إبراهيم مشارة
الدارس للشعر العربي قديمه وحديثه والمتذوق له والمتعمق في قراءته لاشك يعرف أن قصائد يمكن أن توسم بالافتضاحية من قارئ تعود على نمط واحد من الشعر- أكان وعظيا أم حكميا أم تأمليا- وهي ليست من قبيل الأدب المكشوف ولا الشعر الذي يطلب الفن للفن ضاربا عرض الحائط بالضوابط الأخلاقية وبالتعاليم الدينية التي يصر البعض على إقحامها في ميدان الشعر فهي ليست قصائد في الغزل الصريح حيث يبدع الشاعر في وصف حسي وتهييج للقارئ أو المستمع مشيدا بدونجوانيته أو منحرفا بالغزل عن مقصده في كونه يتناول المرأة على وجه أخص إلى غزل يشيد بالمثلية وبجمال المذكر ،كل هذا وذاك يعرفه الدارس للشعر العربي من امرئ القيس الذي يروى له بيت يوسم بأنه أفحش بيت قاله شاعر أو مثلية أبي نواس ومغامراته التي خلدها ديوانه الشعري ،وما هو مبثوث في دواوين الشعراء ومدونات حفظت هذه الأشعار كالأغاني والعقد الفريد وخزانة الأدب والكشكول والمستطرف وغيرها لشعراء يتباين مستواهم ومنزلتهم ومأثورهم من الشعر شأن صريع الغواني ومسلم بن الوليد ووالبة بن الحباب وصولا إلى شعراء العصر الحديث كإلياس أبي شبكة والشاعر الرجيم حسين مردان.
إنما المقصود بإقذاع الشعراء ما كان بعيدا عن الغزل المؤنث والمذكر في إفحاشه وهي أشعار مقذعة لشعراء كبار، بعضها له علاقة بجانب شخصي كما هو الشأن في قصيدة “ما أنصف القوم ضبه” للمتنبي التي كانت سببا في نهايته، وقصيدة” يا شهر أيار” لإبراهيم طوقان أو تذمرا من ظلم واعتداء على كرامة وإنسانية الإنسان وخير ما يمثل ذلك “اميات” نجيب سرور ولاشك أن الجانب السياسي يحتل حيز الأسد في هذا الإقذاع الشعري والخروج عن المألوف في البيان والإفضاء والإفصاح كما يمثل ذلك نزار قباني ومظفر النواب.
ولا ريب أن السائل يسأل لم يقذع الشعراء وهم أرباب البيان ،وأصحاب الهمم العالية والحكم الخالدة والتأملات الخارقة في الموجود والوجود فيسفون هذا الإسفاف ببذئ القول وساقط اللفظ؟ أو لا يضر ذلك بمكانتهم ومنزلتهم عند عشاقهم وقرائهم ونقاد الشعر ممن يعول على نصاعة البيان وجودة السبك وسمو المعنى؟ كما أن البحث الأدبي والنقد قلما يتعرضان لمثل هذه المواضيع نظرا لحساسية الموقف فهذا الموضوع يعد من قبيل المسكوت عنه.
الأكيد أن الشعراء لا يعولون على ذلك فالشعر لا يستأذن ،إنه صوب العقول إذا انجلت سحائب منه أعقبت بسحائب كما وصف ذلك أبو تمام ومادام هو التعبير عن الحالة الشعورية والتوتر الوجودي والقلق الفكري فلا ضير أن ينضح الإناء بما فيه ،إن الإسفاف عند البعض لا يعدو أن يكون معالجة نفسية من أذى كبير تعرض له الشاعر فينفس عن كربه ويداوي جرحه بهذه السادية التي تحاول نقل الأذي من نفس الشاعر المتأذي إلى الشخص المهجو، أو هي حالة إعلان يأس مطبق من العالم وإفلاس المعنى وخواء الوجود فليس كالتبذل معالجة لهذه الأزمة الوجودية بعاري اللفظ وبذئ الكلم وفاحش القول.
فالمتنبي الحكيم الذي ينام ملء جفونه عن شوارد كلماته ويسهر الخلق جراها ويختصم حفظ ديوانه قصيدة في غاية الفحش والإقذاع والسباب، فالذي حفظ حكم الشاعر وروائع أبياته الخالدة يندهش من بذاءة الكلمات في قصيدة “ما أنصف القوم ضبه” وهي القصيدة التي هجا بها شخصا بهذا الاسم وأفحش في القول حتى توعده خال ضبه فاتك بن أبي جهل الأسدي وقتله مع ابنه محسد وغلامه مفلح نظرا لتعريضه بأم ضبه وهي أخت فاتك الآنف الذكر، وكانت هذه القصيدة ذات الألفاظ البذيئة والتعبير المر سبب نهاية هذا الشاعر الكبير تلك النهاية المأساوية:
ما أنصف القوم ضبــــــــه
وأمه الطرطبــــــــــــــه
وما يشق على الكـــــــــــلــ
ب أن يكون ابن كلبـــــه
إن أوحشتك المعــــــــــالي
فإنها دار غربــــــــــــه
أو آنستك المخـــــــــازي
فإنها لك نسبـــــــــــــــه
وتنسب للشاعر الفلسطيني الراحل في زهرة شبابه إبراهيم طوقان (1905/1941) قصيدة تداولها الناس سرا فذاعت أكثر مما لو ألحقت بالديوان وكل ممنوع مرغوب غير أن صديقه الكاتب الأستاذ عمر فروخ في كتابه “تاريخ الأدب العربي” وهو بصدد الترجمة لأبي الرقعمق الجزء الثاني صفحات 621/623 يشير في الهامش إلى نسبة هذه القصيدة لإبراهيم طوقان فقال تعليقا على بيت لأبي الرقعمق:
إذ لا أروح ولا أغدو إلى وطن
إلا إلى ربع خمـــــــار وحانات
فقال عمر فروخ:( لعل إبراهيم طوقان (ت 1941 م) نظر إلى بعض معاني هذه القصيدة لما نظم قصيدته: «. . . . يا شهر أيار يا شهر الكرامات).!»
وقد عرف هذا الشاعر الصافي الفطرة العروبي الانتماء والمعب من المتعة بخفة الروح والميل إلى التنكيت والمزاح ولا ريب – إن كانت القصيدة حقا من نظمه – أن الشاعر لم يكن يرغب في ضمها إلى الديوان لما فيها من فاحش القول وبذئ السباب وقد رأى أن ذلك يهز صورته في المجتمع وعند قرائه حتى روي أنه فصل من عمله بسبب هذه القصيدة التي وصلت إلى أولي الأمر . وقصتها أنه كلف بفتاة مسيحية فخطبها لكن أهلها رفضوا تزويجها منه لكونه مسلما فكان منه أن هاج وماج وأرغى وأزبد وكتب هذه القصيدة السرية في التعريض برهبان الكنيسة في صورة متهتكة فاحشة غصت بألفاظ السباب والتهتك ولا ريب أن تعريضه بالرهبان لا ينسحب على عامتهم كما أن التعرض للمسيحية من شأنه أن يلهب الحماسة الدينية ويبعث على التعصب عند المسلمين والمسحيين على السوية وتبادل السباب بين أبناء الملل والطوائف المختلفة وهو ما تنبهت له السلطات فمنعت هذه القصيدة من الظهور بأي شكل من الأشكال وظلت إلى اليوم تتبادل سرا بين العارفين بنوادر هذا الشعر. وتظل هذه الحالة لا تتبع كل راهب ولا تتعلق البتة بملة إخواننا المسيحيين ولكنها نفس الشاعر الهائجة المائجة لم تهدأ إلا بهذا البركان الذي نفث حممه فكادت أن تحرق الجميع :
فل وورد وغيد في البجامـــــات
يا شهر أيار يا شهر الكرامـــــات
واتلو زبورا كتابا غير ذي عوج
هيهات مثله في الفسق هيهــــــات
رجوت غفرانك اللهم ملتمســـــا
سرد الخطايا بسرد الاعترافــات
وقد اشتهرت قصيدة “يا تونس الخضراء “للشاعر نزارقباني(1923/1998) أيما شهرة والحق أنها قصيدة جميلة عبرت عن عمق الجرح وفداحة الخذلان وخسة الخيانة وبؤس الواقع العربي إلى حد العبثية بله العدمية ،هذا الواقع المتصارع في الميدان ينهش فيه البعض لحم بعض لكنه يحسن التآلف في قاعة مؤتمرات القمة العربية في تونس عام 1979 فبعد ثلاث سنوات فقط وقع غزو بيروت من قبل الدبابات الإسرائيلية ،عرب أطاعوا رومهم وباعوا روحهم كما نص درويش في إحدى قصائده وقد وجد كل قارئ عربي هذه القصيدة ترجمة لما في نفسه من جراح وخاطرة من أسى وروحه من سوداوية كآبة الواقع نفسه بل إن بيتا من القصيدة طار مطار الشهرة وكل ممنوع مرغوب فالنفس تطلب شيئا من التهتك في الخلوة كما ترغب في شيء من العنف ولو بمشاهدة أفلام العنف وهي غريزة متأصلة في الجبلة الإنسانية :
يا تونس الخضراء جئتك عاشقـــــا
وعلى جبيني وردة وكتـــــــــــاب
إني الدمشقي الذي احترف الهوى
فاخضوضرت لغنائه الأعشــــــاب
لا تغضبي مني إذا غلب الهــــوى
إن الهوى في طبعه غــــــــــــلاب
فذنوب شعري كلها مغفـــــــــورة
والله جل جلاله التــــــــــــــــــواب
وكأن الشاعر أحس بفداحة القول وهول الكلم فاحتال لذلك بادعاءات المغفرة من لدن الله فالهوى بطبعه غلاب والله هو التواب.
وبدوره سجل الشاعر العراقي مظفرالنواب (1934) حضوره الشعري بقارص اللفظ وفاحش القول ، كيف لا وهو الشاعر العروبي الذي حمل في قلبه جراحا زادت السياسات العربية المتصارعة من عمقها ولم تقو الخمرة ولا المنافي على بلسمتها؟ ،هذا الشاعر الذي انهزم كأوديب وعاش متجولا في المنافي تقوده أنتيجونا التي ليست سوى دواوينه الشعرية التي سجل فيها الغضب واليأس والانهيار وهو شاعر فلسطين وإحدى قصائده التي صك فيها الآذان بعاري اللفظ وفاحش القول تحمل عنوان “القدس عروس عروبتكم” :
من باع فلسطين سوى أعدائك يا وطني
من باع فلسطين وأثرى بالله
سوى قائمة الشحاذين على عتبات الحكام
ومائدة الدول الكبرى
فإذا أجن الليل
تطق الأكواب…بأن القدس عروس عروبتكم
أهلا، أهلا ..
من باع فلسطين سوى الثوار الكتبه؟
ولا شك أن الشعراء والمثقفين العرب لا ينسون الشاعر نجيب سرور (1932/1978) هذا الشاعر المطحون بظروفه ، المسكون بحب فلسطين الذي تألم كثيرا وعانى شتى المنافي والعصاب والتضييق عليه في معاشه ومعاش أسرته إلى حد فصله من عمله وموته وحيدا في مستشفى الأمراض العقلية في دمنهور وقد كتب حوالي ثلاثمائة رباعية تختصر محنة الوجود ولوعة السؤال وحرقته وقلق المعاد وإشكالية الراهن وكرامة الرافض :
لم أقف يوما بأعتاب الملـــــــوك
لم أكن يوما بركب ببغــــــاء
ليس لي أي رصيد في البنــــوك
فأنا لم أحترف بعد البغـــــاء
لم ألذ يوما بباب الرؤســــــــــاء
فأنا أكره أشباه الرجــــــــــال
لم أكن بين بغايــــا الـــشعــــراء
أنظم الشعر على دق الريـــــال
نجيب سرور الذي كتب مسرحية وأخرجها عن فلسطين تتناول مأساة أيلول الأسود دعما للفلسطينيين فكانت سبب فصله من عمله والتضييق عليه في معاشه وقد اعتبرها الأردن ضد الراحل الملك حسين وعملت المساعي الدبلوماسية عملها في وقفها ومحاسبة الشاعر والتضييق عليه ، وقد كان لنجيب سرور سوابق في السجون والمطاردات بسبب تنديده بالملاكين والإقطاعيين ورفضه للانتهازية والاستغلال والجور وقد نعت بالشيوعي تلك اليافطة التي يلجأ إليها كل نظام لمحاصرة معارضيه وصد الناس عنهم ونتيجة لذلك ساءت أحواله المعيشية والبدنية والعقلية فمات غريبا وحيدا.
وقد اشتهر ديوانه “اميات” وتداوله المثقفون والشعراء والنقاد سرا بالنسخ والتصوير والنقل فلما اشتد عليه المنع زاد عليه الطلب وهو ديوان ليس من قبيل التهييج الجنسي والإثارة الفاضحة بل هو ديوان في النقد السياسي ،صحيح لقد احتوى على فاحش القول وبذئ الكلم وصادم اللفظ ولكن في ذات الوقت كان صرخة في وجه الظلم والظالمين وقد جاء بالمحلية المصرية واللهجة المحكية.
روي أن عبد الملك بن مروان أسر إلى وزيره يوما أن ألذ الأشياء في الدنيا إسقاط المروءة بين صديقين ، وإسقاط المروة في الشعر أداة تعبيرية رغم المباشرة والسردية والألفاظ المباشرة البذيئة عن حالة نفسية وأزمة وجودية وتوتر روحي كبير يعبر كله عن حالة من العبثية واندحار المعنى وتأزم العالم أمام ركامه وحطامه فتأتي الألفاظ المباشرة النابية والصور الفاحشة كالغربان والبوم على أفنان العالم المتداعي،فلم تعد اللغة الراقية الكلاسيكية ولا المعاني الحكمية الفخمة التي تعتبر قوانين الوجود تحسن التعبير والإفضاء أو الإيماء والإيحاء بتلك الحالة الشعورية المتأزمة والقلق الكبير والتداعي والكآبة ومن رحم تلك المعاناة الوجودية وحالة التلبس بالقلق والعصاب والانهيار النفسي والشك في جدوى الوجود ولدت تلك القصائد التي احتوتها قصائد أولئك الشعراء الذين ذكروا آنفا وأضربنا عن إثباتها وهي موجودة في مظانها لمن يبحث عنها شغفا بفتنة القول وتمرده ،وبعضها غير ملحق بدواوين بعض الشعراء كقصيدة إبراهيم طوقان وديوان نجيب سرور الآنف الذكر.