عبد الرحمن أقريش
الزمن، 1985.
المكان، حي العكاري، الرباط.
لسنوات طويلة، كان (خاي عبد الله) جزءا من المشهد الإنساني للمدينة، كان أيقونة ومعلمة من معالم الحي.
هو نموذج بشري متفرد، شخص غريب، مختلف ونسيج وحده، سكير، عربيد، وعاطل.
لم يكن (خاي عبد الله) وسيما، فقد كانت ملامحه مزيجا نافرا لتفاصيل خلاسية ذات أبعاد مكبرة، وأيضا لم يكن متعلما، فهو نصف أمي، ولكن ذلك ليس مهما، فالرجل ذكي، لبيب، ولديه قدرة عجيبة على الكلام والسخرية من نفسه ومن الآخرين.
الأصيل.
يبدأ جلسته بعد صلاة العصر في طقوس هندوسية غريبة، يجلس على كرسي خشبي صغير، مسندا ظهره إلى الحائط، يضع (صاكا) مهترئا إلى يساره، يمد يده، يخرج منه زجاجة الماحيا (ماء الحياة)، وقنينة بلاستيكية، يمزج الكحول بالماء، يرج الخليط رجا، يتذوقه، تتقلص عضلات وجهه بشكل مؤلم، يرش منه رشات صغيرة على الأرض في حركات دائرية وكأنه يرسم حدود مملكته، يضيف الماء والكحول بمقدار، يرجه مرة أخرى بقوة أكبر، يرفع القنينة إلى الأعلى، ينظر إليها، يتفحص الخليط، يتذوقه ثانية، يفعل ذلك مرات عديدة، وعندما يقدر أنه قد استوى، يشعر بالرضا فتنطلق أسارير وجهه.
يصدر الرجل همهمة غير مفهومة، ينهض في حركات بطيئة ومحسوبة، يتقدم خطوات إلى الأمام، يقذف الزجاجة الفارغة في اتجاه البيت الوحيد المهجور في الحي، يسمع صوت انكسار الزجاج.
يعود، يجلس ثانية، يخرج من (الصاك) في جيب جانبي كأسا صغيرة (كأس حياتي)، ثم يبدأ في الشرب، وبين الحين والآخر يرفع رأسه، يشير بيده إلى جهة ما، فيبدو وكأنه يخاطب كائنات غير مرئية.
…
تمر الساعات، يدب الخليط في عروقه، ثم يبدأ في سرد مغامراته البطولية.
الناس في نظره مصنفون إلى فئتين، الربوبا (الأرباب، الآلهة) وهم الأبطال، واحمادات، وهم الأغبياء!!
كان لسانه سليطا بشكل مقرف، ولكنه – لحسن الحظ – لم ينتقل أبدا إلى العنف الجسدي، لذلك كان يحظى ببعض العطف من سكان الحي.
كانت له رؤيته الخاصة للكون والناس والحياة، رؤية مانوية غريبة تكاد تكون فلسفية، العالم في نظره يسكنه نوعان من البشر، الطيبون وهم كل هؤلاء الذين يتعاطفون معه، يغضون الطرف، يتفهمون بليته، ويمنحونه بعض الهبات بين الحين والآخر، إما شفقة وإما اتقاء لشره، وفي الجهة الأخرى هناك الأشرار، وهم بقية العالم!!
يزعم (خاي عبد الله) أن والده قتل غدرا، لأسباب سياسية.
يردد دائما.
– با مات مغدووور !!
كنا نحن شلة الطلبة، نكن له مزيجا غريبا من المشاعر، مشاعر يختلط فيها الحب والعطف والإعجاب بالشفقة، وكان هو بحسه الغريزي يدرك ذلك، يفهمه، وكنا وحدنا نجرؤ عليه بأسئلتنا، وشغبنا القاسي، كنا نخاطبه بلقبه المحبب.
– خاي عبد الله…
كانت جلساته المسائية فرجة حقيقية، فرجة مفتوحة، مجانية وممتعة، كانت أفضل بكثير مما تقدمه التلفزة المغربية، فآنذاك لم يكن الباربول معروفا.
…
عندما تنتصف القنينة، يبدأ الفصل الثاني من سهرته.
يقوم من مكانه، ينتصب جسده المنهوك ببطء وصعوبة، يقف في قلب الساحة التي تتوسط الحي، غير بعيد عن الجردة الصغيرة، يتمايل، يصدر أنينا وآهات، ثم ينطلق، يحكي عن بطولاته ومغامراته التي يمتزج فيها الواقع بالخيال، حكايات عن الناس والحياة والموت، والخير والشر، ومعنى الشرف والصداقة والشهامة والرجولة…
ثم، يمر رجل أنيق بصحبة زوجته وطفليه الصغيرين، يعبر الزقاق، يمر بمحاذاته، يلتفت إليه (خاي عبد الله)، يرسم لحظة صمت، ثم يوجه إليه الكلام.
– أنت (خاي محمد) راجل، وأنا عارفك راجل من صغرك لكبرك…
يرسم لحظة صمت أخرى، يشير إلى جهة ما، إلى أشخاص افتراضيين، ويواصل.
– أما هاذو راهم غير الز…(كلمة بذيئة) !!
يشعر الرجل بالكثير من الحرج، يطأطأ رأسه، ويكمل طريقه في هدوء مصطنع.
ننفجر نحن، ونغرق في الضحك.
…
ثم يجنح للسياسة، فيذكر الوزراء والمنتخبين، يذكرهم بالأسماء والعناوين، يعدد سرقاتهم، زوجاتهم، ممتلكاتهم، يذكر بالتفاصيل كيف كانت حياتهم قبل الإنتخابات، وكيف أصبحت بعد الإنتخابات.
– كلهم لصوص…أنتم تعرفون أنهم لصوص، الجميع يعرف، ولكن أنا وحدي من يقول ذلك، وحدي في هذه المدينة أتكلم بدون خوف…
ثم نسأله، نسأله بخبث وكأننا لا نصدق.
– وهل تقدر على قول هذا الكلام في وجوههم؟
ينظر إلينا، يصمت للحظة، ثم يبتسم بسخرية.
– معلوم، أنا أقدر على قول هذا الكلام في…(كلام بذيء) !!
نغرق مرة أخرى في الضحك.
كنا نستمتع ويستمتع هو أيضا في تواطؤ عجيب، كان الأمر شبيها بعرض مسرحي، يقدمه فنان غريب أمام جمهور استثنائي.
المساء.
أرخى الليل سدوله، كان الرجل ما يزال واقفا في قلب الساحة، عندما سمع صوت فرامل قوية، توقفت سيارة (إم روج) بترقيم رسمي، نزلت منها فتاة رشيقة، فارعة الطول، جميلة، أنيقة، شقراء، ينسدل شعرها المتموج على قميصها وكتفيها بحرية.
تمضي بخفة، بكبرياء، لا تلتفت، تمشي بثقة في اتجاه الحديقة الصغيرة، وكان صوت كعبها العالي يسمع على الأرضية الإسفلتية.
طاق، طاق، طاق…
في تلك اللحظة، توقف (خاي عبد الله) متصلبا، جامدا، تسمر في مكانه، رأسه مرفوع، ويداه إلى الأعلى، بدا وكأنه تمثال.
يخيم الصمت.
طاق، طاق، طاق…
ثم تكلم أخيرا.
– واشفتو هاذي؟…(أرأيتم هذه…)
يهيمن الصمت، صمت رهيب.
– وراها عزيزة عليا (إنها عزيزة على قلبي)!!
تنفسنا الصعداء، كنا ننتظر الأسوأ.
يصمت قليلا، ثم يكمل.
– يقيسها شي واحد دين ربو، نضرب ربو، ويدو ف…(كلمة بذيئة) !!
تتعالى القهقهات، تنخرط الشلة في نوبة من الضحك المجنون، ضحك هستيري لا يتوقف إلا لينطلق من جديد.
انتصف الليل.
استعاد الرجل هدوئه تدريجيا، هدوء ممزوج بالتعب، عاد إلى الكرسي، وبدا صوته يخفت شيئا فشيئا.
…
مرت سنوات طويلة، طويلة جدا.
عدت إلى الحي أزور الشلة القديمة هناك، رحبوا بي، صدرت مني التفاتة عفوية جهة الحديقة، ابتسموا، ثم قالوا بصوت واحد.
– (خاي عبدالله) ياك؟ إنه ما يزال حيا!!