د. سارة حامد حواس
“مفعولٌ به مجرورٌ بالضمة” عنوان لافت للمجموعة القصصية للكاتب الدكتور خالد توفيق، اللغوي والمترجم وأستاذ اللغويات والترجمة بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة.
ومنذ قراءة العنوان تدرك جيدا للوهلة الأولى أن الكاتب له علاقة وثيقة باللغة، كما أنه عنوانٌ دال على أشياء وظروف غير منطقية وغريبة صرنا نعيش فيها ونحاول التأقلم معها.
كما نرى في المجموعة القصصية مدى تأثر توفيق بالأُسر التي تعيش في الأحياء الشعبية والبسطاء والمهمَّشين الذين يعيشون على هامش الحياة والمشكلات التي يواجهونها في حياتهم اليومية.
ولعل أكثر ما أعجبني في قصة “زبالة الحرية”، أن توفيق جعل الكلب البلدي بطلا لقصته، وجعله يتحدث بلسان حال الكلاب البلدي التي تستوطن الشوارع وتواجه القسوة والمعاملة السيئة من المارة والعابرين، كأن توفيق أحب أن يوجِّه رسالة إلى أصحاب القلوب غير الرحيمة بأن يشعروا بهذا الحيوان الرقيق الوفي.
ولقد راقت لي هذه الفكرة الجديدة والمعبرة التي صاغها توفيق بلغة العامة البسيطة واضعا في اعتباره أن الكلب عندما يتكلم، فلن يتكلم إلا بالعامية!
لم يتحدث توفيق من برجٍ عاجيٍّ بل اهتم في مجموعته القصصية بالأحداث اليومية التي تحدث للرجل العادي البسيط، كما أنه يلاحظ التفاصيل الدقيقة التي تحدث في الشارع وقد لا يلاحظها أحد، وهذه سمة من سمات القاص والروائي العارف.
يعرف توفيق، بحرفية كيف يصوغ مشكلة كبيرة نواجهها في الواقع بطريقة فيها قدر كبير من السخرية التي غلبت على معظم القصص في هذه المجموعة، فتفنن في إيصال رسائله المرجوة من القصص بطريقة واضحة وعميقة لكنها غير مباشرة مستخدما أشكالا متعددة من الرموز، فالرمزية سمة من سمات كتابة توفيق، فهو يتبع “السهل الممتنع”، وعندما تشرع في قراءة قصة له تشعر أن ما ستقرؤه بسيطا لا يحتاج إلى تأمل أو تدبر، ولكن عندما تغوص في تفاصيل القصة، تجد صورا جمالية وتشبيهات ورموزا تزيد من جمال النص، كما أن العفوية والتلقائية سمتان أساسيتان في المجموعة القصصية، حيث لم يتعمد توفيق المعاظلة أو التعقيد في لغته وسرده، وهذا يلائم تماما بساطة رجل الشارع ومشكلاته.
ولقد استطاع خالد توفيق بإتقان أن يربط بين بساطة اللغة وبساطة رجل الشارع الذي بالتأكيد لا يتكلم اللغة الفصحى بل اللهجة العامية، كما أن علاقة توفيق العميقة باللغة اتضحت في كتابته بالفصحى في بعض القصص في هذه المجموعة مثل: قصة “السد” و”عم إبليس” و”الزهر” و “الحذاء الرخيص” وغيرها، وهنا يعكس توفيق بوصفه أستاذا في اللغويات مدى إتقانه للغتين الإنجليزية والعربية(الفصحى والعامية).
استطاع توفيق من خلال هذه المجموعة القصصية أن يقدم عبرة مع كل قصة، فقصصه
هادفة وليست فقط بغرض الإمتاع وذلك من أهداف كتابة القصص والروايات والأدب بصفة عامة.
كما أنه استطاع أن يعكس تأثره بالتغييرات التي طرأت على الشارع المصري في الانتقال من حب الفن والموسيقى والأصالة إلى الاهتمام بالمحال التجارية ولقمة العيش، ففي قصة “العود الصَّدف” صاغ هذا التحول بصورةٍ بديعةٍ عن طريق الصداقة التي ربطت بين “إسماعيل” الموظف الذي لا يزيد راتبه على ألف جنيه مصري وصاحب محل “ألحان زمان” الحاج “عبد البديع” الذي صمد طويلا أمام هذا التغير ولكنه لم يستطع الاستمرار في هذا الصمود وتحول من محل بيع “آلات موسيقية” إلى “مسمط المعلم لمعي بكتيريا للحمة الراس والممبار”.
ولعل الرسالة التي خرجتُ بها من هذه القصة أيضا هي “عدم التأجيل”، عدم تأجيل تنفيذ حلم يراودك دوما، والسرعة في اتخاذ القرارات المهمة لأن الحياة بطبيعتها ليست مضمونة، فبعد أن جمع “إسماعيل” مبلغ 2500 جنيه بعد كثير من التردد والتريث الزائد في اتخاذ قرار شراء العود، ذهب إلى الحاج “عبد البديع” ولكنه لم يجده ولم يجد محل “ألحان زمان”، لكنه وجد يافطة “مسمط المعلم لمعي بكتيريا للحمة الراس والممبار”، ومن هنا خلقت عنوانا موازيا لهذه القصة أسميتها “لا تؤجل حلمك”.
ظهر تأثر توفيق بوصفه لغويا في قصة “متعهد جنازات “حيث استغل معرفته العميقة باللغة الإنجليزية وقواعدها في “مريم” ابنة الحانوتي التي التحقت بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة وتحدثت متأثرة بما درست في كليتها عن الظاهرة اللغوية المسماة بالتلطيف اللفظي msimehpueوهذا ما جعل “عم رجب” ينصاع لابنته مريم في تحقيق رغبتها لتحويل حانوتي في البطاقة إلى متعهد جنازات funeral director ولما سألها أبوها عن سر سعادتها، أخبرته أنها درست اليوم شيئا جديدا في مادة علم اللغة الاجتماعي، والشىء الجديد الذي درسته وأثار انتباهها وفضولها وسعادتها، هو تلك الظاهرة اللغوية المُسمَّاة بالتلطيف اللفظي وكان الأب لا يفهم ما تقوله مريم باللغة العربية ولم يكن يفهم ما تنطق به بالإنجليزية بالطبع، ولكن السعادة البادية على وجه ابنته أنسته كل شىء، وجعلته شغوفا بالفكرة كلها).ص 73.
ومن المعايير التي أقيس عليها جودة أي عمل أدبي سواء أكان نثرا أم شعرا، هو مدى تأثر الراوي أو القاص أو الشاعر بعمله أو دينه أو بما يحيطه كله من أشخاص وظروف وأشياء، فالراوي أو الشاعر هو ابن بيئته وإذا لم تظهر كل هذه التأثيرات على الكتابة إذن من أنت؟ وما هويتك التي سأتعرف بك من خلالها.
كما يغلب الحس الفكاهي على هذه المجموعة القصصية فالكاتب لديه القدرة على تحويل كارثة عظيمة إلى نكتة أو مزحة، فمثلا في قصة “سيلفي” كتب:
ثم توقظ حمزة وعمر ولديْها للذهاب إلى المدرسة، وتلتقط معهما صورة سيلفي أخرى وترفعها على الموقعين السابقين، وتكتب تحت الصورة: “يوم جديد لميزو وعموري صباحكم هنا يا حبايبي”.ص98
عنصر التشويق واضح في هذه المجموعة القصصية، فما أن أبدأ في قراءة قصة وأنخرط قليلا في تفاصيلها حتى أجدني ألهث بسرعة إلى استكمال القصة حتى النهاية وهذه من أهم العناصر التي تجعلني أتشبث بقراءة أي قصة.
والكاتب الأستاذ الدكتور خالد توفيق الذي يعمل أستاذا للغويات والترجمة في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة كان قد صدر له مجموعة قصصية أولى عنوانها “بدايات ونهايات”صدرت سنة 2007 كما أن له رواية عنوانها “أبو رجل مكسورة” وله العديد من الكتب في اللغة والترجمة مثل: أسماء المصريين والعرب، ووقفات مع الترجمة وأخطاء المترجمين الشائعة، وفن تدريس الترجمة، وأسرار اللغة الإنجليزية، وغيرها الكثير من الكتب.