حَشَرَةٌ بَيّْنْ أنامِلَ سَانْ جَوُنْ بَيّرسْ

حَشَرَةٌ بَيّْنْ أنامِلَ سَانْ جَوُنْ بَيّرسْ
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin-top:0cm; mso-para-margin-right:0cm; mso-para-margin-bottom:10.0pt; mso-para-margin-left:0cm; line-height:115%; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin;}

نعيم عبد مهلهل

 (1)  كل أنواع البشر في دروبهم وأساليبهم: آكلي الحشرات وثمار الماء

سان جون بيرس

 

 ( 2 ) الآن دعني ، انا ذاهب وحيدا .سأمضي ، لأن لدي أعمال :

حشرة تنتظرني للتفاوض . ندي فرج العيون الواسعة ، مع سطوح ذات زوايا مثل الفاكهة القبرصية .

والان عندي اتحاد مع الاحجار الزرقاء العروق . فدعني هكذا ، جالسا ، في صداقة ركبتي...!

سان جون بيرس/ مدائح *1

يمضي الشعر لأجل أن يكتشف اولاً ، وهو بهذه القدرية المدهشة كان أول زينة ترتديها الآلهة امام الإناث اللائي يتم اختيارهن من بين نساء الأرض للحظة يشعرون فيها انهم يغرقون في العطر والدفء والنعاس ، لأجل هذا كانت القصيدة في مشاعرها وإحساسها وخليقتها تركن الى التفكير الحسي البعيد حتى عندما أُعطيَّ للانسان أحقية اكتشافها وتأليفها قبل أن تكون حروفا ، في ذلك الوقت الذي لم تكن فيه المشاعر والتعبير عنها سوى من خلال الإشارات والمناجاة المبهمة والنظرات المتبادلة والدموع.

رؤيا الشعر والشاعر تحددها موجودات المكان المحيط وما تؤثرهُ في ما نمتلكهُ من طبائع أرواحنا في حسها وتفكيرها ، فيصار لهذه الرؤيا أن تكون الشاهد الحي لكل انفعالات البشر من مراسيم الملوك وتعاويذ الكهنة الى رسائل الغرام ومواثيق البيع والشراء ونوتات الأغاني المدرسية وعقود النكاح بين الطبقات الفقيرة. ودائما يؤثر الشعر في جميع مستويات التفكير وحركة الرمش ويتعامل مع الموجودات من خلال احساس من يقوله ولكن بشكل يتردي البلاغة والموسيقى والحماس والتأمل ، أننا نستمعُ اليه ونقرأه لنعرف مافينا أولا قبل أن نعرفَ ما في قائله وكاتبه .لهذا ومنذ ازمنة آدم وحواء وحتى سطح المكتب في شاشة الحاسوب بقيَّ الشعر يمثل ما يمثلهُ العميق الذي يسكن البشر وليس السطحي الباهت الذي قد يُصنعْ ويزوق بشكل جميل ولكنه ابدا لا يدوم كما القصيدة ، لأن الأشياء المصنوعة بخداع اللون والكلمة المعسولة تموت سريعاً حتى لو كُتبتْ وأُنشدتْ ونُحتتْ على الصخر على شكل ملاحم.

يمضي الشعر ولمْ يمضْ معه سوى هاجس التحول والمغامرة والفيلسوف لأن لمعانه لكي ينتصر على غرور المرايا يحتاج دوما الى ما يجعله متميزا ومدهشا حتى في مسيره ، الكلمات المنمقة بمهارة صنعة القلب والحبر ، الموسيقى المنتظمة في ايقاع الاحساس الصادق ، والفكرة العظيمة التي تحولها الرؤيا وغيبها الى ذاكرة سماوية ترتقي معها النواميس والكتب والافكار المُصلحة التي ترتدي معاطف تعاويذها لتبدء تبشيرها بين البشر محاولة منها لأدامة الحياة بما يتناسب مع الذوق البدائي ورعشته ،عندما كان هناك من يُريد الى يصلَ الى الامنية عن طريق الطيران بأجنحة وليس السير على القدمين ، ومن بعض تلك الاماني ، شفاه المرأة المعشوقة أو تاج ملك ، او الخلود في عَدِنْ ، او امتلاك العالم عبر حسم النصر في المعركة البابلية الاخيرة.

هذا هو الشعر ، وهذا هو الشاعر ، أزلية القرين والمقترن ، اللحظة ونتاجها ، الكلمة وما تهوى أن تهب العالم من نسائم معانيها ما يجعل الحياة واضحة وغامضة في نفس الوقت ، وليس لنا من نود أن نصل معه الى مفهوم الكينونة العميقة لما تشعر فيه أرواحنا إلا أن نفسره كما نفهمه في القصيدة التي يكتبها أولئك الصاغة المهرة الذين يحولون نعاس الكلمات وخمولها المختبيء الى تراب الذهب الذي يذرونهُ في فضاءات قراءتنا ودهشتنا كما يذرُ الفلاحون حبات القمح في مواسم الحصاد.

أنها روح الشعر بذلك الايقاع السمفوني ، مغتربة في تفاصيل الوجدان ، وتائهة في البحث عن المشاعر اللذيذة التي نحتاجها من اجل تكوين فكرة واضحة نتعامل من خلالها مع كل ما نعيشه في عالمنا ، وليس هناك من يعيّْ هذا الاغتراب الواعي سوى الشاعر عندما يكون قديسا وكاهنا ومقاتلا وناسخا في مكتبة عامة أو عامل في كورة لصناعة مشاريب الماء الفخارية ، واليوم بأمكان هذا الأنسان أن يصبح رائد فضاء أو واحد من دُعاة ثورات الربيع العربي على صفحات توتيتر والفيس بوك أو ربما عامل بلدية في مدينة نائية مزدحمة بالفقراء ومقاهيَّ اشرطة الأغاني الهابطة .

المهم أن القدرة على صناعة الحلم الشعري وتأملاته لاتقترن ابدا بالزمان والمكان حتى أنكَ تشعر مع الشعر ( تذوقا وكتابةً ) انه يعيش اللحظة ذاتها منذ آدم وحتى نزول آخر طبعة من رواية شيفرة دافنشي.

هذه المقدمة ، فقط لتمجيد الشعر والشاعر ، وهي مأخوذة في هذه الرؤيا الى صورة اكتشفتها فجأة في المحرك البحثي الهائل ( غوغول ) للشاعر الفرنسي ( Alexis Saint-Legér Léger )الشهير بسان جون بيرس ( 1887 ــ 1975 ) والحائز على جائزة نوبل للشعر عام 1960 .

الصورة بالأسود والأبيض ويظهر فيها الشاعر ماسكاً حشرة بين أصابعه ، وهي قريبة الى شكل مانسميها نحن في العراق حشرة ( فرس النبي ) . وفرس النبي السرعوف Mantis الحشرات، وأصل كلمة Mantis في اللغة الإغريقية تعني “النبي”، يسمى في ليبيا( نويقة الرسول) وهي تعني (ناقة الرسول)، ويسمى أيضاً فرس النبي والسرعوف، واليهود يسمونه “جمل سليمان ” ( بالعبرية: גמל שלמה).

وربما هذه الحشرة التي يمسكها بيرس بين أمالها مأخوذة اثناء عمله في الصين حيث تعرف جيدا على هذا الفرس الطائر الذي يعد من الحشرات الباسلة ففيالقرن التاسع عشر ابتكر أحد الرهبان الصينيين في معبد شاولين أسلوبا قتاليا اسماه ” اسلوب فرس النبي” فهذه الحشرة هي من علمته هذا الأسلوب عندما كان يشاهد المعركة الحاصلة بينها وبين حشرة اخرى كان يشاهد حينها طريقه الدفاع والهجوم لهذه الحشرة التي قادته ليتخذ منها أسلوبا قتاليا يعتمد على عدة أمور :السرعة والصلابة والمرونة والثبات .وربما بسبب هذه المزايا والدهشة التي كانت تسكن قلب الشاعر من بيئة ومناخات جزيرة غواندلوب الاستوائية ، تلك المستعمرة الفرنسية فيما وراء البحر والتي كانت منجما ساحرا للحشرات الغريبة والطيور وكائنات المحيط وقد استفاد سان جون بيرس كثيرا من تلك الكائنات ووحدها من جعلته يطور في موهبته هذا المديح المؤسطر بالاناشيد واللغة المبتكرة بأجراسها المتعاكسة التعاقب والتي تشيدُ بتلك الطبيعة وتكويناتها وتأثرها على حركة الارض والروح معا.

دائما كان الشاعر ينبهر بالمؤثر الساحر لتلك الدابات الصغيرة وربما صورة ( فرس النهر ) في تأملها العميق من قبل ناظرها تفضي كثيرا الى دهشة وتأمل ودراسة ، وربما بيرس يعرف تماما هاجس الصينيين أتجاه هذا الكائن الرشيق وربما هذه البسالة والرجولة في حركة الفرس وتصرفاته واقتراه بالفهم الاغريقي لكلمة نبي هي وحدها من جعل بيرس ينقاد الى فكرة كتابة ملحمة المدهشة ( آناباز) وربما استهلالها المهيب على لسان القائد الاغريقي ( أكزينون ) تمثل تلك النحافة الممتلئة بالكبرياء والرشاقة التي يقف فيها فرس النهر على الحواف العليا للشجر المنخفض والسنبل ورؤوس جوزة القطن.

فقد كان بيرس في تعامله مع تلك الموجودات عميقاً في جعل هذه الكائنات هي الواصل السحري والروحي بكل ما خلفه البشر من اساطير وموروث ديني ليجعله خيط التواصل والحركة التي يستطيع فيها البشر أن يذهبوا بعيدا لقراءة ما خلفه الاولون من تراث وحضارة وسحر ، لأجل هذا حرص الشاعر أن يتعامل مع هذه الكائنات الصغيرة ذات القدرة الهائلة في التحم في مصائر الناس كما يفعل الجراد في موجاته الكبيرة في التهام الحقول ، وربما هو يدرك جيدا أن فرس النبي من بعض اصناف الجراد ليؤسس نظرته في الصورة ( الأسود والابيض ) والتي يتامل فيها هذه الحشرة ، يؤسس اعجابه واستفادته وقراءته لتلك البسالة والرشاقة والصبر الذي يسكن قلب وارادة هذا الفرس بالرغم من ضآلة حجمه وانه يستطيع ( الشاعر ) أن يفرمه بين أصابعه بحركة صغيرة ، لكنه هنا يتأمله بأعجاب وفخر وشعرية تُخفي في نظراتها الكثير من الحنان والعمق والحب والتفكير.

أنه هنا يقرأ بتأمل ويعيد ترتيب قراءته لمجمل الحدث الكوني الذي يتربص في المسيرة البشرية لاسيما أن عمر الصورة يُكاد يقارب تماما الاحداث الكونية الساخنة بعد الحرب العالمية الثانية حيث يبدو الشاعر هنا على اعتاب الستين حيث التقطت له هذه الصورة.

تبهجنا الصورة من خلال نظرات الشاعر العميقة ، وهو حتما بعد انتهاء اللقطة الفوتغرافية التي التقطها مصور محترف لما فيها من تقنية جمالية وتصويرية اظهرت تماما الدلالات العميقة التي سكنت وجه بيرس وهو يمسك ( فرس النبي ) بين انأمله وكأنه يتذكر معه ومع صفات الطائر الحشري النحيف تلك المدونات التي كان فيها يناشد العالم في اعماله الشعرية ( آناباز ومدائح وامطار وقصائد المنفى وغيرها من الاعمال الشعرية تلك الدلالية الرابط لتأثير هذه الكائنات في مجمل حياة البشر منذ آدم وحتى اليوم ، هذا الرابط الذي تفرد في رسمه الشاعر وتفسيره ، اخذه الكثير على أنهُ انشاد ملحمي وعلمي وبلاغي صعب وتصويري خلاب لتفسير ما يحدث وجعل القراءة الانسانية لحاضر البشر وماضيهم تُصاغ بطريقة غريبة لعرافٍ يحتاج النقاد الى كثير من القواميس ليفسروا تماما ما يريد أن يقوله ويقصده : (( تُسمع زقزقتها في شجرة السّرو، وسيريس ذات اليدين الرقيقتين تفتح لنا ثمار شجرة الرّمان وجوز كيرسي، والفُرنب الصّغير يبني عشه في أيك شجرة كبيرة، والجراد الحاج ينبش التراب حتى قبر إبراهيم.)

أنه هنا يؤسس لتواصلٍ مقروء في سير حضاري واعٍ لما يكون ويحدث في جعل تفاصيل الحياة الاغريقية وغزاوتها وفنونها واباطرتها وفلاسفتها وأساطيرها في متناول انامل الشاعر وهو يمسك هذه الحشرة وكأنه يقود جميع هذه التحولات ومتغيراتها الفكرية والاستعمارية الى النبع الايماني الأول ( النبي أبراهيم ) ، وانهُ في العودة الى البعيد والسحيق يُريد أن يُعيد الأشياء الى البدء المتشكل في خلق الكائنات وربما بيرس ذاته يعيّْ تماما تلك الفريضات القائلة :أن تلكَ الدواب الصغيرة أقدم عمراً من البشر على الأرض ، لهذا تراه يمنحها المديح ويربط قدراتها المنتشرة على كل مساحات الارض وبأنواع لاتُحصى بتلك القوى الخفية التي تمارس سطوة الهاجس والحركة على المشاعر والتفكير والاشارات التي توجه البشر الى المديات التي تصلها تلك الكائنات وتتحملها فيما يعجز الانسان عن ذلك.

هو ذاته ( فرس النبي ) الذي يمسكهُ الشاعر بين أصابعه يمثل تلك الأبدية الغارقة في أديم الوعي والوحي والمصائر وكأنه يمارس معها الحوار الروحي والوجداني لتراه في نظرة عينيه يقرأ مع هذا الكائن الرشيق تفاسير وجودنا المتشتت في شتى مشارب الحياة بين غرامٍ وحربٍ وسكرٍ وعبادة وكتابة قصيدة .

هذه الكائنات على صغرها وخفتها مثلت للشاعر ولغيره من علماء الحيوان والنبات ألغاز وكشوفات ساعدت كثيرا في فهم السلوك الحضاري للبشر وضبطه ، وزخر التراث الانساني بالكثير من القصص التي تربط الفعل الانساني بتصرف ونمط حياة تلك الكائنات مثل صبر النملة في تجميع قوتها للسبات الطويل والتهام الجراد المخيف للمزرعات والخبث في لدغة العقرب وجمال الصنعة في بيت العنكبوت والحرير عند دودة القز وتأثير جمال اجنحة الفرشات في صنع قصائد الغزل ، وربما الحشرات الطائرة مع الحمام الزاجل هي من قادت البشر لصناعة الطائرات ومركبات الفضاء.

غير أن نظرة سان جون بيرس الى فرس النهر تحمل في معناها لذة غريبة لمعنى ينساق الى جدل متبادل بين اشعار بيرس ومغزاها وهذه الكائنات وكأنه هنا يعيد اليها نشوة حبور القصيدة في مسالك الحبر الذي يدونها بعد إمعان متأمل الى العالم وموجودته الجميلة ، واغلبها كان الشاعر يجدها في الاماكن البعيدة والبكر وقرب البحار ، لهذا نراه يناشدها بلسان حال العراف وهو يمنح هذا الطائر المنتسب الى الحشرات التي تحمل المعنى والطقوس الرجولية والانثوية معا تلك الصفة ويحاكيها بمهارة في مناراته التي يقيمها على الأرض وينتج منها مديح القصائد والسفر والأنشاد حتى لو كانت المراكب ضيقة :

( سأحكم ضغط يديك على معصمي انا العاشقة .. وسيكون معصماي بين يديك مثل معصمي مصارع تحت طوقهما الجلدي .. سترفع ذراعي المربوطتين الى ما وراء جبيني و سنضم كذلك جبهتينا كما لو اننا نحقق معاً اشياء عظيمة على الحلبة )

أنه ينظر اليها بعشق ، ويكلمها بعشق ( المرأة ، فرس النبي ، المعنى الذي في قلب الشاعر ) المهم فهو هنا يقيم دهشة النظر في محاولة لجعل هذه النظرة فتنة متبادلة ودالة لكشوفات جديدة كان بيرس المقل في التصريح عن مكنونها يؤكد دائما : إن الشعر ومنذ آدم وحواء يمثل الكشف الحقيقي لما تريد الحياة أن تفعله وتطمح اليه .

المتبادل بين بيرس والفرس يخلق في جمالية التصوير الفوتغرافي لدى الناظر والذي يعرف بثقافة المدلولات الجمالية والموسيقية والفكرية لتراث هذا الشاعر ، يخلق شدا ذهنيا أتجاه ما يريد أن يفسره حيث يحكمنا في كل هذه التفاسير العمق الملحمي والانشادي والبلاغة المفرطة في جمالية الصورة وغرابتها ، وربما علينا أن نكرر القراءات او التطلع الى الصورة بشكل أعمق لنكتشفَ أن بيرس هنا في نظرته يصنع حنانا غريبا وتعاطفا مع المسكين الذي بين يديه وربما في ملامح وجهه أبتسامة خفية وتساؤل يقول : من الممكن أن تمسك فرس بين يديك ، ليقودك الى المساحات الابعد من الخيل ومعرفة خفايا العالم وبالتالي تستطيع تماما أن تمنحه المزيد من الفهم والتفسير والتعايش.

وربما هي قدرة الشعر وطاقته الخلاقة من تستطيع أن تجعل العالم في الفهم المتبادل والواضح بين كل ساكنيه من بشر وحيوانات وأشياء جامدة اخرى ولكنها كما الورد يمتلك القدرة الهائلة ليحركَ فينا المشاعر والاحاسيس وردود الافعال من خلال عطره ونظارة الوانه.

وهذا ما كان في في تفاصيل نظرة سان جون بيرس الى ( فرس النبي ) الأسير بين اصابعه في وضع الا حول له ولا قوة ، ولكنه في النهاية حتما سيطلقه الى حريته وليعاود طقوسه الابدية لتعليم الكهنة البوذيين والطاويين اسرار القوة الخفية داخل البدن البشري.

لقد كان الشاعر الفرنسي آرثر رامبو يقول أثناء متاهته في الغابات الافريقية ويبيع البنادق لملك الحبشة : أن الهواء ليلسعني بلذة ما .ولكنها تأتي اليَّ طائرة مع نشوتها الغريبة.

هم يفهموا النشوة من خلال ما يكتشفونه جديداً وغريباً وساحراً ، وطالما كان العالم الجمالي الفرنسي غاستون باشلار يحمل المديح لتلك اليراعات المضيئة في الليالي الساكنة ، وكأنه يُريد أن يُنبهَ الأخرين أن هذا الضوء الآتي من أجنحة اليراعة وعينيها هو الابقى من أي شموع للاحتفاء بالمتغيرات في حياتنا.

واظن أن في تأمل بيرس للحشرة وهو يمسكها بين أصابعه يحمل ذات قصد غاستون باشلار ، فكما في الصورة ( الأسود والأبيض ) نكتشف البريق المختفي تحت اجفان الشاعر وهي يضيء ما في روحه من ابتسامة ومرح واعجاب وتأمل لجمال ورشاقة وخصوصية هذا الفرس ( النبوي ).

وربما هذه النظرة من جعلت الشاعر يجدد القسم والهدف الذي رسمه لمسيرته الشعرية الهائلة والتي بسببها منح جائزة نوبل وفي أجمل وصف مُنحَ لشاعر كتبته الاكاديمية السويدية وهي تبرر منح الجائزة للشاعر لم تستغرب الاوساط الثقافية في كل العالم منحه الجائزة بالرغم أن الكثير لم يكونوا يعرفوه أو قرأوا له لأنه على حد المحرر الثقافي في صحيفة اليموند الفرنسية :شاعر فخم ، اعتزل مع روحه ليصنع قارة خُرافية من الشعر ولكنها فائقة الجمال. والوصف المختصر لسبب منح الجائزة كان يشبه اشعار سان جون بيرس بمثل رسوم وزخرفات سقوف الكاتردائيات والكناس في الفاتيكان دقتها وجمالها وتجددها مع الزمن والحياة هو سر فتنتها.ليرد عليها بيرس في كلمته المؤثرة أثناء استلامه الجائزة ببلاغة وحكمة ومنها هذا المقطع الذي يفسر تماما رسالة الشاعر وشعره :

(( الشاعر هو الإنسان الذي يخترقُ عاداتنا. وبهذه الطريقة فإن الشاعر يجد نفسه مربوطاً بالتأريخ رغماً عنه. لا مظهر من أحداث زمنه غريب عليه. قد يعطينا جميعاً مذاقاً واضحاً للحياة في هذا العصر العظيم. ذلك لأن هذا زمن عظيم وجديد يدعونا إلى تقييم جديدٍ للنفس. وبعد كل هذا, لمن نمنح شرف الانتماء لعصرنا؟ “لا تخافوا”, يقولُ التأريخُ, نازعاً عن وجهه في يوم من الأيام قناع العنف, ملوحاً بيده با شارة الرضا الآسيوية المقدسة في ذروة رقصته التدميرية, “لا تخافوا ولا تخشوا شيئا, ذلك لأن الشك عقيمٌ والخوف ذليل. أنصتوا إلى الخفقة الموزونة التي تفرضها يدي العالية المبتكِرة على الفكرة الإنسانية العظيمة في التطور المضطرد لعملية الخلق. ليس صحيحاً بأن الحياة تمحق نفسها. لا شيء حي يمضي إلى العدمية أو يتوق إليها. لكن لا شيء أيضاً يحافظ على شكله أو قوامه في ظل الدفق المتواصل للوجود.))*2

هذا القسم الذي يختصرهُ الشاعر ويستعيده مع المعنى الافتراضي لتأمل الشاعر الى حشرة فرس النبي ، مختصر كله في هذا المقطع الشعري من كتاب منارات بترجمة الشاعر السوري الكبير ( اودنيس ):

(( انا الحامل عبء الكتابة , سأمجد الكتابة . كمن قدم نفسه عند تأسيس عمل نذوري عظيم لتدوين النص و اعلانه والتمسته جمعية الواهبين , لانه الوحيد المهياً لذلك . ولم يعرف احد كيف ابتدأ العمل : ربما في حي قصابين او صهاري معادن في فترة هياج شعبي بين اجراس منع التجول و طبول فجر حربي)).

نظرة الشاعر لاتنتهي ، ربما لأن الشعر يكتب حتى لاتنتهي الحياة.

دائما كنت أفسر حالتي في سكون التأمل والاستعداد الى لحظة الكتابة ، وربما تفاصيل الصورة هذه ( الشاعر وفرس النبي ) تقودني الى الكثير من تداعيات تخيل الاوهام الاولى في لذة الحلم والانشداد الى الامال ابعيدة ولم يكن هذا ليتحقق إلا من خلال القصيدة.

انه هنا في نظرته يأخدنا الى متاهته الزرقاء ، الى حياته التي عاشها ، والى خبايا غرامه ، عطر المرأة والبحر والنباتات المحيطة به في الجزر الاستوائية الغريبة حيث ولد، هذا الغرام المتبادل بين الشاعر والمرأة ، بينه وبين الموجودات الاخرى يعكسه في نظرته وقصائده الى متحولات لاتنتهي ومديح عميق للطبيعة وتواريخها منذ شجار ولدي آدم وحتى جلوسه متقاعدا من أمانة مكتبة الكونجرس الامريكية بعد أن رفض العودة للاقامة في وطنه ربما بسبب العداء الخفي بينه وبين الرئيس الفرنسي الجنرال ديغول ، حتى أن ديغول لم يبعث له برسالة تهنئة بمناسبة فوزه بجائزة نوبل للشعر.

لكنه كشاعر حكيم وفخم لم يلتفتَ الى مثل تلك الامور بل بقيَّ يصنع لمجدهِ صمتا تملأه الحلول الوجودية والفنتازية والأسطورية والكهنوتية لتساؤلات البشر بعد فجيعة الحربين الكونيتين وما قبلهما فبات من العسير على القراء العاديين أن يفهوا تماما تفاصيل ومكنون الغاز بيرس وهو يضع على دواوينه الشعرية هذه اللغة العسيرة والممتلئة ببروق الدهشة ومزامير الازمنة الغابرة ، لكن الحاذق فقط كان يفهم تماما ما الذي يريد أن يقوله سان جون بيرس حتى في قصائده التي تشيد بالمرأة وتجعل من الغرام بشكله الصوفي والمادي الرسالة الاوضح لتوضيح جمالية العلاقة بين الانسان والحياة ، بين الشاعر والحشرة التي يتأملها بحبور غريب وهي بين اصابعه ، وربما لها ايضا ينشد هذا الغرام:

أكون لك المرأة – حلم كبير في كل مجال قلب الرّجل :

(( بيت منفتح على الأبد، وخيمة منصوبة على عتبتكم، واستقبال حفيّ وانحناء لكلّ وعود العجائب.

مراكب السماء تهبط التّلال، وصيّادوا الوعول كسروا أسيجتنا، وأنا أصغي فوق رمل .

الممشى إلى ضجيجَ محاور الإله الذهبيّة التي تعبر سياجنا … آه ياحبي ياذا الحلم الكبير، كم صلوات أقيمت على عتبات بواباتنا ! وكم أقدام عارية عبرت فوق جليزنا وفوق قرميدنا!…))

يكتب سان جون بيرس وعينيه على هدوء الحشرة الحبيسة بين أصابعه، أنه هنا يتأمل التحولات في عموم حركة الاشياء الطائرة المنتشرة في هذا العالم وهي تحاولات الكون في متغيراته وتأثيراته على عموم السلوك الأنساني في جانبه الأيجابي عكس النظرة التي عاشها كافكا عندما تخيل أنه ممسوخ الى حشرة كجزء من المتغيرات المتشائمة التي تَعُمْ العالم في تحولاته الرأسمالية ومجتمعاتها وحروبه الكونية ، والغريب أن كافاكا وسان جون بيرس تم جمعهما في كتاب واحد للفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في كتابه الشهير ( واقعية بلا ضفاف ) بالرغم من عدم وجود اي التقاء فكري وايدلوجي بينهما والشخصية الثالثة المكتوب عنها في الكتاب الرسام الاسباني ( بابلو ييكاسو ) إلا أنا كلمة المسخ التي اشتهرت على اغلفة الطبعات المتكررة لرواية كافكا تستعاد مع هذه الصورة بالرغم من تعاكسات الفهم تماما بين نظرة الشاعر للحشرة ونظرة كافاكا لحشرة أخرى ، وهنا علينا أن نقف على حقيقة اختلاف الهاجسين والمزاجين والنظرة بين الشاعر ( الفرنسي / بيرس ) والروائي ( اليهودي ــ الجيكي / كافاكا ) لنكتشف الأختلاف الروحي والديني والثقافي المكتسب من المتوارث من عرق وديانة والبيئة الاجتماعية وثقافة وحضارة كل واحد منهما ، والذي يقرأ نتاجهما يعرف تماما طبيعة هذا الفرق ولماذا ظل بيرس متأملا فرس النبي ( الحشرة ) بحنان ورأفة واشراقة هي ذاتها التي صنع لنا فيها التحولات الوجودية في جانبها الخفي والمتقابل تماما مع ذائقة الفيلسوف الاغريقي ( هيرقليطس ) الذي تأثر فيه بيرس كثيرا ، فيما يعاني كافاكا مع حشرته الهائلة ( جريجور ) الكثير من المعاناة والألم وعدم الانسجام الذي يعانيه ( الأنسان الكافكوي ) في التعامل مع مجتمعه.

وهذا ماتوصل اليه غارودي في قراءته لمسخ كافاكا قوله : أنه خلق هذا العالم بمواد عالمنا مع إعادة ترتيبها وفقاً لقوانين أخرى تماماً كما فعل الرسامون التكعيبيون في نفس الفترة. وتنتمي المسخ إلى المذهب العبثي في الادب وتعالج موضوعات مرتبطة بالحداثة كالإغتراب الذي يعد من أهم سمات المجتمع الحديث الرأسمالي.

يفعل الشعر فعلته ويتنامى في الذات البشرية عندما نكتبه في مراسيم بهجتنا بما نشعره ( الألم والفرح ، الموت والحياة ، الغناء والخرس ، الحرب والسلام ) والكثير من الهواجس ومتقابلاتها والمتعاكس منها ، أنه احساسنا بما يختفي في داخلنا ولانراه ، ولكنه يظهر للعيان عندما تحوله نظراتنا واقلامنا وتأملاتنا الى شعر ينبئنا بالمتغير الحاصل فينا ونحن نشعر بضرورة انطلاقته منا وفينا ، وهذا الأحساس هو الخلق الأول لتلك المناجاة الأنسانية الأولى التي شعر بها البشر اتجاه الاشياء التي تحيط به في المكان والبيئة في اعالي السماء وعلى الارض وفي اعماق البحار والمحيطات ، وحتما كان هناك من يشعر معه ويشاركه حتى لم يكن عاقلا وواعيا مثله ولكنه في بعض المرات يكون اكثر دقة وتنظيما وجمالية من الانسان وهو ما اكتشفه البشر في الكثير من الكائنات الحية كالحشرات والطيور والنباتات . ويمكننا ان نضع نظرة بيرس في الصورة في تلك الصياغة المعادة الى ذلك الازل البعيد وكانه مع الحشرة يستذكر ذلك البدء وتفاصيله وربما من خلال هذه النظرة الحانية يفكر بمداخل نصه الملحمي الجديد الذي يكتبه على اعتاب سقوط الفاشية وبداية عهد جديد اراد له ان يكون بالنسبة له عهد نقاهة وقراءة الكتب في الركن الهاديء بمكتبة الكونجرس ، هناك اعاد ترتيب الوهج المدهش لثقافته العالية وتذكر تلك الالهامات الهلينية للثقافات البربرية والرومانية والاغريقية والشرقية التي جعلته يكتشف الذروة الحسية الرائعة والتداخل الاستشراقي بين التأريخ الحضاري للبشر والفتنة الخفية التي تسكن البشر الذين صنعوا هذا التأريخ منذ عصور بابل وما قبلها وحتى اليوم.

هو هذا الأنشاد القرمزي المحكوم بأرادة أن ننظر الى الشاعر النظرة المقدسة عندما تبث عيناه ضوء الرعاية الحنونة لحشرة تجلس هادئة على ارائك اصابعه التي كتبت اجمل القصائد والملاحم والاناشيد والنبؤات ، ليرنا قدرته على صناعة ما يديم حياتنا اكثر من قدرة مصانع فورد ولوكهيد وسيمنس وسامسونك ، فلقد كتب عليه ومن خلال هذا الحنان الابدي لحشرة تنتظر مصيرها بين اصابعه أن يسجل لنا الخطاب الازلي لروح الشاعر الحقيقي عندما يقدر له ان يكون صناعا مؤثرا في مستقبل البشر وربما هذه النظرة الابوية تختصرها رسالة الشاعر ونداءه وتوجسلاته في هذا النشيد الاخير المستل من تراث الشاعر الكبير سان جون بيرس :

 

(( يتبعنا طائر يحمله طيرانه فوق رؤوسنا ، يتفادى سارية السفينة ،

يعبر ويرينا اقدامه الحمامية الوردية ، متوحشا مثل مامبيس ورقيقا مثل أهازورس .

وكان المسافرون الشباب جالسين الرفصاء على السياج : سأخبرك عن الربيع تحت البحر ..

( لقد طُلب منه أن يروي حكايته )

بينما يعكس الزورق ظلا اخضر مزرقا . مسالماً ، مستبصرا ، وأغار بقطع السكر على الأسماك حيث يطعمها بليونة وبأشرطة متموجة ، تلك الأسماك التي تهاجر مثل لازمة الأغنية .

.. و .. ممتلئا بالصحة ، ارى ذلك ، أمضي الى جوار الرجل المريض واخبره بذلك :

نظر ، انه يكرهني……!))

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*1ــ جميع المقاطع الشعرية التي تم الاستشهاد فيها مأخوذة من الأعمال الشعرية الكاملة لسان جون بيرس /ترجمة الشاعر السوري الكبير اودنيس والصادرة عن دار المدى .وكذلك من المقاطع التي ترجمها الكاتب العراقي أحمد الباقري لقصائد بيرس في كتابه رصيف سوق الأزهار.

* 2 ــ سان جون بيرس / خطبة استلام جائزة نوبل / ترجمة حسين عبد الزهرة مجيد / صحيفة المؤتمر العراقية

 

باريس 5 سبتمبر 2013

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم