خطوطٌ متوازية .. بميّل

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مصطفى عبد العزيز

(1)

داكنون أكثر. كل محاولة للمحو تزيدهم رسوخاً. ملاحظتهم أسهل الآن. خمس خطوط متوازية، يبدأون أعلى الجانب الأيسر للعنق، ويهبطون مائلين ليتوقفوا قبل الحنجرة مباشرة. تفصل بينهم أربع مسافات بلون الجلد. تترك شعرها ليغطي الرقبة، وتتحرك من أمام المرآة.

          طبق كبير. ماء ساخن يملأه بالتدريج. تضع بعض مسحوق الغسيل، تحرك الخليط، فتتولد رغوة. هو، الشخص الأهم لها. كانت تتحدث اليوم، لم يستمع، تركيزه على عنقها، يراقب. يبعد عينيه للحظات، ينظر لها، ثم يعود منجذباً للخطوط. فُرشة تستخدم في غسل الملابس، تضعها تحت الماء الجاري، تنزع الخيوط العالقة. إبقاء نظره عليها أصبح هدفاً، رفعت صوتها، حركت يديها وهي تتحدث، عدلت وضعية شعرها لتغطي العلامات. نجح الأمر، لدقائق فقط. عاد بعدها يسترق النظر، ليتبين الخطوط من بين خصلات الشعر. لا تشاركها هذه العلامات حياتها فقط، الآن تزاحمها فيها.

          تضع بعض سائل تنظيف الأطباق فوق أناملها، تدهن به جانب رقبتها وتدلك قليلاً. تغمس الفرشاة في الطبق وتفرك بها رقبتها. تزعجها الخشونة، تزيد القوة، يزيد الألم، تصمد، تُسرع الوتيرة، تضغط أكثر، تصل منتهى تحملها، تتوقف. تشعر بجلد عنقها يشتعل. لا شيء تغيير.

(2)

تتأمل، تبتسم. وشم على شكل لهب أسود يغطي جانب رقبتها، استخدم علامات العنق، ابتلعها داخل التفاصيل. لم تنمحي الخطوط، لكنها توارت. الجلد حول الرسم مشدودً، مُحمَرً. حين ينتهي هذا الإلتهاب ستـُظهر عنقها للجميع، لن تخفيه مرة آخرى. انتصرت.

          استمر الإلتهاب. قلّ الإحمرار، لكن الجلد لازال مشدوداً. تورم بسيط في البداية، ثم يشتد أكثر. الوشم يخف لونه. تظهر الخطوط المتوازية من جديد، كظلال في الخلفية. تزيد الرسمة بهتانا. الخطوط أوضح، كأنها تمتص سواد الوشم. الإنتفاخ يغطي النصف الأيسر للعنق. رسُخت العلامات. يتوقف نمو الورم. ينكمش. الخطوط تهبط، لكن الفراغات بينها تظل منتفخة.عاد العنق لطبيعته، ماعدا أربعة مطبات متوازية بميل، تفصلها العلامات السوداء.

          الأطراف السفلى للإنتفاخات تتصل. تصبح تورماً واحد يتوسع لأسف. يغطي الحنجرة ومقدمة الرقبة. تورم صغير يتفرع، يتجه لأعلى، نحو الأذن اليمنى.

          التور الهلامي يكتسب تقسيمات مع مرور الأيام. كأن عظاما نبتت تحته. المطبات مكونة من عقلات أصابع. أكتمل البنيان. لا إلتباس الآن. كأنها يد، نبتت فوق عنقها، وتقبض عليه برفق.

          تمر بأناملها على التورم. تضغط فينضغط ، ثم يعود كما كان. تمسك ما يمثل أحد الأصابع، تشده للخارج، يُشد جلد العنق معه، تتركه.تحك بأظافرها، شعورها بذلك مختلف، أضعف وأقل حميمية عن باقي جسدها. عينها تؤلمها، تغمضها و تفتح، تحرك مقلتيها في كل الإتجاهات. تتجه لدولابها، تختار إيشاربً، تلفه حول عنقها فتخفيه.

(3)

          هي وأصدقائها يضحكون. تسعل لإزالة حشرجة صوتها. صديق يوجه لها سؤالا. تجيب، تشرح. الإيشارب حول عنقها يتحرك، تضع يدها،  في مكانه، تتوهم؟! تُكمل حديثها. يتكرر الشعور، شئ يشد للأسفل، يحاول تعرية العنق. تتأكد من وضع الإيشارب بشكل مستمر، تراقب العيون حولها. يضحكون غير ملاحظين لشئ، لا تستطيع مجارتهم. فقدت الإندماج. تقوم، ترحل.

          يمر القلم، يحيط الإنتفاخات بخط رفيع. تراقب. يمر وقت. لا يتحركون. ستجبرهم إذن.

          ألم، يستمر للحظة، ينتهي. نقطة حمراء تخرج من التورم، لم يتحرك. تمسح الدم. تتجه بالدبوس إلى إنتفاخ ما يمثل السبابة، تركز نظرها على الخطوط حوله، تغرس، ألم، لاحركة، لم تقترب من الحدود المرسومة. تستمر في الوخز. ثابت. قطرات دم من كل مواضع التورم. تتعب، تتوقف. تسيطر رغبة في حك عنقها.

          تتحدث بصوت عالي، تسري اهتزازات أحبالها الصوتية في كامل رأسها، تتشوش قدرتها على الإستماع، لا تستطيع الحكم. أكد الجميع أن صوتها تغير. كيف كان قبل ذلك؟ تغمض عينيها، تستعيده من الذاكرة، يقترب، ستسمعه الآن. يختفي. "يا ابن الكلب". لا تسجيل بصوتها القديم لتسمعه، لم تتوقع الفقدان لتحتفظ بذكرى، تتكلم مرة آخرى، لا تميز شيئاً. تصمت.

(4)

          تخلع ملابسها لتستحم. تتأمل وجهها. أسفل العينين يزداد سواداً. تـُوازن الماء الساخن والبارد. شهيق طويل لتقاوم ضيق التنفس. تنظر للعنق، بهتت الحدود التي رسمتها حول التورم، ستجددها بعد الإنتهاء. تتصلب للحظة، تقترب من المرآة، تتفحص. قشعريرة تجتاح. إختلاف! التورم الذي يمثل الخنصر منفرج قليلاً عن البقية، والخط الذي كان يحده من الخارج أصبح الآن يمر في وسطه. نغزة في القلب. تداري عورتها بيسراها، تغطي جسدها بسرعة. "بيتحركوا !".

          تعود للمرآة، تقرّب إصبعها من التورم، ستلمسه، تخاف من تحركه أمامها، تتراجع. تريد الصراخ، لا تفعل. تشعر أنها عاجزة.

          الإستلقاء على ظهرها يجعل التنفس أصعب. شهيق طويل. تنقلب للجانب الأيسر. إن نامت سيتحرك. تنهض. تتمشى، تفتح التليفزيون وتتركه. ستصنع قهوة. تقف في الشرفة والكوب في يدها. هدوء ، لا أحد في الشارع، كلاب فقط. رشفة قهوة. تتأمل المباني حولها، معتمة إلا من ضوء أو إثنين. ترى هل يعاني أصحاب هذه الأنوار المضاءة كما تعاني؟ وهل من أطفأوا أنوارهم أكثر راحة بالضرورة! يُتعبها الوقوف، تخشى النوم إن جلست. تبدل حمل جسدها من ساق لآخرى. تنظر لأعلى، سواد السماء يتحول إلى زرقة داكنة. تخف الغمقة تدريجيا. التعب يشتد، تتثاءب. يتفتح اللون الأزرق. يوم جديد يبدأ. ستخرج، هذا سيمنحها ساعات آخرى من الإستيقاظ.

(5)

          من طرف العين تهبط دمعة، تمسحها. يومان دون نوم. الحياة أصبحت هلامية، اختفت التفاصيل، الأصوات آتية من بئر. تنظر في المرآة، تحاول التركيز على العنق، تفشل. تغلق عينيها. شهيق طويل، يتحول لتثاؤب. في النهاية ستستسلم، وينتصر النوم. ستكون بلاحيلة، تحت الجلد سيتحرك، سيهبط هذا الكف من الرقبة إلى الترقوة، القفص الصدري، يتوقف. سيعتلي ثديها، يتحسسه، يعتصره. ستتململ وقتها وتتقلب في الفراش. يعبر ترهلات وسطِها التي تخفيها دائما. يصل أسفل البطن، بين فخذيها. يداعبها، فيخترق الإحساس حلمها، سترى نفسها أمام شخص، مستثارة. تتحرك الأصابع، تنتهكها، هل ستتأوه؟ في الحلم يضاجعها الرجل. في هذه اللحظة ربما ستستيقظ ، وستجد الكف بين ساقيها،ستصرخ بالتأكيد.

          تفتح عينيها، قلبها يخفق بشدة. مستباحة تماما هي. تنظر للتورم، ساكن، مخيف. تطيل التحديق، تسرح، ثم تعود. تقوم من جلستها، وتتجه للمطبخ.

تشعر بملامسة النصل للعنق، تثبته فوق التورم عند إلتقاء الخِنصر بالكف. جرح السكين سيؤلم. قلبها ينبض، يتردد صداه في الحنجرة.تفكر في التراجع. تستنشق الهواء بعمق، تكتمه. تسحب السلاح لأسفل، ألم رفيع حاد. يُولد جرحٌ، يكبر، يشتد. تزفر الهواء المحبوس. الدماء تخرج. تحس بحركة، كأن الأصبع الجريح ينغرس في جانب الرقبة، وجع. تتحمل. السكين فوق إصبع آخر، تـذبح، ألم، تشبث. قطرات حمراء تلوث الملابس. قطع في ظهر الكف، يتشنج، يضغط على العنق، التنفس يضيق. جرح جديد، يزداد إنقباض اليد، تنحبس الدماء في الرأس، العينان تؤلمان. تصرخ، فقط حشرجة تصدر. تركع. الرؤية تغيم. لا هواء. تقــّرب النصل من العنق، تفقد القدرة على التوجيه. تختنق. تستلقي على ظهرها. لا تريد أن تترك السكين، لا تريد الإستسلام. الضغط على العنق يزداد. لا هواء. إنها تموت. تفرد ذراعيها، تترك السكين، تغمض عينيها، وتنتظر أن يخفف الكف قبضته قليلاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 قاص مصري 

مقالات من نفس القسم