حين يصبح طريقنا لله محفوفاً بالدماء

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هبه ربيع

للوهلة الأولى يمكنك قراءة رواية ( هدوء القتلة ) كنصوص متفرقة ، حيث تضم الرواية نصوصا للكاتب طارق إمام تم نشرها من قبل كقصص مثل قصة الإسكافي المجنح الموجودة ضمن مجموعته القصصية (مكان للقتلة فقط ) – فاز بها بالمركز الأول في المسابقة الأدبية التي نظمتها الثقافة الجماهيرية 2003- تقرأ في النص الأصلي (يجلس مقرفصا عند البحر علي جبل من المحار كأنه ضارب ودع في نفس المكان الذي قذفت به إليه يد ملولة من سفينة ثملة في مهد ممزق ودموع باتساع الدنيا) ، وفي الرواية الصادرة عام 2008 يمارس الكاتب الحكمة بأثر رجعي ، فيعيد صياغة الجملة إلى (يجلس مقرفصا عند البحر علي جبل من المحار كأنه إله المصائر .. وهو المكان نفسه الذي قذفت به إليه منذ أمد يد ملولة من سفينة ثملة في مهد ممزق ودموع باتساع الدنيا ) ، بالإضافة إلى بعض النصوص التي كان قد نشرها الكاتب كقصص على مدونته مثل (الرجال على الكراسي المتحركة ) من مجموعة (غرف القباطنة لا ترى البحر) ، حاصلة على المركز الأول في مسابقة الثقافة الجماهيرية 2006 ، تجد النص في الرواية صـ36 ببعض من إعادة الصياغة ، ونفس الشيء تم مع نص ( أمام المربع الخالي ) موجود في الرواية صـ28 ، وربما كان هذا هو السبب في إشارة الكاتب إلى أن الرواية تم كتابتها في الفترة 2002 – 2007 .

بالرغم من تفرق النصوص وتباعد الفترة الزمنية المكتوبة خلالها ، كأنها مخاضا طويلا لميلاد الرواية ، إلا أن الكاتب أجاد صفها فلا تشعر بها دخيلة على نص (هدوء القتلة ) الذي ينتصر للحكي ، على عكس رواية الكاتب الأولى ( شريعة القطة ) ، إلا أن أبرز ما في النص ليس الحدوتة/الحبكة ؛ إنما التخييل الغرائبي المتأمل لقاتل متوحد يكتب باليسرى ويقتل باليمنى ” يدي اليمنى تستريح في قفازها القطيفي الداكن ، تبدو أصابعها المتطاولة أشباحاً مشهرة ، أما اليسرى فأكتب بها القصائد ” .

يقدم النص تيمة القاتل ليس بالأسلوب الواقعي البوليسي الساعي للكشف عن ملابسات الجرائم أو أسباب وقوعها لكن بأسلوب الواقعية السحرية متأملاً فكرة القتل وطقوسه بصيغة الراوي الأنا ، حيث يحكي القاتل/الكاتب كيف يتجاور الفعلين ” أنا القاتل الذي يخاطر بحياته ليترك للعالم قصائده كما يبغي أن تكون” ، ” في أحد البيوت أقتل ضحية جديدة في سريرها ، أترك سطراً جديداً من الشعر القاني على ملاءة سرير ، على حائط ، أو بامتداد الأرضية ” ، “قربان قصائدي أجساداً دافئة ، سأهدي الديوان عندما أنتهي منه لقتلاي بالترتيب ، ستجد الشرطة أسماء القتلى في صفحة الإهداء وكذلك بامتداد القصائد : كل قتيل يحيا في قصيدة “.

هو ليس ذلك القتل العنيف إنما طقوس رهيفة – ” تريد أن تجرب طعنة الخشب العتيق في جسد شاب ” ، ” أي لون سيكون عليه دم امرأة ميتة إذا تجولت مطواة في جسدها ” -تقودنا للتعاطف مع القاتل ، ولتأمل أسبابه ” لابد دائماً أن يموت أخ ليحيا توأمه ” ، ” قتلتها لتصير أكثر جمالاً ” ، ” لابد أن تٌقتل كي أخلص قطعة جديدة من روحي ” ، ” إنني أقتلك لأنك تشبهني ” ، قاتل صوفي ” طريقه إلى الله محفوف بالدماء ” .

رغم تزامن فعلي القتل والكتابة حيث يصبح الأول شرطاً للثاني ، فلابد من ضحية جديدة لكل قصيدة ، إلا أنه عليك أن تقرأ حتى صفحة (104) لتفهم أن الكتابة ليست إلا وجهاً أخر للقتل كما تقرر إحدى شخصيات الرواية : هناء الصحفية ” الكتابة دي طلوع روح ” ، إلا أن النص ينتصر للكاتب الذي يتحول لضحية لأخر نصوصه حين تقتله الصحفية فيكتب بدمه أخر قصائده ، التوتر الذي يسبق خلق الكتابة ليس مرتبطاً بالقتل فقط إنما بممارسة الحب ، حتى يمكننا ترتيب الأفعال الثلاثة : يحب – يقتل – يكتب وهو يبرر ذلك بشعر لابن الفارض “مابين معترك الأحداق والمهج .. أنا القتيل بلا إثم ولا حرج ” ، ” لا خير في الحب إن أبقى على المهج ” .

يقدم النص مفارقة تخيليه فالقاتل الذي يحفظ القاهرة عن ظهر قلب – بحكم عمله موظف في جهاز التعداد – يحكي عن قاهرة غرائبية يمكن أن يفقد المرء فيها بسبب تشابه شوارعها !! ” رقعة شطرنج هائلة.. شوارعها مستقيمة ومتقاطعة، بلا أسماء. كل شارع تم اختصاره في رقم مكتوب بوضوح على لافتة زرقاء. تقطع الشوارعَ صفوفُ أشجار مهذبة متساوية القامات في منتصف كل شارع. آلاف التوائم من الكائنات الناحلة تؤكد التيه.لا زلت حتى الآن أتوه في الضاحية وأضل طريقي إلى الهيئة ” ، حتى عندما يحكي عن مبنى المباحث يقدم تخييلاً مدهشاً لمبنى تداري سوأته الطيور ” المكانُ مثل لوحةٍ مجسمةٍ من أجساد ملايين الطيور، حتى أنه استحالت رؤية ولو ذرةٍ واحدةٍ من لون الجدران الحقيقي. لقد جثمت الطيورُ على السطح والتصقت بامتداد البنايةِ محافظة حتى على أبسط الانحناءات والبروزات وغطت الأشجار، أما أرض الحديقة فقد اكتظت بتلك التي كانت تسقط فجأة لتحيا لحظاتها الأخيرة.. وبات عادياً للمارة مشاهدة ضباطٍ يغادرون البناية في مهابة بينما تراصت عشرات الطيور على أكتافهم ” ، والمدينة/القاهرة ليست مسرحاً للأحداث فحسب لكنها مشاركة في القتل بذات الدرجة ” القاهرة تضئ حافة النصل ، تمنحه لمعته المطلوبة ” ، ” في مدينة مثل القاهرة ليس بوسعك إلا أن تكون – على نحو ما وحيداً – أستطيع أن أحصي لك وحيدين كثيرين إن أردت : بائعة فقيرة ذات حدبة ومصور فوتوغرافي يستعير ابتسامة وفتاة تائهة في طقس متحرك .. سلمى وجابر كلهم وحيدون يا ليل يكملون للمدينة زينتها الضرورية . يطلعونني على جانب من وجهي . يوقظون يدي ” .

 

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم