عادل ضرغام
يفتح ديوان (حيز للإثم) للشاعر مؤمن سمير بابا واسعا للتفكير والتأويل بداية من عنوانه، ومرورا بتناصاته العديدة من العهد القديم والجديد والتراث المصري والقبطي القديم، وانتهاء بلغته الشعرية التي لا تحتاج فقط لتفكيك دلالتها، وإنما تحتاج أيضا إلى وعي ممتد بتاريخ ودلالة المفردات، فالمفردة اللغوية كائن حي يسري عليها ما يسري على جميع الكائنات، نتيجة للاستخدامات البشرية ومسّها، فهي في لحظة قد تفقد معنى أو يخفت الشعور به، ولكنها في لحظات أخرى ولارتباطات حضارية شديدة الخصوصية تكتسب معاني أخرى ودلالات ذات قيمة.
شعرية مؤمن سمير في هذا الديوان هي شعرية الإمساك بالعابر واللحظي والمتحلل والمتبقي من الحياة على وجوهنا وأجسادنا وداخلنا، أو من تحللنا أو انتقالنا وامتدادنا في الفراغ متلبسين بالتوحد بكيانات نظن أنها تشبهنا، ولها قدرة على الفاعلية، والثبات على النسق حتى لو كان خارجا عن المجموع. هي شعرية المحاولة لتثبيت طبقة من المشاعر والأحاسيس والإبقاء عليها مستمرة حتى بعد انقضائها وانتهاء الحالة المصنوعة من الخيال، ومن ثم تتجلى بعد انقضائها بفعل الذاكرة، كأنها فعل من أفعال الصحو والانتباه، بعد توحد جزئي بعالم خاص. هي شعرية الجدل الدائم والمستمر بين الرضوخ والاستنامة للأعراف والمقرّر الجاهز، هي محاولة اجتراح دائمة، لتصفية العقلية العربية من شوائبها، تدين ثباتها وارتباطها بالتنميط داخل أطر وقوالب ثابتة، تجعلها بعيدة عن التجديد ونفض ريشها البالي.
يؤسس الديوان لرحلة جزئية من خلال الخيال والالتحام بمنطقاته، يقارب بها الواقع المتشظي من موقع المتعالي، ولكن بعد انتهاء الرحلة تتبقى للذات بقايا تظل موجودة تسهم في صناعة واقع مؤرق، ومن ثم تحاول دائما الفكاك لاستعادة وتهيئة تشكيلها للانفلات من واقع مزر، لا يستطيع في وضعه الطبيعي والواقعي أن يلمّ شتات جزئياته.
تتجلى الرحلة بوصفها رحلة فنية في الأساس خروجا من مأزق اللغة المتكلسة والمتشابهة، حيث يشعر القارئ في كثير من قصائد النثر بالمشابهة والتكرار، فإذا وصل الشاعر في لحظة ما وشعر بالوصول إلى أفق مسدود، فعليه أن يجبر نفسه بالبحث عن نوافذ جديدة لإبداعه. وهي وفق ذلك التصور- أي الرحلة- ليست رحلة حياتية أو وجودية بالتحديد العملي، وإنما هي رحلة فنية تحاول التعاظم على حالة الموات والتشابه والتكرار، لتأسيس كوى جديدة للإبداع.
وتتأسس ملامح الرحلة على مفهوم خاص للشعر، فالشعر لم يعد تعبيرا مباشرا، ولم يعد تجربة معيشة، وإنما أصبح حالة معرفية وجودية تشكل من خلالها كيانات متعارضة ومتباينة، ووجهات نظر متناقضة تشكل مجالين مختلفين يقنع الأول منهما بالمتاح والمقرر والنمطي، ويتعاظم الأخير على هذا الرضا والخنوع. فالديوان يؤسس مرتكزاته على الإيمان بقيمة التفرد وقيمة الفردية، والخروج على المجموع الآسن في ثباته، لتأسيس مغايرة وتأكيد حضور هذه المغايرة، فالارتباط بالمجموع في ظل هذا الفهم يجعل صاحبه مكبلا، ويجعله واقفا عند حدود معينة في اجتراح مناح جديدة.
خطاب الملحقات ومقاومة الغياب والحنين
من بداية خطاب الملحقات الخاص بالديوان تتأسس الفكرة المعرفية من خلال الارتحال والارتباط والانغماس في هذا السياق، واستعذاب جحيمه انطلاقا من الإطار المعرفي الخاص بالديوان. فالملحقات أو التصدير الذي أثبته الشاعر والمأخوذ من الشاعرة آن سكستون يؤدي دورا ليس فقط في الإشارة إلى المنحى الفكري، وإنما أيضا يشارك في تأسيس وتوجيه عملية التلقي، حيث تتضاءل من خلاله الصعوبة، ويتحلل أفق الإبهام، وتتولد مشروعية للفهم والتأويل. فحين يقرأ المتلقي قول الشاعرة أن سكستون(ولسوف ألتهمك ببطء مع القبلات/ رغم أن القاتل الذي فيك/ قد فرّ) سيتوجه فعل القراءة إلى منحى دال ينطلق من النقصان أو الغياب، فالديوان في مجمله في ظل هذا الفهم محاولة إبداعية لمقاومة الغياب، ومقاربة الهطول النازل من حواف الذاكرة، ومناوشة ومراقبة الصعود من الذات للالتحام بفضاء الغائب الأنثوي، بوصفه يشكل-أي هذا الالتحام- صيغة من صيغ الوجود الكامل، وما عداه ليس سوى تشظ، وتتحول تبعا لذلك تراتبية الأشياء، بحيث يتحول هذا الوجود الجزئي المصنوع من الخيال إلى وجود كلي مهيمن، وتتحول الحياة إلى جزء يتضاءل الاهتمام به. فالفاعل في التصدير غير موجود واقعا آنيا، لأنه على حد تعبير النص الشعري (قد فرّ…)، ولكن يتم تشكيله خيالا، فتغدو الفاعلية- والحال تلك- للخيال، ويقل الانتباه للحياة في الوجود العادي المشابه للبشر.
هنا في إطار النص الشعري وملحقاته تتشكل استراتيجية خاصة في مثل هذه التجارب، وهي استراتيجية ترتبط بطبيعتها من الخروج من نسق إلى نسق، ومن سياق إلى سياق، وتتساوق مع فاعلية التذكر وحضورها بوصفها حضورا لنمط متعال، حيث تشكل الذات من خلال التحامها وجودا يتعاظم على محدودية الزمن، ويتعاظم على المكان وثباته، حيث يكفل لها هذا الالتحام وعيا بالقدرة على معاينة السابق، والامتداد في الزمن لمراقبة السابقين في وجودهم السابق أثناء حركتهم وحديثهم.
وفي سياق فعل التذكر بعد انتهاء الرحلة الخيالية تتشكل ملامح هذا الحنين للتوحد السابق والاندماج والالتحام القائم على الخيال بقدرته غير المحدودة في تجميع العوالم وفق لحظات زمنية متباعدة، فيغدو الجدار أو المرآة أداة من أدوات النفاذ بوصفهما مساحة من مساحات الأعراف بين عالمين: عالم ساكن آسن، وعالم قائم على السير والحركة المجابهة ضد التيار. تتشكل ملامح الحنين بداية من خطاب الملحقات في نص آن سكستون حتى مع العظام والجلود التي تتذكر بالرغم من الموت حياتها السابقة وحرمانها السابق، تتجمع وهي مربوطة وملقاة في الحاوية بفعل التذكر والحنين في محاولة على التعاظم على وجودها الساكن لكي تنفخ الروح فيها والقدرة على الفعل.
حضور الأب في نصي خطاب الملحقات، في النص الأول(والليلة جلودنا، عظامنا/والتي ظلت تعيش بعد وفاة آبائنا)، وفي النص الثاني(يا حبيبة ومرعبة، وتهبطين في رداء الأب، يوم تلهو الأرواح لأجله، وتصطخب الشياطين) حضور له ما يبرره دلاليا ومعرفيا خاصة في محاولة النص تشكيل قسيمين: قسيم للخير، وقسيم للشر، ومحاولة إعادة النظر والتقييم لقسيم الشر، ولسلوك صاحبه بوصفه دفاعا عن خيار ودفاعا عن حرية يؤسس لها النص الشعري. فوجود الأب في نص سكستون الذي لم تتم الإشارة إليه في الفهرس، ووجوده في نص الملحق الثاني الموجود في فهرس المحتويات تحت عنوان (….) يكشف عن ارتهانات معرفية، وتقابلات وتباينات من جانب أول، ومن جانب آخر يشير إلى التغييب والاستعصاء على التسمية أو التأطير داخل نسق دال كاشف، ولكن هذا التغييب يصبح حضورا كاملا، حيث يشكل المنحى الذي تتحرك في إطاره قصائد الديوان ملتحمة بأساطير لا تخلو من تمدد وديمومة.
في النص الثاني من خطاب الملحقات يتشكل دفق خطاب المذكر إلى الآخر الأنثوي، حيث يتجلى هذا الأنثوي في إطار صورة تندّ عن الطبيعي والنمطي، ومن ثم تتحدد ملامح الخطاب من الأدنى إلى الأعلى( التحيات لك يا من لم تهل لحد اللحظة، وانتظرتك بعد أن أيقنت أنه من الضروري لظلّي أن تدوسي عليه، ويتألم..) فهي ملتحمة بالمتعالي والأبوي في ظل اختيارها وتأسيس وجودها على الجانب الآخر ضد ما هو سائد لدى المجموع ومقرر، فهي تحتفى كما تجلى من نصوص الديوان بإله الشرّ وتنحاز إليه.
تبدو الذات الساردة في خطابها الابتهالي، وكأنها تحاول تأسيس وجود جديد للاشتباك والالتحام انطلاقا من لحظة تجل ووجود سابقين، فالنصوص الشعرية في مثل هذه المحاولات الإبداعية المعرفية ترتبط ارتباطا وثيقا بالذاكرة، لأن رجوع الذاكرة معادل عودة للحياة، والارتكان إليها، فالذات الساردة من خلال إرسال(التحيات، والبركات والأشواق) وكأنها فعل من أفعال التذكير بما كان والاستجداء تمهّد لحضور الأنثى بعالمها غير المادي، فتهبط بحضورها الشبيه بالمقدس ذي الفاعلية، لاستيلاد العذوبة في الاقتراب من الاشتعال والجحيم.
التمهيد للحضور لا يقف عند حدود نصي الملحقات، وإنما يمتد – ربما لتأسيس الجانب المعرفي ولإدخال المتلقي في إطاره- إلى النصوص الأولى مثل (منحدر الغابة) و(عند الكهف). ففي النص الأول هناك إشارات دالة لتذكر التوجه السابق الذي يسعى إليه مجددا، فالبداية(هل تذكرين؟) تشير إلى فعل التوحد السابق، وفعل استعادة الحفل الذي مرّ به وعاشه ليلا مع الحضور الأنثوي الخاص والشبح الذي يتوجه الجميع إليه طلبا لرضاه لأن له قدرة فاعلة، يقول الشاعر(هؤلاء الذين كم نلفّ وندور لنحيكهم من أفضل عجين في السلالة/ شفناهم رأي العين، الكهنة الأوائل وهم يغدون في الغابات، كلما وقع القمر في البحيرة، وبان رعبه يغنون من قلوبهم وأرديتهم، ويقولون تحررنا الليلة من النور السميك، وصرنا أخفّ)
فالشاعر في الاقتباس السابق يرتد إلى لحظات سابقة في لحظة توحده ووجوده مع الساحرة التي يصنعها خيالا، ومع الكهنة الأوائل، فحتى المعسكر المقابل للنسق المستقر يوزّع إلى مراتب ودرجات، وهي على الترتيب(شيطاني- مشعوذ وساحرة- كاهن أعلى وكاهنة علياء- ماجوس وماجا)، ويشير النص الشعري إلى لحظة زمنية يلح عليها الديوان كثيرا في نصوص الديوان، للإشارة إلى التحول والانسلاخ من سياق للدخول في سياق جديد، وذلك فيقوله (كلما وقع القمر في البحيرة)، فعلى مرّ السنين والأزمنة هناك اعتقاد أن للقمر علاقة بحالات التبدل والتحول في الشخصية، وأن له تأثيرا على السلوك البشري، وهو سكن الشياطين حين يكون معتما، وحين يكون بدرا، وقد أشار البعض إلى أن الإنسان مثل الذئب يتحمس للقمر، ويناجيه ويصرخ، ومن هنا نشأت الأسطورة التي تقول أن بعض الأشخاص يتحولون إلى ذئاب عند اكتمال القمر، ووجدت خرافات وقصص بين القمر والتحولات التي تصيب بعض البشر.
تتأسس الدلالة هنا للإشارة إلى لحظة التحول من النسق المستقر المنطقي المحدود بالحواس واليقين إلى النسق المباين على الجانب الآخر، فكأن هذه اللحظة الزمنية هي بداية التحول، يؤيد ذلك أن كلمة جنون lunacy – وفي جانب من جوانبها مجانبة المنطق الطبيعي للأشياء- ترجع جذورها إلى أصل يوناني بمعنى القمر، واشتقت منها آلهة القمر اليونانية (لونا) التي كانت تستقل مركبتها الفضية كل ليلة، وتعبر الفضاء للظلمة. ويكشف عن ذلك حالة الشعور بالتحرر والخفة، والخروج من أسر التكبيل وارتهاناته المحدودة وكلها أشياء يجسدها النص في نهاية الاقتباس( كبّل البريق أقدامنا منذ الصغر، فلم نعد نلمس الطيور/ وأحبتنا الدببة، ونحن من داخلنا/ نخاف).
تبدو النصوص الثلاثة الأولى(التصدير الثاني- ومنحدر الغابة- وعند الكهف) وكأنها غنائية تعزيمية للاستحضار والظهور، حتى تهل الساحرة من سحب الغياب، من خلال الإشارات الدالة والكاشفة عنها، فالوصول إلى هذا العالم الدخول إليه لا يتم بشكل بسيط ولكن يحتاج إلى رقى وتعاويذ تقدمها الذات، وتستعيد معها حيويتها ووجودها وحريتها التي غيّبت بفعل الركون إلى العادة والسير في الطريق المستقرة والممهدة، ومن ثم نجدها في النصوص بفعل هذا الالتحام والتداخل تتعاظم على محدودية الزمن المعيش، وعلى فضاء الإقامة المحدد، من خلال القدرة على إدراك السابق بتمظهراته العديدة.
الساحرة: ثنائية القداسة والإثم
تتعدّد مرتكزات مؤمن سمير في ديوانه (حيز للإثم)، منها ما يعود إلى الأساطير الدينية في المسيحية واليهودية والإسلام، ولكن المرتكز الأساسي الذي يشكل بنية الديوان يتمثل في أسطورة الساحرة الشريرة، ففي هذا الديوان يعود إلى ساحرات السبت، وإلى حكاياتها الأسطورية التي ظلت فترة طويلة مدار اهتمام، وكتبت عنها دراسات عديدة، وقام الفنانون بعمل لوحات ترتبط بهذه الأسطورة، مثل لوحة التيس العظيم للفنان فرانسيسكو دي غويا.
ولكن سؤال الجدوى من الناحية الفنية يظل حاضرا، وربما يصبح السؤال الأهم، لماذا العودة في هذا السياق الحضاري إلى مثل هذه الأساطير؟ لماذا الإصرار على تصوير موكب أرواح أنثوية، يقاد غالبا من قبل امرأة خارقة، بالإضافة إلى صياد طيفي يعتبر شيطانا أو ملعونا، وينضم إليهم موكب من البشر الأموات يتحولون للتكفير عن خطاياهم؟ ولماذا تجلت في هذا الديوان وفي نصوصه الشعرية مطاردة الساحرات كما كان يحدث في أوربا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر؟
تأويل هذا الحضور ارتباطا بسياقه الحضاري يعود في الأساس إلى أن الكتابة الشعرية لدى مؤمن سمير ولدى كثيرين من مجايليه وسابقيه تحولت من نسقها التعبيري إلى نسقها المعرفي الوجودي، بحيث تغدو الكتابة الشعرية حالة من حالات التأمل العميق للوجود الإنساني في تلبسه بلحظة حضارية، للوصول إلى العلل الحاكمة لهذا الوجود، العلل الثابتة المستمرة على الدوام، وكأن هذا الفارق الزمني بين السياقين العربي والأوربي فارق في درجة التحضر، ودرجة الوعي بالذات، وفي مواجهة الأسئلة الكبرى داخل سياقها الممتد، فارق في استمرار الكيفية التي نصنع من خلالها أصنامنا، فارق في استمرار طبيعة النظرة تجاه الكائن الأكثر هشاشة وتأثرا الممثل في المرأة. وفي ذلك دلالة على أن عالمنا العربي لا يزال مكبلا بهذه الرؤية الثابتة التي تؤمن بالقوة العليا، هذه الرؤية التي تجعل ارتباطه بالتطور وبالحداثة واقفا عند حدود معينة.
إن فكرة تقدير الشيطان ترجع بأصولها إلى بعض الفرق المسيحية، فهناك فرق كثيرة تقدس الشيطان، وبالرغم من اختلاف أنماطها فهي ترتهن إلى عقيدة واحدة، وعقيدتهم تقديس الشيطان، حيث يرون فيه المتمرد والثائر، ونصير العبيد. القارئ لهذا الديوان أمام شعرية تولد النقيض من النقيض، وتتضافر في إطارها المقابلات والتباينات، فالإبداع الشعري في هذا الديوان يأتي وكأنه عصيان تام للثوابت يخلخلها، ثورة على النظام المهادن للكون وتراتبه، هناك إصرار للخروج على المجموع، وعلى معتقداته وقيمه، حتى لو كان في ذلك الخروج تحد متعمد للمقرر، وتثبيت في صف الآبقين المخالفين والخارجين عن التنميط الجاهز والمعهود، فصورة الساحرة تأتي محفوفة بالقداسة بالرغم من ارتباطها بالشيطان، وكأنها تمثل المسيح في كونها فداء لشريحة الخارجين مؤمنة بأهمية ذلك النسق في زلزلة اليقين للوصول إلى معنى فلسفي للفعل.
ففي قصيدة (إشارات صعود الساحرة) يبدأ مؤمن سمير من لحظة العقاب الذي كان يقع على الساحرات حين يتم الإمساك بهن، وتتوزع طرق العقاب إلى التعذيب وربط أيديهن وأرجلهن، وقضم الأظافر، ووضعهن على كرسي مصنوع من الحديد والمسامير الحادة، فالنص من خلال بدايته (إيلي إيلي لما شبقتني) يشير إلى طبيعة النظرة ودرجة الوعي الحادة التي يجب أن تكون حاضرة، فالنص الشعري يحدث تماهيا بينها وبين المسيح. ويكمل النص مرتكزاته- وكأنه يبرّر هذا الترابط- من خلال صوت الساحرة التي تأتي ساردة فعلية للنص وهي على المقصلة مجلية وجهة نظرها مدافعة عن نفسها، وتدفع ارتباطها بالشيطان( وحق أبينا كلنا لست ساحرة، والشيطان لا يلوح بين يدي، ولا يندهكم من تحت ملابسي المبلولة، ولكن عيونهم المجنونة تشوف ما لا يرى).
سوف يكشف النص الشعري عن جزئيات وثيقة الصلة بهذا المنحى، مما يبرر مشروعية التوجه النقدي في مقاربة الديوان، فنرى من خلال إنكارها الإشارة إلى الشق الذي يشقه إبليس بمنجله(علامة الشيطان بجسدها كما تقول الأسطورة)، بالإضافة إلى فكرة الجحيم، ففي الفكر الغنوصي يتجلى العالم – بوصفه عالم الشرور- على أنه جحيم، والإشارة إلى الحيات والجيف والخرائب، وابن عرس والجرذان والحيوانات الليلية التي تظهر في الطريق إلى الحفل الذي يقام في الغابات أو في الأماكن الجبلية، كما يشير النص إلى فكرة مهمة وأساسية تلحّ في ملامح هذه الأسطورة(إغواء الرجال وخاصة المتزوجين منهم) في قول النص على لسانها من خلال المقارنة والحسد والمغايرة، لدفع التهمة حين تتحدث عن زوجة البطل المسرود عنه الذي تم اختياره ليكون رفيقا في الرحلة، حيث يسميها النص ابنة العم في قوله( لم ألاعب طيف حبيبها، ولا فكر لساني، فقط مسّه لهاثي فطار من المدخنة).
إن نفي كل هذه الجزئيات على النحو السابق يؤدي في النهاية إلى إثباتها، فالنص الشعري- نظرا لطبيعته الخاصة- يؤسس حجاجه الجدلي على توجيه وجهة نظر الرافضين للسلوك إلى الوعي بالحالة وبالسياق الذي تمر به هذه الساحرة، فالنص الشعري من خلال الإشارات الدالة على الوعي والمعرفة وبالرغم من وجود النفي، لا يمهد لإسدال النفي، وكأنه العنصر الوحيد، وإنما يؤسس لوجهة نظر يجب أن تكون واعية بالسياق والحالة من جميع وجوهها، ومن ثم تصل إلى تبرير أو توجيه للفعل لهما نوع من المشروعية.
تتأسس هذه المشروعية بداية من خلال فعل التماهي بين الساحرة على المقصلة والمسيح، وكأنها تشكل فداء، فيتولد النقيض من النقيض، شريطة أن يتأسس وعي جديد يكون قادرا على القبول بمشروعية دخول الساحرة دائرة المقدس، ولهذا يأتي صوت الساحرة في النهاية مشيرا إلى الانتساب إلى هذا التوجه، ولكنه يقدم مبرراته في ذلك السياق استجابة لحاجة حضارية، ترتبط بوضعها وسياقها العام، ومحاولة إيجاد حيز للوجود والفاعلية بعيدا عن الساكن والمقرر( رغم أني أكره الشيطان من كل قلبي، بقرونه النارية والذيل المجدول… أظافره القذرة(…) إلا أنني أرفّ مرتعشة، وأنا أقدره، هو الوحيد الذي أحبني حتى النهاية).
الساحرة في هذا النص في وجه من وجوهها ترتبط بفكرة المعرفة أو الوصول لجوهر الأشياء، ومن ثم تقابل- مثلها مثل أي معرفة مغايرة للسائد- بالرفض والمقاومة والمواجهة، فالرمز المعقود بين المرأة والساحرة لا يؤخذ على إطلاقه من جميع جوانبه، وإنما يمكن أن يتوقف عند حدود فكرة المعرفة أو الوصول إلى المعنى الفلسفي لمقاربة الأشياء، وذلك يفضي بالضرورة إلى رؤية الشيء ونقيضه في الوقت ذاته، فتغدو القداسة موجودة في حواف التهتك، والعكس كذلك ربما يكون صحيحا. وتتجلى النصوص في هذا الديوان بوصفها رحلة للوصول والتأمل في جوهر الأشياء وإعادة مقاربتها وفق غاية كبرى، تكشف عن الازدواجية المستمرة. النصوص تحاول تعرية هذه الازدواجية والكشف عنها، وذلك في سبيل تبرير هذا الانتماء وهذا التمسك بالمنبوذ والمرفوض، يتجلى ذلك من خلال الدفقة الأخيرة في النص قبل الموت المنتظر( وداعا يا هذه الحياة التي لم تشربني كلي، وكنت قاسية عليّ أكثر من ردعك للأنبياء والكذبة والمرابين والأوبئة.. لن تكون النار بردا وسلاما لكنها قد تطهرني.. منكم/ وتجلوني للريح../ إيلي إيلي لما شبقتني).
الاقتباس السابق كاشف عن الازدواجية، ويدين الثبات، فالساحرة هنا في نصوص الديوان طريق الحركة الدائمة الكاشفة عن التغيير المستمر. إن نظرة فاحصة إلى القصائد العديدة التي تكشف محاولات التداخل والالتحام بين الذات الساردة والساحرة تسير إلى براح الحركة، والخفة والانعتاق من التكبيل السابق، نظرا لطبيعة العالم وانفتاح جزئياته المادية وتلاحمها، يدرك القارئ أن الحائط له مسام ويتكلم ويشعر ويحسّ. فالساحرة في نص (مديح الضآلة) حين يقول ( تفوت جنبنا، وتزداد هي اتساعا، حتى صدقت أنها بالونة غير منظورة، واقتربت كثيرا من ممالأة الخفة، لأطير جوارها، وأصير أجمل) تتحول إلى كيان فاعل مؤطر دافق بالحركة، يؤسس وجوده من قدرته على لمّ شمل الكائنات والموجودات والماديات في نسق سحري يرتبط بالحركة والمحبة. وتثبت نصوص أخرى لها وجودا غير منظور، وثقلا في الحضور كما في قوله(عندنا أسفل العمارة كلب قديم يزوم كلما تذكرتها، وسقف الجيران أسرّ لي بضيقه من كثافتها).
إن وجود هذين الكيانين: الساحرة والذات الشاعرة، الكيان الفاعل لتمام ارتباطه بالمقدس وتقديسه في إطاره، والكيان الساعي للارتباط والالتحام يكشف عن تكوين خاص للذات الساردة، يتم وفق منطق خاص لا يخلو من تنميط ارتباطا بالتراث المؤسس والأساطير، وبتشكيل الشاعر في الشعرية العربية على امتداد تاريخها، ففي نص (أنا حبيب حبيبات أصدقائي) تتفاعل آليات الكتابة لتشكيل كيان خاص لا يخلو من خصوصية من خلال التظليل السميك لبعض الكلمات، وهي على الترتيب( النذل- المخيف- الحزين-الصياد- الوحيد- القناص- المجرم)، وذلك لتضع هذه الكلمات موضع التبئير الخاص دلاليا، وتشده إلى سمات في سياقه التكويني الخاص بالشاعر، فالخط الكتابي السميك ليس حلية، بل هو طريق للانتباه، ويشكل في إطار هذا التصور مرتكزات دلالية للكيان الخاص.
في تصويره للذات الشاعرة التي تمثل قسيما مشاركا للساحرة في تكوين الجانب المعرفي للديوان، نجد النصوص الشعرية تقدم تشكيلا خاصا للسارد الفعلي أو السارد المشارك، وتتوزع هذه الصورة في نصوص عديدة، وعلى القارئ أن يتوقف عندها، ويلمّ شتاتها وجزئياتها المبعثرة الخافتة. أول شيء من ملامح هذه الصورة يقابلنا في نص بعنوان(أصوات تحت الأظافر)، فالصورة المقدمة لا تخلو من غرابة، ومن تجهيز وتشكيل خاصين للسير في تلك الطريق، لأنها طريق الوعي المغاير والمقاربة المختلفة لجزئيات العالم.
يمكن للقارئ أن يلمح تشابها بين صورة الساحرة التي قدمنا جانبا منها في الاقتباس السابق، وصورة السارد المقدمة في هذا النص، فحين يقول النص الشعري(فاتت على أبي تعويذة العائلة فشاركه الشيطان في أمي، هكذا طلعت ابن جنٍ، رأسي كبير، ويسري في عروقي دم أسود…، الجدة يقينا كانت تعلم، كلما بعثتُ ظلي تزوم، وتناجي السقف الذي خبت فيه إشراقها) سوف يدرك المتلقي أن هناك بناء متعمدا لنسق التشابه والتماثلات، وأن هناك كيانا معرفيا تشكله رموز متشابهة في التوجه، ولكنها مختلفة في التراتب داخل هذا الإطار الكبير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقد مصري