة، فالكاتب يريد أن يتخلص من سلطته المزعومة على النص والقارئ في ضربة واحدة، لأن أية سلطة هي ضرب من ضروب القهر والاستغلال والخداع والتعالي.
لقد تحرر الكاتب من مسئوليته الأبوية الوعظية أن يرشد قارئه إلى جواهر الحكم المدفونة وراء النص، فهو عاجز عن الفهم، عن الإيمان بحكمة ما، ثم ما أكثر المزيفين المتاجرين بحكم لا تعني لهم في حقيقة الأمر شيئاً.
ليس مهماً أن تقرأ رواية كي تستخلص حكمة، قد لا تكون صادقة أو تعجز أنت نفسك عن العيش وفقاً لها، ولا أن تعجب بذكاء وتماسك الحبكة، ولا أن تستمتع بحكاية مسلية يغبطك الآخرون عندما تعيد حكيها لهم. بل الأهم من ذلك كله أن تتورط في التجربة الروائية مثلما تتورط في واقعك المعيش. الشعور الحقيقي بالورطة ـ واقعاً وتخييلاً ـ هو فقط ما يساعدك على استبصار ذاتك والوعي برحابة وتعقيدات وجودك، وإمكانية تحررك من كل ما يثقلك، من حكم وأوهام وصيغ سلطوية.
كأن النص وكاتبه يلوحان لك من بعيد: انظر إلى بؤس تجربتي.. انظر بحب وعمق ثم اضحك بملء فمك.. اضحك من قلبك.. اضحك بكل حواسك.. فما تراه، وما تعيشه ليس أكثر من ورطة كوميدية.
حياتنا ليست كما نتوهم، محبوكة، وصاعدة نحو مصير محتوم، فتلك خدعة من خدع العقل. ليست سوى رواية مفككة، وشذرات غامضة، من الجنس والحب والفرح والألم والكآبة والجنون.
وما يبقى منها ليس تلك الحكم الباردة التي لا نمل من تردادها، بل مشاهد وامضة عشناها بكل فرح وقسوة وألم، قرأناها في كتاب، رأيناها في فيلم أو على خشبة مسرح.. مشاهد تعيش في مخيلتنا لكن الواقع لا يسمح لها بأن تتجسد. وهنا تبدأ الرواية ما بعد الحداثية مهمتها.
……………..
موقع ثقافات 2012/09/25