حسن سلامة
في كتابه “تقليد وتجديد” يتحدث طه حسين عن وجود نوعين من الشعراء في العصر الجاهلي؛ المترفين والصعاليك، ورأى أن المترفين والأغنياء يدور شعرهم دوما حول حياة تافهة لا جد فيها، فقط هو شعر مقتصر على اللهو والعبث متمثل ذلك في أشعار عمر بن أبي ربيعة، والأحوص. على الجانب الآخر أعجب طه حسين بالشعراء الصعاليك، فوصف شعرهم بأنه: الطموح إلى ما ليس به سبيل، والنزوع إلى ما لا أمل في الوصول إليه، مثل عروة ابن الورد وقيس مجنون ليلى كشاعر يأمل في شيء ربما ليس له وجود حتى. ومن هنا انطلق طه حسين لرؤية مغايرة لأولئك الصعاليك، متخذًا منهم قياسا على التجديد، والجرأة.
وفي أدب الحكاية نجد أمثلة عابرة لصعاليك، كتبوا عن الشوارع والأزقة، واشتهروا بتفردهم في ذلك النوع من الحكايا، مثل يحيى حقي وخيري شلبي على سبيل المثال لا الحصر. وجاء أدب الستينيات فكان مختلفا تماما- مغايرا لما سبقه، على مستوى الحكايا والسرد والأفكار.. فبشرت تلك الحركة بجيل جديد هادما لأصنام سبقته، تمثل في أسماء مثل عبد الحكيم قاسم وسعيد الكفراوي ويحيى الطاهر عبد الله وإبراهيم أصلان وغيرهم الكثير. وكالعادة، يسقط دوما اسم محمد حافظ رجب، مع أنه عند النظر لما كتب نجده أكثر كتاب ذلك الجيل إثارة للانتباه، وأشدهم غموضا، وحقيقة.
ولم يكن تجديد محمد حافظ رجب مقتصرًا على تطوير أساليب السرد واللغة، بل يمتد ليطول موضوعاته.. فمن خلال مجموعته القصصية الأولى “غرباء” التي صدرت عام 1968 والتي تعد مدخلًا لأدبه، يتضح مبكرًا اتجاه حافظ وميوله الأدبية والإنسانية، وميول حافظ لا تتجه فقط لتعريف ورصد الإنسان المقهور، بل تشرّحه وتعيد بناءه، أدب حافظ موجه لكل مهمش، مشرد، لصعاليك الأزقة، والبيوت التي يتخللها نصف حياة، أولئك من هم على الهامش-المغتربون عن مجتمعهم-عصرهم- لهم يوجه أدبه، كنوع من المواساة-المؤازرة، محاولًا الانتصار لهم-لأنه أحدهم، ولو كان انتصارًا وهميًا؛ كما في قصة “الفارس” وبطلها شفيق أفندي، فشفيق أفندي ككل أبطال حافظ؛ متوسط الذكاء، منبطح عنوة يعوزه الجرأة…
رأس شفيق أفندي تبدأ بالانحسار عند حضور مديره شيئًا فشيئًا حتى شعوره بأنها تختفي، شفيق لا يرد على مديره، ولا إهانات أصدقائه، يكلم نفسه طوال طريقه للبيت، يسب الدين للجميع (في سره-متمتمًا).. شفيق على رغم بساطته ينبذ النهايات الميلودرامية، فلا يمرض- أو يموت كدرًا متأثرًا بالإهانات كأبطال تشيكوف وجوجول من الموظفين، شفيق يختار المواجهة، ولكن ككل أبطال حافظ يلجأ للحلم، في حلمه يستعين بأهل بيته، امرأته وابنته، حتى ابنه المشلول وقطته، أولئك هم جنود الحرب في نظر شفيق أفندي وهو الفارس المغوار، يقف ليؤنب زملاءه الموظفين، ينهر المدير، في حدث استعراضي فريد، كان حلمًا، ولكنه انتصارًا معتبرًا لشفيق، يرضيه، ليكمل حياته، النهج الذي اختاره حافظ لشفيق أفندي هنا ممكن اعتباره كنقطة انطلاق ثابتة لجميع أبطال حافظ، خاصة هنا في مجموعته الأولى، واختيار اسم غرباء فيه دلالة واضحة، تشير، وتؤطر الغرابة؛ غرابة الطبع، والحدث، ومن ثم تكون غربة واغتراب؛ عن الآخر، النفس والمكان، وتلك الجوانب التي يختار حافظ منها رصد أبطاله هي التي تميز أدبه، وتثبت فرادته وريادته في زمنه، والتي يؤكدها فيما بعد أيضًا، ويبين ذلك النهج في باقي قصص المجموعة.. في “البطل”، “جداران ونصف”، “المدية”، “غرباء” ففي القصة التي يصف فيها حافظ بطله ب”البطل” يتضح بسهولة أنه ليس بطلًا إنما هو مكره على أن يكون بطلًا، بطلًا بالإكراه، بالسخرية، حتى أنه يلعن البطولة في الأخير، في جداران ونصف وغرباء والمدية تتجلى نزعة الاغتراب في أدب حافظ، خاصة في جداران ونصف، فهو بطل غير منتمي، من شدة وحشته وضعفه يتحد بجسد آخر، أكثر جرأة وقسوة، رغبة في المشاركة، كي لا يشعر بالوحشة والألم، في غرباء يكون عالم البطل القادم من الاسكندرية هو عالم مظلم، بيت يُسمع فيه حفيف الرياح، وهنا الغربة ليست إحساسًا خارجيًا فقط بعدم الانتماء للمكان، بل تمتد لتكون شعورًا داخليًا يسيطر على ذلك المشرد الغريب، صراع داخلي بين غربته ومنفاه في بعده عن منشأه، والمدينة الموحشة، التي تلتهمه بظلامها..
في “المُدية” مدخل للكيفية التي يبدو عليها أبطال حافظ من الداخل، بين شعورهم الداخلي المضطرب-المتداخل؛ بين الانبطاح المفروض عليهم ورغبتهم في تحقيق البطولة ولو تجلت في مجرد شعور شخصي زائف بالانتصار، فالمدية-المطواة التي يحملها الفتى في جيبه دائمًا تشعره بالقوة، بالثقة، بأنه قادر على هزم الأشرار بمجرد إخراجها، وكأنه بشعوره هزمهم فعلًا، لكنه لا يخرجها آخر الأمر، إن عدم الفعل-عدم المواجهة هي علة أبطال حافظ، وحين المواجهة يواجهون على استحياء، ففي البطل هو لا يفصح عن كونه ليس بطلًا ولا يأبه بشيء، هو فقط يريد بدرية أن تعتني به وتقدم له الطعام، لكنه لا يفصح، ويرضى، في الفارس لا يستطيع أن يواجه زملائه بحقيقتهم، ولا أن يرد على مديره لكنه يلجأ للخيال، للحلم، كواقع بديل يبدو فيه منتصرًا، كما يتمسك مهمشو حافظ بأي شيء يبقيهم على قيد الحياة، ولو كان وهمًا، بزير مياة يلتمسه البطل كما في غرباء، أو جسد يلتحم به كما في جداران ونصف، والرأس عند حافظ لها دلالة كبيرة-ميتافزيقية تتعدى طبيعتها المادية، هي تمثل لكل من الأفكار والمشاعر، تنفصل عن الجسد بسهولة حين الخوف، وتتوارى نهائيًا..
لمشردي حافظ أحلام ساذجة، بقدر عالمهم الصغير؛ ثدي امرأة، جنيه من الورق يتصارع عليه قزم وعملاق أعطاهم إياه مدير عمل جشع، خادمة تشعر بأهميتها عند قبول سيدتها الهانم دعوتها للطعام في بيتها المتواضع، وكلها أحلام صغيرة، ضحلة.
محمد حافظ يحب اللعب كطفل، فجأة يُدخل بطله في صندوق بمجرد شعوره بالحسرة ويخرجه منه فور استدعائه من الخارج، يبدل أحد أبطاله رأسه حينما لا يعجبه، يشارك أحدهم جسده مع الآخر لشعوره بالخوف، يبتسم القمر للأطفال كما في الحكايات الفانتازية، يهدم العالم، ويعيد بناءه، بمرح.
