حَديثُ الصَّمتِ

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 22
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

البشير الأزمي

أتكلم إلى نفسي وأُكَلِّمُها..

تفطنتُ، من مدة، إلى أني أصبحتُ أكلم نفسي. اعتدتُ على هذا الأمر، أَلِفتُ الحديث إليها. اتهمني أهلي وأصدقائي بالخبل والجنون. أَتُعَدُّ مناجاة الذات جنوناً؟ على الأقل نفسي تُسْعِفُني على البوح بما أحس به وأفكر فيه، نفسي تُصغي إليَّ دون توجس. صدري منبعٌ فَوَّارٌ للبوح والحكي. المعاني العديدة والمتشابكة داخلي؛ النور والظلام، السعادة والشقاء، الحب والكراهية، الحقد والارتياح، الفرح والحزن؛ هذه المعاني لم يعد لها طعمٌ عندي. تقوقعتُ على ذاتي، وضعتُ حداً للتواصل الشفهي أو عبر تقاسيم الوجه مع غيري. حديثي، شجوني، آمالي وأحلامي أصبحت داخلية، أتحدثُ صامتاً، لو سمعني أهلي وأصدقائي أقول أتحدثُ صامتاً لازدادت شكوكهم ولبصموا على شهادة جنوني.. ترجمتُ سلوكاتي إلى أفعال داخلية، أصمتُ، أشتمُ من الداخل وأبكي بغير دموع.. دموعي تنساب داخلي وترش مشاعري، لا يراها أحدٌ سواي.

أتذكر كلام أبي لي ” الصمتُ يتولد من الحكمة والسكوت يتولد من الخوف.. صمتك مصفاة للنفس ونافذة للتأمل”.

وأقول ما الفرق بينهما ما دام كلامي لم يغادر لساني. أود أن يشعروا بصمتي، حتى إذا ما صَمَتُّ فهموا دلالة صمتي. لا أريد أن يعتقدوا أني ساكتٌ.. أنا صامتٌ. نعم صامت لكن لستُ أخرسَ أو غير ناطق؟ أنا صامتٌ وصمتي اختيار شخصي وفعل إرادي. وأنا أستحضر كلام أستاذي وهو يقارن بين ابن أبي الدنيا[1] وهو ينحاز إلى الصمت والجاحظ الذي ينحاز إلى فضيلة الكلام.

لم أكن صامتاً من قبل. من يوم اعتقالي بتهمة الوقوف في وجه رجال الدرك وقائد البلدة؛ يوم حاولوا أخذ أرضنا دون حق شرعي، وإهانتي بنزع ملابسي أمام أبي أحسستُ بلساني يسقط مني.

اليوم، وأبي ممدد أمامي فوق سريره نظر إلي بعينين جاحظتين ثم حدق في الفراغ.  انحسر الكلام بين فكيه واستعصى على الخروج.  اقتربتُ منه، عرقٌ على جبينه والريق جف في حلقه، جمعتُ أصابع يده اليمنى إلى إبهامه وأفردتُ السَّبابة، رفعتُ اليد إلى الأعلى وتلوتُ الشهادة في سريرتي. حزنتُ لذاتي لأني لم أستطع أن أتلو الشهادة بصوت مسموع.

انطفأتْ حياته.. انطفأ لساني..

الموت فراق وبعدٌ.. جَزَّ الموتُ ما بيننا اليوم، أضحيت أتنقل بين الفأفأة والصمت. كلما أغمضتُ عينيَّ أرى صورته تَتَمَدَّدُ في مخيلتي وهو يكلمني ولساني يتمدَّدُ بشكل لافت ولا أقوى على الكلام.. في منامي رأيت أن لساني يطول. فقتُ والفزع يملأني. استحضرتُ رأي ابن سيرين ” من رأى أن لسانه يطول بشكل مبالغ به فإن كان صالحاً تصل كلمته إلى الآفاق”، أنا صالحٌ فعلاً، لكن كلمتي ما تجاوزت يوماً ظلي. أحس برأسي تنتمي إلى جسد آخر غير جسدي.. أفتح فمي، أتحسسُ لساني.. لا أثر له..

………………

[1] – الحافظ أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد البغدادي القرشي من موالي بني أمية عرف بان أبي الدنيا وقد طغى لقبه على اسمه حتى اشتهر به   ( 208- 281 هجرية)

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال