أحمد رجب شلتوت
حينما تجلد سياط الفقر ظهور رجال قليلى الحيلة، فإن خيالهم الكسيح ينوب عن أيديهم المغلولة فى البحث عن حل، ولأنهم إعتادوا طأطأة الرؤوس فإنهم يتوسمون الحل آتيا من تحت أرجلهم، ويصطبرون بتناقل حكايات عن أناس فازوا ببعض المخبوء، أو عن كنوز معلومة لكن ما زالت تنتظر من يفوز بها. نفر من بين هؤلاء يعملون بنظارة الأوقاف، يثرثرون حول خبييئة مطمورة منذ أكثر من أسفل بيت شيخ الطريقة العزمية ” محمد ماضى أبوالعزايم”، يقولون أن الكنز ظهر لمريدى الشيخ حينما شقوا الأرض بالفؤوس لزرع “طرمبة” تجلب المياه لكن الشيخ الزاهد خشى على المريدين من غواية الذهب، فقذف في عيونهم رمالا رطبة، أغمضوا عيونهم وأزالوا الرمال وآثارها، ولما فتحوا أعينهم كان الذهب قد إختفى ولم يظهر ثانية، ثرثروا كما شاءوا، لكن فاتهم أن آذان الحيطان ستنقل الكلام كله إلى ناظر الأوقاف ومسئولى الأمن، وأيضا إلى ” من يجلس على الكرسي الكبير”، فات هؤلاء أن الحاكم يشبههم فى العجز، ويشاركهم الحلم بالكنز _ لفشله تذكره الرواية بكرسيه لا باسمه أو شخصه _ ليعالج به أوضاعا اقتصادية صعبة أدت ندرة الموارد إلى تفاقمها.
خبيئة العارف
عن هؤلاء وعن رحلة البحث عن الكنز تدور أحداث رواية ” خبيئة العارف” _ الصادرة مؤخرا عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة_ وهى وإن كانت عاشر روايات الدكتور ” عمار على حسن” لكنها تمثل الحلقة الثالثة فى مشروعه لإبداع واقعية سحرية عربية، وكما فى سابقتيها ” شجرة العابد” و ” جبل الطير” يمتاح الروائى من نبعى التاريخ والموروث الشعبى فضلا عن وروده لغدير حكايات و كرامات المتصوفين. لكنه لا يقدم عملا تاريخيا، وكذلك ليست روايته عن سيرة الشيخ أبى العزائم، بل هى تنطلق من البحث عن كنزه لتقتفى أثره وتنهل من عرفانيته. وفى ذات الوقت تسلط الضوء على واقع تعس تئن من سطوته الخلائق. وللتأكيد على ذلك ولنفى تاريخية الرواية أو سيريتها يؤكد الروائى على رمزية ” الخبيئة”، ابتداء بالعنوان حيث الطباق الجامع بين متضادين هما ” الخبيئة/ السر” و ” العارف” كذلك يلجأ الروائى إلى الاستعارة من بناء المسرحية، فيقسم روايته إلى فصول ثلاثة ، فى الأول ” خطى العراف” يمهد لرحلة البحث، ويظهر الثانى ” أوراق العارف” عقدة الدراما/ الرحلة، وفى الثالث تسقط الأقنعة وتتكشف الحقائق بشأن الباحثين عن الخبيئة والطامعين فيها فيتجلى الحل بالسير فى ” طريق المعروف”.
خطى العراف
الجالس على الكرسي الكبير يأمر ناظر وقف البلد وموظفيه وأجهزة الأمن بالبحث عن الكنز، ولم يفته أن يستدعى ساحر مغربى ليفك طلاسم الخبيئة ويستعين بما يسخر من جان _ هكذا تبين الرواية ملمحا ثانيا من ملامح الحاكم _ أما ناظر الوقف فيكون أكثر فطنة، يلجأ إلى أستاذ جامعي يدعى الدكتور “خيري محفوظ” _ لاحظ دلالة الإسم بشقيه _ وهو باحث تاريخى مهتم بالمتصوفة و آثارهم، فى البدء يشك فى الأمر ، لكن ما إن يعرف حقيقة مهمته حتى تثور مطامعه و طموحاته فى تولى منصب كبير، فإن أفلح فى مهمته وحقق حلم الجالس على الكرسى لن يبخل عليه بشيىء، وهنا تضيف الرواية ملمحا إضافيا تكتمل به صورة الحاكم، حينما حكى عنه ناظر الأوقاف ” رأى في منامه، وهو الذي يصدق ما يحلم به ويجري خلفه فور استيقاظه، رجلا يرفل في جلباب أبيض واسع، ويمسك عصا بيميناه، ويرفع يسراه نحو السماء البعيدة. كان يمشي على مهل، ثم يقف في أماكن يختارها، ويضرب قدميه في الأرض فتنفلق، وتخرج منها شرائح سميكة وسبائك ومشغولات ذهبية. تقف في وجه الريح، ثم تتمايل لترقص فرحا بخروجها من سجن الأرض إلى العيون، التي تتابعها في لهفة، والأيدي التي تمتد إليها محاولة أن تقبض عليها”.
أوراق العارف
يبدأ خيرى محفوظ مهمته بمخاطبة الحاكم عبر رسالة خطية طويلة، تظهر الرواية من خلالها مدى نفاقه وانتهازيته، فهو يصف تكليفه بكتابة سيرة الشيخ “محمد ماضي أبو العزائم” بالحكاية التى يريد من خلالها التسرية عن الحاكم، ثم يمتدح نفسه وطريقته فى كتابة التاريخ، قبل أن يعرض ما يمكنه تقديمه من خدمات ” وهي طريقة أتمنى أن تروق لكم فتتاح لي فرصة تأليف كتب التاريخ لمختلف المراحل التعليمية، أو تأليف كتاب عن حياتكم، فنعمق حب الوطن وحبكم في قلوب الناشئة”، ولا تنتهى الرسالة قبل أن يبلغ التزلف مداه ” وأنتهز هذه الفرصة الثمينة لأبلغ فخامتكم أنني من قرية بدلتا النيل، هي نفسها التي ينتمي إليها جدكم، قبل أن ترحل الأسرة الكريمة إلى “القاهرة”، ولا أقصد من هذا سوى أن أبين لكم أن هناك جذورا مشتركة بيننا، ربما تلهمني،عن بعد، بما تقصدونه بدقة من كتاب سيرة هذا الرجل الصوفي”.
بعد الرسالة تبدأ المهمة، فيرحل المؤرخ من القاهرة مقتفيا أثر الشيخ إلى محلة أبوعلي ثم مدينة البرلس ثم يرتحل جنوبا إلى إدفو حيث أول مدرسة عمل بها الشيخ وبعدها الإبراهيمية بالشرقية فالمنيا ومنها إلى أسوان فوادي حلفا وسواكن و السودان حيث قضى الشيخ أبوالعزائم سنوات منفاه الإجباري قبل أن يعود إلى أسوان قبل أن يستقر أخيرا في القاهرة. عبر هذه الرحلة الشاقة تقربنا الرواية من الشيخ أبوالعزائم و أفكاره وأشعاره وآثاره وأيضا كراماته، فتكسب الرواية بعدا معرفيا فوق أبعادها الفنية.
طريق المعروف
ينتهي المؤرخ من دراسته عن الشيخ أبوالعزائم، فيرفع تقريرا برحلته الطويلة إلى ناظر وقف البلد، لا يتضمن التقرير ما يودون فيكتب مسئولو أمن السلطة تقريرا مضادا يتهمون فيه المؤرخ بتضليل الجالس على الكرسي الكبير و تعمد إبعاده عن الكنز. هنا يفيق الرجل، فخيرى محفوظ الذى يرحل فى المكان تقصيا لحكايات و أخبار تعينه فى الوصول إلى الكنز، لكنه يرى أن كل شيىء تغير، يلحظ “حُمَّى نبش المقابر، وحفر الأرض، بحثاً عن المخبوء في باطنها”، ينبش هو فى داخله فيتغير، وتلك رحلته الأهم المطمورة تحت ركام الرحلة المكلف بها، يتخلص على أثرها من مطامعه، ويكتشف أن كنزه فى قلبه، فالشيخ صدق حينما نصحه وهو يشير إلى صدره ” أحفر هنا”، والرحلة بمشاقها وبالمحنة التى أعقبتها لم تكن إلا ثمنا لوصوله إلى ذاته ليكون كما هو ” خيرى” و ” محفوظ”.