سارة سليم
في هذه الحياة إما أن تعيش وفقا للمجتمع وآرائه الثابتة، أو تحاول العثور على طريقك الخاص، ولكي تعثر عليه، لابد أن تكون حقيقيا لكن: «الحقيقة دائماً ثورية» على حد تعبير ليون تروتسكي، ذلك أن الذي اعتاد سماع ما يود سماعه لن يتقبل أي أمر آخر عداه، خاصة من ينظر للاختلاف على أنه جريمة، والمرأة عورة، ولا تساوي شيئا أمام الرجل. لكن في المقابل تنشأ في هذه المجتمعات أورام قد يستحيل استئصالها، إذ يصعب على من نشأ على ثقافة العيب والعار أن يستوعب الحرية ضمن سياقها الصحيح، ومن هنا تتربى أجيال على احتراف الخطأ ليصبح نظاما عاما لا يقبل التفاوض فيه، وكل من ثار عليه مخطئ، و ليس لديه الحق في إبداء رأيه، وبطبيعة الحال يعيش الفرد في هكذا مجتمعات على المواربة، التي في الأغلب تأتي بنتائج كارثية.
ومن هذه الفكرة وأفكار أخرى لا تقل أهمية، جاءت رواية «خبز على طاولة الخال ميلاد»، التي خبز فيها الروائي الليبي محمد النعاس الحياة على طاولة الخال ميلاد بمهارة الكاتب، وبخبرة الخباز الذي يعرف كيف يتعامل مع العجينة، فإدراج الخبز بالرّواية كعنصر مهم، ومنحه وجودًا قائمًا بذاته، فكرة ذكية، إذ أُعدها من وجهة نظري نقطة قوة الرواية، فالكاتب يرصد نفسية ميلاد من خلال الخبز يقول: «إنّ مزاجي مربوطٌ دائما بالخبز. لم أرتبط بأيّ شيء آخر في حياتي بأكملها كما فعلت معه.»
تعيدنا الطريقة العجيبة التي وظف فيها الكاتب الخبز في كلّ مفاصل حياة ميلاد إلى رواية «العطر» لباتريك زوسكيند، إذ يمكن أن نعرف عن قرب ميلاد من خلال علاقته بالخبز، يقول: «إذا دخلت المطبخ لأبدأ العجن، أصبغ مخاوفي، سعادتي، طموحاتي، مطامعي، رغباتي، حزني، كآبتي، شهوتي، دموعي، شكوكي، لهفتي، اطمئناني، سكينتي، روعي، قلقي وجفافي في رغيفي الذي يظهر بشكل تلك المشاعر. الرغيف السعيد مرحٌ، الرغيف الكئيب كجثّة قنفذ، الرغيف الخارج من سكينة يديَّ يخرجُ هادئا، يمتصّ الخبزُ مشاعري ويجسّدها أمامي. كنتُ آكل رغيف الكآبة ناسيا إضافة الملح إليه، ورغيف الشهوة بملح زائد، ورغيف الشكّ قاسيا وجلفا. تأثّر اختياري الرغيفَ الذي أعمل عليه بمزاجي العامّ، كما تأثّر عملي على الخبز بفصول السنة.»
خلق النعاس من التفاصيل التي تدور حول الخبر تفاصيل أخرى، حتى نكاد نجزم أن الخبز في الرواية شخصية رئيسة، لا تقل شأنا عن ميلاد وبل يتعلم منها أيضا، تقول الرواية: «في الكوشة ترعرعت على الصبر، اللطف، التركيز، احترام الوقت، وتعلّمت قوّة الملاحظة.»
في هذه الرواية تتصاعد وتيرة الحب حينا وتنزل أحيانا أخرى، إذ لا نكاد نفهم هل الحب عنصر أساس في تكوين علاقة زوجية أم أنه أحيانا مجرد حجاب ساتر من كلام المجتمع من وجهة نظر الرواية، فحين يطلع القارئ على العمل لا يفهم كيف جمع الحب بين زينب الفتاة الجامعية المثقفة، المتحضرة، وميلاد الشاب القروي النحيل الذي لا مؤهلات ولا خبرة له سوى صناعة الخبز؟ يترك الكاتب مساحات للتأويل، لأننا حين نرى الطريقة التي تقبلت بها زينب عرضه بكل سهولة وتزوجته، ندرك أن هناك خيوطا على القارئ اقتفاء أثرها، كي ينسج حكايته هو، ويملأ تلك الفراغات، فليس على الكاتب أن يقدم أجوبة، وإلا لن تكون رواية. ولعل الشيء الذي خطر ببالي وأنا أتتبع قصتهما أن زينب كانت تبحث عن الحرية هروبا من قيود المجتمع التي يحاصر بها كل امرأة ترغب في أن تكون حرة، إذ عثرت على ما تريده عند ميلاد، فتوهمت أنها تحبه، ومن حيث لا تحتسب عقدت قرانها على ميلاد، لتجد نفسها عقدت قرانها على كل الأشياء التي هربت منها، إذ تجسد لها كل ذلك في شخصيته.
لكن بخلاف ما تعودنا عليه، نرى في «خبز على طاولة الخال ميلاد» الرجل كما لم نعتد عليه في مجتمعاتنا، يغسل، ينظف، يقوم بكل لوازم البيت دون تذمر أو مشاكل تذكر، في حين أن زوجته تعمل خارجه. كيف أصبحت شخصية ميلاد بهذا الفكر، وكيف حمل كل أفكار التحرر داخله؟ هل للخبز علاقة بذلك، الخبز الذي كان قبلا قمحا، ليتحول خبزا طريا؟ وتعقيبا على هذه الجزئية تحديدا، هناك فقرة، في الرواية لها مدلولاتها القوية، فحين كانت «المدام» (إحدى شخصيات الرواية) تشرح له أهمية القمح في حياة الإنسان، ذكّرت ميلاد أن تطور البشر كان منوطا بالقمح: «علاقتنا مع القمح تشبه تلك التي تربط السيد بالعبد، هو السيد في هذه العلاقة ونحن عبيده، وعرفت أن هذه العلاقة ذاتها جعلتها مهووسة بالخبز. إنه يعمل على مستويات كثيرة في العقل البشري، لم يشبع الإنسان قبل اكتشافه الخبز”
شخصية «المدام» يلجأ إليها ميلاد في الأخير انتقاما من زوجته زينب، زينب التي لا نعرف هل بالفعل خانته لتستحق القتل، أما أن موتها يدخل ضمن الجرائم التي تذهب ضحيتها المرأة فقط لأنها أرادت أن تتشارك الحقوق والواجبات ذاتها مع الرجل. يناديها ميلاد بـ «المدام» دون أن يتجرأ على ذكر اسمها، بالرغم أن الكاتب ذكرها بالاسم مرّة، ربما لأنها سيدة ثرية تقيم في فيلات حي الأندلس، أرقى الأحياء الطرابلسية، في إشارة إلى سلطة المال والثراء التي ترهب الإنسان الفقير وتجبره على الانحناء للقبها الأرستقراطي، حتى في عدم وجودها أمامه؟ فالمال هنا له صوت في الرواية، ويفرض سطوته على السارد ويمررها إلى القارئ ليشعر بنفس الرهبة من تلك المرأة.
أو أطلق عليها اسم المدام كنوع من التحقير، فهي أرملة والمطلقة أو الأرملة الثرية من منظور المجتمع تُرى أحيانا في صفة مومس، بالتالي فإن صفة «المدام» لها إحالات أخرى. لكن كل هذا يقود إلى فكرة واحدة تفيد أن الكاتب أراد الإشارة إلى أن المرأة مازالت رهينة نظرة المجتمع لها، وكأن المرأة أحيانا ليست سوى جسد بالنسبة إلى الرجل، أو للدلالة على أن المرأة مهما علا شأنها تبقى في نظر البعض عورة.
في هذه الرواية تحديدا لربما من الصعب إطلاق الأحكام، أو لربما تحتاج الرواية وقتا، لنفهم أيهما ضحية الآخر، أو أن كلاهما ضحية مجتمع انقلبت فيه كل الموازين وانتشرت فيه أفكار أعادت البعض إلى عصر الجاهلية الأولى.
يعرض الكاتب بعض مشاكل المجتمع الليبي على طاولة المناقشة، متحدثا عن جَدلية الخيّانة، علاقة الأخوة، النظرة الدونية للمرأة. وكيف تتمّ صناعة الخطأ الّذي يُصنع هو الآخر مثل الخُبز ليصبح إمّا قابلا للأكل أو ساما. كما أن رواية «خبز على طاولة الخال ميلاد» ليست صوت ليبيا فقط، بل حكايات تكاد تكون في أي بلد عربي، وفي العالم. صحيح أنها لن تكون ظاهرة للعيان كما سردت الرواية، لكنها قادمة من واقعنا المعيش، الواقع الذي عرف النعاس كيف يستثمره، ليسرده روائيا، أو كما يقول ماركيز: «الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره، ليرويه.
يكتب النعاس الرواية ببساطة ملفتة، إذ لا تجد في كتاباته لغة متكلفة، متفذلكة، ولا عبارات زائدة، والأهمّ من هذا أنه يعرف كيف يتحدّث عن كلّ شيء بمقدار، حتى عندما أدرجَ الجِنس ولو أنّه جاء بكلمات بدائية، إلّا أنّك لن تنتبه لذلك إذ أذابه داخلَ المتن الرّوائي بطريقة جيدة، وخاصة أنها لغة ميلاد نفسه وصوته.
«خبز على طاولة الخال ميلاد» قالت كلمتها، وانتصرت للإنسان والأقليات التي تحتاج فرصة لتعيش في مجتمع تعلو فيه قيمة الإنسان على أي شيء آخر. يقول ريكاردو بيجيليا: «ثمّة شيء سحريّ في الكلمة، كأنّ بوسعها أن تستدعي العالم أو تُقصي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة جزائرية،
نقلاً عن القدس العربي مارس 2022
الرواية حصلت على جائزة البوكر العربية لهذا العام