إرشادات وتوجيهات أمومية أساسية عادةً تُلقى على السائق دون الحاجة حتى إلى إجراء أي تواصل بصري مباشر معه. تبدو هذه الأمور بغيضة وغير محببة ولكن هكذا كانت تجري الأمور، على الأقل في أوساط عوائل الطبقة المتوسطة في المدن الهندية. الأشخاص الذين يعملون في بيوتنا ويُعتبرون جزءاً لا يتجزأ من حياتنا يصبحون عادةً غير مرئين. نختزل وجودهم بيننا كشخصيات ثانوية، ضبابية و التي نصرخ فيها يوميا بالأوامر. “اذهب إلى ذلك المكان، أحضر ذلك الشيء، عد في الوقت المحدد، لا تنسى إحضار الملابس من المصبغة، هل سددت الفواتير المتأخرة؟ الكلب يحتاج زيارة للبيطري. لماذا فاتورة بنزين السيارة مرتفعة هذا الشهر؟ إذاً أنت تحتاج لأجازة؟ مرة أخرى؟ ألم تأخذ يوم عطلة خلال الأسبوعين الماضيين؟ لماذا يبدو أنه هناك حالة طارئة كل أسبوع في قريتك؟ كم مرة مات أبن عمك؟ كل هذا يُقال كل يوم بخفة، الكل منشغل جداً أو مشغول البال. هناك آلاف الأشياء التي ينبغي القيام بها. من، بربك، لديه الوقت للتوقف و ملاحظة تلك الدمامل على فروة رأس السائق؟
ولكن في صباح أحد الأيام وخلال جلسة إعطاء التوجيهات أسقط شانكر طردا صغير الحجم كان يمسكه، انحنى أرضاً لالتقاطه، حينها فقط لاحظت تلك الدمامل. توقفت في منتصف الكلام ولا إرادياً شهقة خاطفة خرجت من بين شفتي:
“يا الهي! ماذا حدث لرأسك؟ متى ظهرت لك تلك الدمامل؟ هل زرت طبيبا؟”
بدا شانكر محرجاً للغاية وحاول أن يقلل من أهمية الأمر بقوله: “إنه لا شيء يُذكر. إنها حرارة الجو. أظن أنها دمامل ظهرت بسبب الجو الحار”.
حدقت النظر إلى تلك الدمامل عن كثب و بإمعان بما يسمح به الأدب و قلت بحزم:” لا. ليست كذلك. هذا لا يبدو لي حصفاَ أو طفحاَ جلدياَ. لأي طبيب ذهبت؟”. تمتم بكلمات عن طبيب شعبي من مجتمع “الفيد” والذي يجلس تحت شجرة بالقرب من مسكنه المتواضع. دجال قروي بلا أدنى شك يستعرض مهاراته كطبيب تقليدي يتقاضى رسوماَ بسيطة على إستشارات وهمية. هذا الطبيب الدجال أخبر شانكر حرارة الصيف المرتفعة في جميع انحاء المدينة هي التي سببت له هذا الانتشار المقزز من الدمامل. نصحه وقال إنه بحاجة إلى الإكثار من شرب الماء البارد وأن يكون تحت أجواء مكيفة باردة وستختفي هذه الدمامل تلقائيا. ثم أخبره بقائمة من الإرشادات التي يجب ولا يجب عليه فعلها فيما يخص نظامه الغذائي: “لا مزيد من الأكل الحار، لا للتوابل، لا للثوم و المخللات ولكن أكثر من زبدة اللبن و الأرز”.
ـ “و هل هذا ساعدك؟”
هز شانكر رأسه بأسف قبل أن يقول معتذراً، “ارجوكِ، لا تقلقي. سأعتمر قبعة من الغد.”
يا للطف وسذاجة و جهل شانكر! ظن أن مظهره وتلك الدمامل القبيحة هي ما تزعجني.
أخبرته بطريقة أو بأخرى وبشكل حاد أنها ليست مسألة ارتداء قبعة. ذهبت إلى غرفتي ورجعت ببعض النقود.
“خذ هذا واذهب إلى طبيب مناسب ليعرف السبب الحقيقي لهذه الدمامل”.
غادر شانكر المنزل بسرعة وبدا محرجاً بسبب كل هذا الاهتمام الزائد.
“من المضحك، قلت لنفسي، لقد كان شانكر معنا لفترة طويلة ومع ذلك لا أعرف عنه إلا النذر اليسير. ولا أعرف كم من العمر يبلغ، مع أن تاريخ ميلاده مدون في رخصة القيادة. ولا أعرف سبب إلحاحي في هذا الوقت بالذات لأن أطلع على هذه المعلومات أكثر من أي وقت مضى. هل كان في الثلاثين أو الأربعين من العمر؟ يصعب القول. كان يبدو في منتصف العمر بسبب نحافة خصره. ما كان يربطنا معه هي لغتة الأم “الماراثي” و التي هي لغتنا أيضاَ. السائقان الآخران كانا من ولايتين مختلفتين: “كيرلا و بيهار”. حينما كان أطفالي يذهبون الى منزله خلال الأعياد الهندية الكبرى، كنت واعية و مدركة للظروف المعيشية التي كان يعيشها شانكر.
دأبت والدة شانكر بإستمرار على إرسال الأكلات “المهاراشتاريانية” المفضلة لدي، محفوظة ومغلقةً بإحكام في حاويات صغيرة معدنية مقاومة للصدأ.
والده موظف حكومي سابق بسيط و متقاعد. خدم في ظل حكومة الإحتلال البريطاني للهند. كان واقعاً يفخر به شانكر. كان شانكر لطيف المعشر و الحديث وغالباً ما كان يشركني في أحاديث مطولة عن السياسة المحلية و أفلام بوليوود الشهيرة. على عكس السائقين الأخرين و اللذين يكرهان العمل الإضافي في أيام الأحد، كان شانكر بلا تذمر يحضر باكراً عند الساعة الثامنة صباحاً بالضبط وفي الوقت المحدد مؤكداً بابتهاج أنه يُفضل أن يبقى مشغولا على أن يشاهد التلفاز مع رفاقه هناك في سكن العمال. رفاقه كانوا من محتسي البيرة و كانوا من حين لأخر يجبرونه على الخروج معهم للتنزه خلال العطل الاسبوعية الطويلة. بعد هذه النزهات يحضر شانكر للعمل غائم العينين وتبدو عليه سلوكيات غريبة، لكن متشوق و تواق للعمل. يخبرني الأطفال لاحقاً أنهم وجدوه يغط فى سبات عميق، شاخراً ناخراً بصوت مدو في السيارة. راكناً بشكل ملائم خارج أسوار المدرسة تحت ظل شجرة. تلك كانت فقط كانت حالات شانكر للانغماس في الملذات وحفلات السهر التي كنا على علم بها.
خارج نطاق هذه النزهات كان يبدو شانكر رجل عائلة كسول، يتجول في أنحاء المنزل بإزَار قطني طويل و سترة صدرية تضغط بإحكام حول كرشه الضخم. زوجي المهووس باللياقة البدنية كثيراً ما كان يوبخ شانكر للسماح لنفسه بزيادة وزنه بشكل مفرط، فكان يأمره بالجري حول المبنى. كثيراً ما ينصحه زوجي قائلاً له:
“لا زلت شابا كي يصبح بطنك بهذه الضخامة. من الممكن ان تسقط ميتاً اذا استمريت على هذا الحال”.
شانكر والذي يبدو أنه نشأ نشأة سوية تراه يكشّر ويتنفّس بغضب حول المبنى قبل أن ينهار وينطوي على نفسه في غرفة السائقين. بالفعل تبدو هذه فترة طويلة، ثمان سنوات مضت بنهاية شهر مايو. شانكر كان معنا لمدة عشر سنوات قبل ذلك. لقد واكب نمو الأطفال منذ كانوا صغاراً إلى أن غدوا شباباً. كما واظبَ على نقلهم من رياض الأطفال إلى مراقص الديسكو. كان بمثابة الصديق الوفي لهم وكضابط الصرف في نفس الوقت. غالباً ما كان يمنحهم قروضاً صغيرة لوجبة أو مشروباً غازياً. كان الحارس والوصي عليهم والمتمكن من تجاوز عقبات حركة مرور بومباي الفضيعة لإيصالهم إلى وجهتهم في الوقت المناسب بسلام.
خلال ذلك الصيف الطويل الحار قاوم شانكر هذه الدمامل باستخدام مجموعة متنوعة من المراهم تتراوح ما بين المضادات الحيوية وخلطة “اليورفيدا” والتي تتكون من ورق شجرة “الأزداريشتا” المطحون مع زيت شجرة “الكينا”. لم تفده هذه الوصفات في شيء. أخذ بعدها يعتمر قبعات كرة المضرب، من الواضح أنه أصبح أكثر حرجاً بسبب المنظر القبيح لتلك الدمامل. لاحظت كذلك بداية تسارع في سقوط شعره وضمور جسمه. منذ عدة أشهر كان الأطفال يغيظونه ويضايقونه بلا هوادة على حالة كرشه المرتخي. كنت كثيراً ما أحاول تأنيبه لحثه على الجري بشكل يومي، ودائما ما يكشر بإبتسامة و يصّر على إخباري على أنه بالكاد يأكل، “لا أتناول الرز، فقط بعض التشباتي.”
خلال أشهر خاطفة أنكمش جسده إلى النصف من حجمه السابق و أختفى ذلك الكرش. أكتافه أخذت بالإنحناء وغارت عيناه في محجريهما.
كنا قلقين وأخبرناه بذلك كثيراً. سألت طبيب العائلة مالذي يجعله يفقد هذا الوزن الكثير على نحو مفاجئ؟ هز كتفيه و قال أنه يمكن أن يكون نتيجة عوامل عدة: مرض السل على سبيل المثال، أو أنه هو نفسه كان يحاول أن يتخلص من هذا الوزن الزائد. أقترح الطبيب أن نطلب منه أن يجري أختبار لتحليل الدم. طلبت منه ذلك ولكن بسبب مشاغل كثيرة نسيت أن أتابع هذا الأمر ولم يكلف هو نفسه العناء بالقيام بما طُلب منه في هذا الشأن. بدأت خادمات المنزل بالهمس فيما بينهم. بدأوا بمضايقته والتهكم على شكل جسمه النحيف و تشبيهه بالممثل النحيف جداً “البطل كايون” وسؤاله ما إذا كان ينوي الإلتحاق “ببوليوود”. كان رد شانكر: “لا شيء من هذا”. وكان يضع اللوم على نصيحة أحد جيرانه حينما أوصاه بنظام غذائي خال من الزيت كحل لمشاكله. بدا عصبي المزاج وهو يقدم الأعذار كما لو كان يشعر أنني كنت أتابعه من خلالهم.
بعد عدة أسابيع تذكرت مرة أخرى ما أوصى به الطبيب واستدعيت شانكر. دخل غرفتي، يبدو في حالة خجل أو أنه مذعور. هز رأسه وقال إنه لم يكن لديه الوقت الكافي للقيام بهذا الاختبار، ولكن المستحضر الجديد السائل لفروة الرأس والذي يستخدمه يساعده على نحو فعال. أخذ يتمتم بكلمات عن ديدان تؤثر على عملية الهضم لديه.
“هذا هراء”، قاطعته بحدة. لا زلت أعتقد أنه مرض السل وأمرته بأن يذهب ويجري اختبار فحص الدم حالاً. ربما أدرك شانكر في تلك المرحلة أنه حقاً مريض على نحو خطر، وربما يعرف حقيقة مرضه. وإلا لماذا تبدو النظرة المضطربة في عينيه؟ اتصلت بطبيبي لتحديد موعد. نصحني بإجراء فحص دم شامل ويُفضل أن يقوم به على معدة خاوية. لكن شانكر كان متردداً، يتوسل مراراً وتكراراً بأنه لا ضرورة لذلك. لقد أخبره طبيب قريته أنه يعاني فقط من حساسية جلدية مزمنة تأخذ مداها ومن ثم تزول. هززت رأسي بعناد وأخبرته أنه لا خيار لديه إلا الذهاب إلى الطبيب.
وعليكم أن تتخيلوا ما سيحدث لاحقاً! في مساء اليوم التالي وفي وقت متأخر تلقيت اتصالاً من عيادة الطبيب يخبرني بصوت مُحبط أن فحوصات شانكر أثبتت أنه مُصاب بمرض نقص المناعة المكتسبة “الإيدز”.
ردة فعلي الأولى؟ مستحيل! شانكر وإيدز؟ كيف؟ شانكر؟ هل أخبره الطبيب بذلك؟
“ليس بعد. أرتأيت أن أخبرك بالأمر أنت أولاً”. قال لها الطبيب بوقار.
أخذت الأفكار تتداعى في ذهني. عادت بي الذكريات عن الحياة التي عاشها طولاً وعرضاً خلال السنوات القليلة الماضية. أستعدت في ذهني حفل زواجه البسيط قبل سنة. زواج تقليدي مخطط له من قبل الأهل، يكثر عادة بين العائلات الفقيرة. هل كان يعي أنه مريض آنذاك؟ تذكرت حماسه الكبير ورغبته بإمكانية جلب عروسه الجميلة للمنزل. كانت تلك العروس فتاة صغيرة ومتقدة حماساً لحياة جديدة. كانت أجمل وأفضل تعليماً من سائقنا شانكر. كان قد أستأجر مصوراً فوتوغرافياً ليسجل لحظات مراسم الزواج، مما جعله يجمع تلك الصور في البوم مزدحم بصور عروسه.
“غريبة!” كنت افكر، لا بد أنه كان يهيم بتلك الفتاة. بالكاد تجد صورة خاصة به، ولكنك قد تجد أكثر من مئتي صورة لها في ذلك الألبوم. على غلاف الألبوم توجد صورة مؤثرة صارخة الألوان تجمعهم وُضعت داخل إطار بلاستكي مزدان بصورة قلب ومحفور بكلمات “شانكر يحب برينا”. لم يدم زواجهم طويلا، حيث هربت العروس بعد عدة أشهر من الزواج تاركة شانكر شخصاً مُحطماً. هل كانت تعرف شيئاً عن مرضه؟ هل كانا والداه الهرمان على علم ايضا؟ أخبرنا شانكر بعد ذلك أنه أتخذ القرار الخطأ بالارتباط بتلك الفتاة وأنه سقط في فخ جمال الشكل، وأنها كانت أكثر تمدناً بالمقارنة مع عائلته.
“لقد رفضت أن تعتني بأمي المريضة أو تعد الطعام لأبي العجوز أو حتى تغسل ملابسي. كل ما كانت تحب القيام به هو مشاهدة التلفاز و التسكع في المحلات التجارية للتسوق مع أصدقائها.” هذا ما أخبرنا به شانكر حينما انتهت علاقتهما مع بعض. هل كانت هذه هي الحقيقة؟
كنت مشوشة الذهن و مضطربة مما أخبرني به الطبيب، و غاضبة أيضاَ بجنون. لم أعرف كيف ستكون ردة فعلي حينما أقابل شانكر غداً صباحاً. لا أريد أن أبدو بمظهر المتهِم و لا في وارد أن أطلق أحكاماً. نعم، شعرت بالنفور.
هل هذا هو الرجل؟ نفس الرجل الذي قضى أطفالي معه وقتاً طويلاً؟ لم اتخيل قط أن اُضطر أن أتعامل مع هذا الموقف، أو مع هذا الأنسان في يوم من الايام؟ غالباً، وأنا بالفعل مندهشة، أنني كنت أفخر بنفسي كوني حكم خبير بمعرفة الناس. هذا المرض يحدث لأناس يعيشون حياة المجون و ليس لبسطاء يخشون الله أمثال شانكر. لا بد أن هناك خطأ ما.
في تلك الليلة كثرت هواجسي و بت في صراع مع أفكاري. تخيلت جميع الأمور البشعة. لا بد أنه حصل على هذا الفيروس من زيارات أوكار الدعارة بعد ما هجرته زوجته. ربما كان شاذاً جنسياً ولديه علاقات متعددة؟ هل خدع زوجته بالزواج منه؟ هل اكتشف أنه كان يفضل الرجال؟ جزء مني يريد أن يقول له: “أغرب عنا أيها الخنزير القذر. فقط ارحل من هنا إلى غير رجعة”. بينما الجزء الآخر يُسأل رغباتي وغرائزي الإنسانية. أين شخصيتي الليبرالية عندما كنت في أمس الحاجة إليها؟ موقفي المُعلن عن المصابين بمتلازمة فيروس نقص المناعة المكتسبة؟ هل كنت منافقة إلى حد بعيد في قول الأشياء الأساسية الصحيحة علنا وأدير ظهري للناس الذين ادعيت أني أساندهم وأدعمهم؟ كان بإمكاني إما التخلي عن هذا الرجل والذي خدم عائلتي بإخلاص لسنوات طويلة أو القيام بمساعدته. هل أخبر زوجي بهذا الأمر؟ هل سيتفهم الموقف أم سيقوم بطرده؟ ماذا عن الأطفال؟ هل يتّوجب عليهم معرفة ما حل به؟ كانت تلك أطول و أقسى ليلة في حياتي.
في صباح اليوم التالي بدأ شانكر يتحاشى النظر في عيني. وقف هناك و ارتسمت على وجهه تعابير ممتلئة بالرهبة والخوف واستمر يكرر: أنا آسف، أنا آسف جداً. أشعر بالخجل. كنت ممسكة بتقاريره الطبية وتساءلت ماذا يمكنني أن أقول له أمام بقية من معه في الخدمة المنزلية. لم أستطع أن أخبرهم بخطورة مرضه. كانوا يعتقدون أنه ضحية سحر أسود وأن عائلة زوجته السابقة رمته برقية سحرية. حينما كانت الخادمات في المطبخ وبعيداً عن مرمى السمع، أنحنيت إلى الأمام وقلت بشكل عاجل و سريع، “شانكر، لا بد أن تعرف حقيقة حالتك الصحية. لا تهرب منها. سنجد حلا لها”.
كتف شانكر يديه حول صدره وسقط على أقدامي. كان يتصبب عرقاً وأخذ يردد مرة تلو الأخرى: “أقسم لك أنني لم أقترف أي خطأ. لا بد أنه دم ملوث الذي سبب ذلك لي. أنت تتذكرين انني ذهبت لإجراء عملية جراحية صغيرة السنة الماضية؟ كانت عملية بواسير. بدل الذهاب إلى مستشفى حكومي جيد حاولت أن أوفر بعض المال وسمحت لنفسي الدخول لعيادة خاصة في إحدى ضواحي المدينة. الأطباء هناك أوصوا بعملية نقل دم. أنا على يقين أنني أصبت بهذا المرض من هناك. يبدو أن الله يعاقبني. ولكن أستحلفك بالله أن لا تخبري والديّ بهذا الشأن. سيقتلهم حتما هذا الخبر. أنا معيلهم الوحيد. إذا حدث شئ لي أين سيذهب كبيرا السن هذان؟ من سيعتني بهم؟ أنا لا أريد أن أعيش، حياتي منتهية”.
أخبرته برفق أنه لا يدين لي بأي تعليل لما حدث. أردت أن يحصل على أفضل علاج ممكن و عليه أن لا يستسلم لهذا المرض بسهولة. خر شانكر أرضاً وأخذ يبكي بحرقة. الخادمات خرجن مسرعات من المطبخ يتساءلن مالذي حدث. سألت أحداهن دونما لباقة: “هل يعاني من شئ خطير؟ هل سيموت قريبا؟” كنت في حيرة من أمري وضاعت مني الكلمات. ماذا كان يتوجب علّي قوله لرجل فاقد الأمل وتخلى عن نفسه؟ ربت على ظهره وقلت له ألا ييأس. سوف نجد الطبيب المناسب وليتأكد أنه مُحاط بأيدي قديرة. كما اتفقنا على أن نعزوا مرضه للسل.
السائقان الآخران أنظما الينا و هزا رأسيمها متعاطفين. شانكر كان شخصية محبوبة و دمث و ذو صداقات متعددة حول مجمعنا السكني. لكنني شعرت بقلق و مسؤلية عن حمايته. أستطيع أن أخمّن رد فعل أصدقائه إذا اكتشفوا ما يعاني منه فعلاً . المجتمع قاسٍ بشكل مخيف تجاه نوعية مرضه. محتمل جداَ أن يُطرد من منزله من قبِل جيرانه و أن لا يُسمح له بمـِلء ماء الشرب من صنبور الحي. و من المحتمل أيضا أن يقوم أفراد من مجتمع العمارة بإصدار مذكرة تمنعه من دخول المبنى. بكل تأكيد سينصرف عنه أغلب أصحاب العربات الذين يبيعون الخضار و الفاكهة الرخيصة في المنطقة. لا زلت لا أعرف بالضبط ما أذا كنت قد اتخذت القرار الصائب. ولكن شعرت أن مرض السل بدا وقعه افضل. بهذه الطريقة قد لا يُنبذ أو يُتحاشى و قد لا يشعر أنه محطم تماماً. تمسكت بهذه القصة مع عائلتي ايضاً. سوف يستغرق مني هذا الأمر بعض الوقت لأتأقلم مع حالة شانكر و معرفة كيفية التعامل معه و محاولة التغلب على هذه المشكلة.
اقترحت عليه أن يأخذ إجازة طويلة الأمد، مدفوعة الراتب كاملاً. عملت الترتيبات مع مستشفى عام قريب ليهتم بإحتياجاته الطبية. المستشفى كان قريبا من مستشفى “دوبي تالو” أحد مستشفيات بومبي الشهيرة. يوجد في هذا المشفى العام جناح خاص للمرضى المصابين بالإيدز. ذهبت إلى هناك و قابلت مجموعة من الأطباء الشباب المتميزين المتقبلين و المراعين لمثل هذه حالات. بعد تدقيق و فحص الأوراق المتعلقة بحالة شانكر، أخبروني بكل صراحة و واقعية بإن الصورة قاتمة جداً. أجهزة شانكر الجسمية على وشك ان تتوقف عن العمل. لم تكن لديه الإرادة للحياة واستسلم لصراعه مع المرض.
“هل هذا يعني….؟”
أومأوا برؤوسهم و وعدوا أن يبذلوا أقصى جهدهم ليجعلوا من أيامه الأخيرة مريحة قدر الإمكان.
انقضت الأشهر القليلة القادمة بسرعة لا مفر منها. انتظر شانكر انقضاء أجله على سرير المستشفى وأخذ يتضاءل شيئاَ فشيئاَ كل يوم. سريعاً تقلص وانكمش إلى جزء صغير من حجمه السابق. أصبح لا يُمكن تمييزه أو التعرف عليه وهو متمدد على سريره يحدق إلى السقف بنظرات خالية من أي تعبير، خصوصاً تجاه أطفالي الذين لم يكن بإستطاعتهم التعامل مع رؤية سائقهم الحبيب في هذه الحالة البائسة. في كل مرة يراني يرفع يده بتثاقل ليحيني، و بصوت أجش يسألني ما إذا كنت أرغب بماء جوز الهند. ذلك كان شانكر، سخي و حنون إلى أبعد حد ممكن. تذكرت كل الأوقات التي كان يشتري فيها الحلويات لأطفالي من ماله الخاص، لأنني كنت أرفض التساهل في تدليلهم. كان يأخذهم معه الى بيته البسيط خلال مواسم الأعياد و يكرمهم بالمشروبات الغازية و بجميع أنواع الشوكولاته بعد أن يأخذ منهم المواثيق و يتوسل اليهم أن لا يخبروني. لأنني كنت ضد تناولهم هذه النوعية من المشروبات. الأطفال أحبوه و تولعوا به وأنا أعلم إنه كان يحبهم من أعماق قلبه. لقد حضروا حفل زواجه وأعُجبوا بزوجته الجميلة- تلك الفتاة الطائشة التي هجرته. كنت أتساءل بشأنها، ألم يكن من واجبي أن أخبرها عن حالة زوجها السابق؟ مع ذلك لم تكن هناك وسيلة لاقتفاء أثرها. سألت والدا شانكر عنها لكنهما أدارا ظهورهما للفتاة التي تخلت عن أبنهما المحبوب. لم أتمكن من العثور عليها.
في إحدى المساءات المتأخرة وبينما كنت أحوم بالقرب من سريره محاولةً أن أتجاهل الأنين الخافت وصراخ المرضى المرير المجاورين لسريره، ظهرت فجأة ومن حيث لا أعلم، بطريقة ما، أخت شانكر. سارت باتجاهي حاملةً حزمة من الأوراق، تريد من شانكر أن يوقعها. “كان يرفض أن يقوم بذلك”، خاطبتني بصوت تعلوه نبرة غضب ونفاد صبر وطلبت مني التدخل في هذا الشأن. ألقيت نظرة على الوثائق وشعرت بحزن شديد. اكتشفت الأخت أن شانكر على وشك الموت وأرادت أن تستولي على الغرفتين اللتين كان يسكنهما وكل ما يمكن أن يتركه خلفه من ودائع مصرفية وراتب تقاعدي أو أدخارات. رأيت زوجها و هو يحاول أن يتوارى عن الأنظار متراجعاً إلى الخلف وقمت باستدعائه وسؤاله موبخةً:
“الا تخجلا من أنفسيكما؟”. قررت بعدها حبس أنفاسي، “لم يمت شانكر بعد.” لافتةً إنتباههم. نظرا لبعضهما البعض وبعدها همست بصوت خافت، “لكن قريباً سوف يموت. هل تظنين أننا لا ندرك ما يعاني منه؟ قد لا نكون متعلمين ولكن نعي ما هو مرض الإيدز، كما نعرف أنه موجود في جناح مرضى الإيدز. أخبرنا الأطباء بأنه سيموت عاجلاً. ما الخطأ في سؤاله أن يوقع هذه الأوراق؟ مع كل هذا أنا أخته الوحيدة. إذا لم يوقع الآن سوف نضيّع سنوات من الجهد والوقت الطويل في أروقة المحاكم للمطالبة بهذه الأشياء. أمي وأبي سيكونان في عداد الموتى حين ذلك وستنتزع زوجته السابقة كل شيء. تلك العاهرة التي هجرته. حسنا، ولماذا تُلام؟ أي أمرأة أخرى كانت ستتركه أيضاً. أنه سيّء الخُلق ومتهتك. رجل مريض، اعتاد ارتياد بيوت الدعارة بانتظام. بالطبع لم يكن باستطاعته إخباركم بذلك، هل أخبركم؟ هذه هي الحقيقة، ولهذا السبب الإله له طرقه الخاصة في التعامل مع مثل هؤلاء الناس الأشرار. نحن نريد ما هو يخصنا، هذا كل مافي الأمر”.
أخبرتهما أن يغادرا حالاً وتترك أخاها لوحده. أخذا بالعدو بعيداً ولكن رأيتهما يتسكعان في الممر ينتظران مغادرتي.
شانكر والذي كان بعيداً عن مرمى سمعنا و كن مدرك حضورهما، استدعاني ملوحاً بحركة واهنة بيده الخالية من أي توصيلات طبية، بينما الأخرى كانت متصلة بجهاز تنقيط موصل بإبرة تُولج في الوريد. أخبرتني الممرضة كم كان من الصعوبة إيجاد وريد في ذراعه النحيفة جداً، والتي تم ثقبها من قبل و في جميع انحائها بعدد لا يُحصى من وخزات الأُبُر. حينما انحنيت قريباً منه لأستوضح ماذا أراد أن يقوله لي، تمكن و بصوت أجش ان يقول، ” لن أوقع تلك الأوراق. قولي لهم أن يذهبوا بعيداً ويتركونني لوحدي”. لوقت وجيز علا صوته باهتياج وومضت عيناه بغضب. حاولت أن أطمئنه وأخبرته أن لا يقلق، سوف أعرف كيف أتعامل معهم، وأن يحاول أن يأخذ قسطاً من الراحة. ابتسم بشحوب وأجاب، “أنا اعرف أن وقتي قد أزف وفترة ضماني انتهت!”. توفي شانكر بسلام بعدها بعدة ساعات.
مرت عدة سنوات ومع ذلك كلما أسمع جرس الباب يدق بطريقة معينة أظن فيها أنه شانكر عند الباب. موته الغير متوقع و الحزين، و الطريقة الي توفي بها هزتني بعمق. على الرغم من أنهم كانوا يمثلون جزءًا حميمياً و أساسياً في حياتنا، كم هو قليل حقاً ما نعرفه عن أنُاس يعملون لدينا! عندما تحل المأساة، حينها نعتبر وجودهم و خدماتهم تماماً من المسلمات و نأخذهم حين ذلك على محمل الجد. أخذ موت شانكر مدة طويلة من الوقت بالنسبة لي لأكتشفه كأنسان. مع أوجاع قلبه وأسراره وجسده كان يفسح المجال و يعطي الطريق للأخرين. من يعرف كيف أُصيب بهذا المرض؟ أذا كان حقاً ما قالته أخته هي الحقيقة، أو إذا كان هو الذي على حق؟ شعرت بحرج شديد لمحاولة استقصائي تفاصيل حياة سائقنا الجنسية وكنت سعيدة بعدم قيامي بذلك. لم يكن هذا مكاني، والآن أكثر من أي وقت مضى لم يعد لي صلة بهذا الأمر. عوضاً عن ذلك، أفكر كيف يمكن أن تكون الأمور مختلفة. هل لو كنت مطلعة بشكل أفضل أو مدركة و واعية بهذا الأمر، هل كان بإمكاني أن أميز و أعرف الأشارات المبكرة و بشكل أسرع؟ هل كان أكتشاف المرض في الوقت المناسب يطيل أمد حياته؟
أخيراً في السنة الماضية فقط أخبرت أبنائي بالحقيقة حول موت شانكر. حسناً… بنسخة معدلة من الحقيقة. إليكم اعتراف، أخبرتهم أن شانكر أصيب بمرض الإيدز بسبب أبرة ملوثة خلال عملية نقل دم. أنا أعلم أنهم سيُصابون بصدمة معرفة أن سائقهم الموثوق كان يتردد على بيوت الدعارة. اعتبروها آخر كذباتي لأجل شانكر، و لكنني أردت أن يتذكرونه بشكل مختلف. لا زلت أنا وأبنائي نستعيد بعض ذكريات غرابة أطواره الصغيرة ومراوغاته اللطيفة. فقط في اليوم التالي وخلال مرورنا بجانب مبنى “نادي الرصيف” وهي مؤسسة خيرية تعني بتعليم أطفال الشوارع والتي عمل فيها أبنائي كمتطوعين، تذكرنا كيف كان شانكر يشير إلى هذا النادي باسم “نادي مفرش المائدة”. نضحك بسذاجة على هذه الذكريات ونتمنى أن يكون شانكر سعيداً و حراً حيثما يكون.
…………………
*عصام محمد الجاسم:مترجم سعودي متخرج من جامعة الملك فيصل بالاحساء، كلية التربية تخصص لغة إنجليزية.. نُشرت له ترجمات في بعض المجلات والمواقع الثقافية العربية وبعض الدوريات ﺍﻷﺩﺒﻴﺔ الأمريكية.
*شوبها دي: روائية وناشطة هندية. كاتبة مستقلة لعدد من الصحف والمجلات الرئيسية في الهند. شاركت في العديد من المهرجانات الأدبية داخل وخارج بلدها. تلقى تعليقاتها وانتقاداتها للشأن الاجتماعي صدى واسعاً في المجتمع الهندي.