” خلق الموتى ” رواية صغيرة الحجم، وبداية من العنوان الصادم يلج القاريء هذا العمل بمشاعر من الفضول والرهبة، لكن صورة الغلاف لسلفادور دالي لم تكن في رأينا مناسبة، صحيح أنها صورة شهيرة هي ” وجه الحرب ” لكن الجمجمة الكبيرة والجماجم الصغيرة الموزعة داخل محجري العينين والفم أبعد ما تكون عن الاتساق مع الدلالة الكلية للعمل. كما أن البنط الطباعي الصغير قد أضاف نوعا من عدم الارتياح للمتلقي.
اكتسب ” ممدوح ” قدرة مدهشة على صياغة جملة سردية ذات إيقاع خاص ومنضبط. جملته ذات سلاسة غير عادية تجعل أسلوبه نوعا من السهل الممتنع. تنساب الجمل واحدة وراء الأخرى دون معاظلة، وإذا كانت اللغة كما ذكرنا ليست مجرد أداة لنقل المحتوى، فقد استغل الكاتب تلك الأداة بذكاء ليدخلك في عالمه القاتم والمربك، منذ السطور الأولى بلغة لا تكاد تحس وجودها أصلا، فلا نجد نتوءا واحدا أو مفردة تعطل التلقي. اللغة هي زورقه الذي ينساب بك لتبحر في عالمه الخاص. عالم خليط من الدهشة وكسر التابوهات وكسر أفق توقعات القاريء.
وثاني عتبات النص الإهداء ” إلى أبي مرة أخرى وربما لن تكون الأخيرة ” أما المفتتح فهو قصيدة الشاعر اليوناني ريتسوس من ديوان مختارات البعيد ترجمة رفعت سلام ” فلنغلق أعيننا برهة ليمكننا أن نسمع الأم وهي تغسل الأطباق في المطبخ… حتى يصل لقوله ” أبانا الذي في السماء “. القصيدة هي رغبة في إعادة خلق عالم حميمي مفتقد، عالم بديل عن واقع الشاعر، يستعيد فيه أمه الغائبة، ويعود فيها لمراعي طفولته، ولأن النوم أمنية عصية يبتهل إلى الأيل الأزرق الذي سيمنحه أخيرا نعمة النوم.
إن العلاقة بالأب تلك السلطة البطريركية الكلية الخانقة الذي يتمرد الراوي عليه ويظل مع ذلك يحبه، تظل علاقة ملتبسة وتبدأ منذ السطور الأولى ” أعرف يا أبي أنك أنت الذي فعلتها “. نحن إذن أمام اتهام، بل إدانة الابن لتصرف الأب. لقد استولى الأب على أحد المنتديات الالكترونية باسم مستعار هو ” احتمال مستبعد ” وعلى مدار النص يفضح الابن كذب الأب وافتراءاته.
وبينما تمثل ( الافتتاحية ) في الرواية الواقعية جزءا هاما يترتب عليه مسار القص وتطوره، يتخلى ممدوح رزق عن الافتتاحية التقليدية، وتصبح عنده أقرب لكتاب رواية ( تيار الوعي ) حين استغنوا عنها، لقد أصبح الماضي في رواياتهم جزءا من الحاضر، فهو مخزون في ذاكرة الشخصية تستدعيه اللحظة الحاضرة على غير نظام أو ترتيب، ولذلك لا تكتمل الأحداث في تسلسلها الزمني إلا في نهاية القراءة، حيث يعاد ترتيبها في مخيلة القاريء.
يقع القاريء في نوع من الحيرة، فالأب قد تجاوز السبعين ومن المفترض أن تكون علاقته بالكومبيوتر في أغلب الأحوال محدودة، خاصة أن النص لم يخبرنا بنوع تعليم الأب أو مهنته أو ثقافته، ويمارس الأب الكذب ويدعي أنه أرمل في حين أن زوجته جالسة أمام البحر في شرم الشيخ وتعد هي وزميلاتها العدة للسفر إلى باريس. أما الابن الذي يدعي الأب أنه عاطل فهو عازف ترومبيت بفرقة جاز أصدر العديد من الألبومات والسيديهات الناجحة، كما أنه يقيم الحفلات الرائعة داخل مصر وخارجها. والشقيقة التي يدعي الرجل أنها نزيلة إحدى المصحات النفسية، فنانة تشكيلية جميلة تعيش في القاهرة مع زوجها مدرس الفلسفة بإحدى كليات الآداب وبرفقة أطفالها الرائعين. وأخيرا صديقه الوحيد ليس مدمن مخدرات، بل باحث في تاريخ الكوميديا ويملك دار نشر متخصصة. بل إن الأب نفسه لم يخضع لعملية قلب مفتوح كما يدعي، ومازال يتمتع بصحة جيدة بفضل عادات صحية وغذائية صارمة تؤجل من شيخوخته. لقد اختار الأب الاستيلاء على منتدى المنصورة تحديدا لأنه يحب المنصورة جدا ويرتبط بها روحيا، أما نشر حكاياته على الانترنت فسببها من وجهة نظره، أن نشرها في كتاب أو مدونة لن تحقق له سوى قراءات عابرة.
طبعا سيكون القاريء فكرة مؤقتة عن نوعية هذا الكاتب، ويكون الانطباع الأول واحد من إثنين: الأول أنه بصدد نوع من الكتّاب الذين يتعاطون الكتابة كنوع من المخدرات لتلقي بهم في عالم وردي، تصبح فيه الشخصيات ذات أصول ارستقراطية، تعيش في رفاهية وبحبوحة يحلم هو بها. نوعية من الكتاب الذين يمجدهم القاريء، لأنهم يصورون واقعا زائفا، حيث يبدو العالم على أبدع ما يكون، وليس في الإمكان أفضل مما كان، نضيف إلى ذلك الجهل المطبق والغباء في اختيار الشخصيات دون دراسة أو خبرة حياتية تمكن الكاتب من تبرير أو فهم تصرفاتها. الأم مجرد مدرسة في مدرسة ميت حدر الابتدائية فكيف لها أن تعيش هي وزميلاتها حياة هوانم الزمالك، أما النجاح المنقطع النظير للابن عازف الجاز في مدينة إقليمية مثل المنصورة، ذلك الذي يصدر السيديهات ويجوب العالم فأمر يصعب تصديقه، لو أضفنا لذلك أن الأخت فنانة تشكيلية، وأن الصديق صاحب دار نشر متخصصة في مجال الكوميديا، فنحن إذن نعيش في مدينة ليون لا في المنصورة.
الاحتمال الثاني هو أن الابن يكذب بكل تأكيد، ويحتاج القاريء أن يعمل عقله فيما يقرأ، ولا ينخدع ببراعة الكاتب الأسلوبية التي لا تترك له الفرصة لالتقاط أنفاسه أو التفكير فيما يحدثنا به الراوي. اللغة كما سبق وأشرنا تقذف بالمتلقي داخل شرنقة حريرية، ويصبح السرد ذا إيقاع لاهث يذكرنا بلغة ألبير كامي في الغريب. ونفس لغة البطل ” ميرسو ” الخادعة يستخدمها عازف الترومبيت. هكذا تظل علاقة القاريء بالنص قلقة، ويلجأ الكاتب إلى حيل فنية مثل استعراض قراءاته الشعرية والنقدية والفلسفية، ويزدحم النص القصير بتناصات عديدة، قد نشعر أحيانا أنها تمثل عبئا على النص.
ويظهر الكاتب نفسه داخل ثنايا العمل، فلا تعرف هل هو عازف الترومبيت أم كاتب القصص، ولا توجد إشارة واحدة في النص أنهما شخص واحد. وإذا كان احتراف البطل الكتابة له ما يبرره، فالكلمة أرخص المواد الخام لانتاج فن، نجد في المقابل أن عزف الترومبيت لم يأت ذكره في طفولة الابن مرة واحدة. ويلجأ الكاتب لنوع من التغريب أو العبث حيث يستخدم تقنية الحلم/ الكابوس في أحيان كثيرة، فالأب الذي يجلس في جامع السنجق مداعبا مسبحته يرجو ابنه الصلاة معه قائلا: ” أنت الآن في المسجد وهذه فرصة لا تضيعها من أجل خاطري استغلها ” وأخيرا يقنع ابنه بالصلاة فيقف الابن في الصلاة، ويخرج المصلون بما فيهم الأب نسخة من ” نادي القتال ” وسيكتشف القاريء التشابه بين رواية ممدوح ورواية تشاك بولانيك.
التناقض الغريب بين صورة هذا الأب وبين قراءاته لكيركيجور الذي يتهم الله بأنه في قسوة تاجر رقيق. والتناقض الشديد بين المستوى الاجتماعي والذي تظهر به الأسرة وبين كلمات الابن، فكلمات مثل ” ابن الكلب الوسخ .. الخول ” تثير إشكالية وتزيد من عمق العلاقة الملتبسة بين الابن والأب. إن أحد مشروعات الابن هي الكتابة عن ” جيص أبيه الشمولي ” ويصفه لنا في صفحتين كاملتين، والولد الذي يتهمه الأب أنه ” دلدول ” يخرج من البيت فيذهب إلى محل كشري، لا لمطعم أنيق، ولم يتمكن رغم ذلك المستوى الاجتماعي المرفه نسبيا من الذهاب لطبيب يعالج له مشكلة حب الشباب. ومع استمرار القراءة نكتشف أن الأم تجلس في الشرفة، لا تغادرها، وأن الابنة موظفة عانس في الشئون الاجتماعية.
والاجتراء الشديد على التابوهات كان بدوره لافتا. ” مرور آخر 35 دقيقة على آخر استمناء لي “، ” جيص الأب خطاب شمولي “، ” مشهد الأم وهي تخرج أصابعها المبتلة قليلا من تحت كلوتها ” ” خراء الوجود “، ” شقيقتي تجلس أمام قناة الناس تشاهد أفلام السكس “، ” مدام ندى ضيقة من تحت ” تسهم تلك اللغة في استعداء القاريء بكل تأكيد.
وباستمرار القراءة تزداد الدهشة، فالأب يدين نفسه وكل سلطة أبوية مرتبكة، فيعترف أنه كان يضرب ابنه وزوجته باستمتاع سادي، ونستغرب كيف يعترف بقهر وإذلال الزوجة، ودفع الابن إلى الفشل دفعا، وحول الابنة إلى مريضة نفسية تجاوزت الأربعين دون عريس ومع ذلك تحبه. كيف استطاع الأب أن يصف بتلك الدقة مشاعر ابنه النفسية وشعوره بالقهر؟ الأب كلي القدرة يعرف فيما يفكر ابنه، ومشروعات كتابته القادمة، ورغبته في مضاجعة أربع كاتبات عربيات، وماذا فعل لحظة بلحظة حين طرده من عالمه من البيت.
ولا نعلم هل الابن هو الكاتب نفسه، أم هو شخصية من نسج الخيال. وهل هو الكاتب الذي يقدم نصائح للكتابة تثير الحيرة والضحك وتكاد تجعله مريضا نفسيا مثل: ضرورة طهي الطعام وممارسة الجنس.
باستمرار القراءة يتكشف العالم الحقيقي. هذه كلها أوهام وأمنيات لعالم كان الابن، الذي لم نعرف له اسما أو رسما، يتمنى لو عاشت فيه أسرته، بعد أن رحل ثلاثتهم، دون أن يعطينا الكاتب مجرد تلميح كيف ماتوا جميعا. الراوي إذن مخلوق وحيد بلا أب أو أم أو أخت أو صديق.
الكتابة تشبه عزف الابن على الترومبيت من أجل الراحلين. الكتابة إذن محاولة لبعثهم إلى الحياة مرتين: مرة بتقديم واقع جميل، فيه كل الرفاهية الممكنة حيث يمارس الأب نزوة شيخ مأفون. ومرة بمحاولة بعث هؤلاء الموتى بفلاش باك يتذكر فيه خيبة واقعهم. الأم التي لم تعرف الناس، والأب الذي لا يجيد حتى النكتة، والأخت تلك المريضة النفسية الطليقة التي تكره العالم.
ونتأكد مع آخر وحدة سردية أن البطل ( عازف الترومبيت ) هو الذي استولى على الموقع منتحلا شخصية أبيه. ليست هذه اعترافات بل إدانة للأب. ليست هذه قصة حياة، بل وهم حياة لم يعشها أبدا الراوي ولا أسرته.
إنها رواية حداثية تحتاج لقراءة ثانية لسبر أغوارها، واكتشاف جمالياتها. هذا الدرب الصعب الذي اختاره ممدوح رزق يثبت موهبته، وقدرته الفائقة في السرد، وكسر الحدود بين ما هو حقيقي وما هو متخيل، بين الواقع والوهم، بين ما هو حياتي وبين ما هو قرائي.
الحبكة التقليدية إذن لا تناسب الكاتب، ولابد للزمن الروائي نفسه أن يتشظى. إنه لا يكتب لنا مغامرة، بل تصبح الكتابة نفسها مغامرة. كاتب يعترف أنه يستعدي القاريء ويعتبر تلك العداوة مكسبا. إنه يختار النمط الثاني من السرد، لم يعد العالم مفهوما مثلما كان يفهمه بطل بلزاك ذلك البطل الفاعل، لكنه العالم الذي لا يفهمه الأبطال شأنهم شأن ميرسو ألبير كامي والسيد ” ك ” بطل كافكا.
إن منطق الحكي عند ممدوح رزق هو عدم التخلي عن لعبة الخداع و” الاشتغالة ” وهذا ما فعله بامتياز ممدوح رزق. لكن يبقى سؤال.. هل يفيد استعداء القاريء فعلا؟ وهل تجد هذه الكتابة جمهورا؟ ألم يعد كتاب الرواية الجديدة أنفسهم إلى الشكل الأقرب للتقليدية؟ وهل أنتج ممدوح رزق نصه تحت تأثير ثقافة غربية تمارس عليه نوعا من الاستلاب؟ هل هو بحاجة لإعادة قراءة تراثه العربي ليحقق نوعا من التوازن لعالمه؟ هي أسئلة نطرحها ولن نتوقف عندها ونترك القاريء الجديد ليجيب عنها. ألم يقل كافكا أننا نقرأ لنطرح الأسئلة لا لنجيب عليها.
…………..
*نشرت هذه الدراسة في كتاب ( تيارات التغيير في أدب الشباب ) الصادر بمناسبة مؤتمر الأدباء الشبان الأول ـ إبريل 2013