حوض الورد

فن تشكيلي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شيماء ياسر

كان آخر ما أخذته معها من الدنيا، رائحة الورد. منذ الصغر، لم تعرف إلا أكوام القمامة، كمهنة متوارثة أبا عن جد. تمشي منكسة الرأس، إذا ما صرفها أحدهم بعنف بسبب الرائحة المتجولة معها في كل لفتة. حرصها على شراء معجون اسنان، كان مثار تعجب وسخرية من د. وديع الصيدلي.

“يعني هو ده اللي نقصك يا جواهر. يا بنتي انتي قنبلة موقوتة ماشيه ع الأرض بريحتك دي”

لم تفهم الجملة. تسمع عن لفظ القنبلة تلك التي تحدث فرقعة بصوت هادر. ما وجه الشبه، لا تعلم.  تشكل المياه عندها قمة نعيم الدنيا والآخرة. أغلظ الأيمان تُعقد بالعقاب من زوج امها، عندما تقرر الاغتسال يوميا بعد يوم عمل طويل، تمتزج فيه رائحة العرق برائحة قمامة البشر.

“مبنلاقيش الميه الصبح يا بنت الكلب. ريحي نفسك مش هتنضفي”

مدام كريستينا والخواجة مرقص زوجها، من أعز الزبائن. صنّاع عطور محلية صغيرة.

“خبيبتي انت خسارة ف الشخلانة دي. انت لازم تبقى خاجة تاني. تعالى وأنا أعلمك كل خاجة”

مصنع مدام كريستينا المحلي، في إحدى عمارات وسط البلد بالقاهرة. عمارة قديمة متماسكة أمام الزمن بتقلباته من أقصى اليمين لأقصى اليسار. مصنع الورد يحتل الدور الأخير في البناية. سقف الصالة، عبارة عن قبة زجاجية ملونة صغيرة، تسمح بدخول الضوء الطبيعي نهارا بشكل ساحر عند انعكاسه على رسومات روميو وجوليت.

الغياب المتكرر لحارس البناية، فرصتها الذهبية للصعود بنفسها لاستلام أكياس القمامة. رحلة الصعود لقبة روميو وجوليت برغم مشقتها، إلا أنها ماتعة لها.

“الأسانسير ده للسكان بس. اطلعي ع السلم ياختي ولو عايزاني اجي اونسك” يقولها ويكشف عن اسنان سوداء بابتسامة تشم فيها رائحة التبغ والقمامة.

حاول جرّها اكثر من مرة لغرفته في البدروم. كانت بداية تعرفها على مدام كريستينا، اثناء خروجها من الاسانسير وسماعها لسيل الشتائم المُلقى على الحارس من جواهر التي كانت تدفعه وترميه بزجاجات البلاستيك الفارغة.

يومها تخلّت كريستينا عن موعد خروجها، واخذت معها جواهر لأعلى. كانت المرة الاولى التي تسمع فيها عن اشخاص روميو وجوليت وترى لهم وجوه واجساد. ترى ضوء النهار يغلفه رائحة الورد المركّزة. اصبحت شقة مدام كريستينا، جنة الارض لجواهر. مرّحب بها دائما.

تحاول بكل قوتها نفي شائعة اعتياد قومها لرائحة القمامة. تؤكد دوما انها لم تعتادها كما يحدث للبعض منهم. انها تريد الخلاص منها، من قمامة البشر الملقاة على ظهرها دوما. فليحمل كل منكم قمامته ويتحمل مسؤلية التخلص منها. قروشكم الزهيدة لست في حاجة لها، لا تغني من جوع، بل لا امتلكها اصلا. تذهب رأسا للرأس الكبيرة المدبّرة لمكيدة التخلص من القمامة حرقا. نحن من نحمل قمامتكم، وتزكم انوفنا رائحة التخلص منها. حرائق خلاصكم وتطهركم نحن من ندفع ثمنها. وانتم تظنون الطهر والخلاص وتحمدون الله عليه.

مختلفة هي عن باقي بنات “الكار”. شعرها الاصفر وبياضها المتحول دوما لسواد خفيف، يغطيه تراب الشارع و دخان الحرائق ويستره عن الأعين الطامعة.

بعد اغتسالها يوميا، تكون مثار حسد قريناتها واختها الكبيرة، عندما يظهر لهم انفصالها عن عالمهم شكلا وموضوعا من طول رفضها ونقمتها على حالهم. نغمة تحاول ضبط ايقاعها وسط سيمفونية نشاذ.

تدعو العدرا لتكشف لها السر، وتصلي على محمد علّها تجد عنده الجواب، لماذا لا تنبت في احواشنا الورود.

لم تنطق امها بكلمة اثناء تبكيت زوجها على اصيص الورد الصغير ذو الزهرة الوردية الواحدة فيه. جاءت به من جنة مدام كريستينا كهدية. لم تسلم يومها من سخرية كل من تمر عليهم في طريقها للجدران الأربعة التي تؤي اربعة افراد، قرر خامسهم ان يرحل ليجد البراح.

ليتخلص منها ويكسر شوكتها، قرر زوج الام تزويجها من ابن جارهم، جامع للقمامة صباحا، مدمن على كل انواع الغياب ليلا. تنتشر اقاويل انه “مابيعرفش ومالوش فيه” بعد طلاق سابق انتهى بفضيحة وشجار لازالوا يتحاكون به.

يومها اكتمل امامها المشهد، مشهد رحلتها على هذه الارض. قررت الاستعانة بصاحبة الجنة، مأواها الوحيد الآمن. مع درجات السلم في الادوار العشر، كانت تحكم روايتها، لتضمن موافقة مباشرة على الطلب. ان تعمل خادمة في مصنع للعطور، هو ترقي لا شك فيه عن كونها جامعة قمامة. مدام كريستينا تعرفها جيدا وتقف في صفها دوما وتدعمها ولن ترفض.

وصلت لاهثة امام باب الشقة العتيق، بارتفاعه وصلابته. دخولها الجنة هو مبتغاها من وراء الباب. لن تهبط، قرار واضح وصريح.

طال ضرب الجرس مرارا ولا مجيب. تزايد ضربات كفها على الخشب الصلب. لاحظت غياب لوحة اسم الخواجة من على الباب. لن تهبط، هذا هو القرار.

توجهت للشقة المجاورة في الدور الفسيح. مدام عايدة، من الجرس الاول، طالعتها بابتسامتها العجوز مرحبة.

“هيا مدام كريستينا فين يا ست عايدة”

“انتي متعرفيش. دي سابت الشقه. من يومين جه قرار غلق للمصنع. ولاد الحرام بلغوا عنه. جت الحكومة قفلت المكان.”

“طب راحت فين الاقيها فين”

“والله يا بنتي معرفش. هيا قالتلي لما نستقر هتكلمني. بس استني صحيح. كانت سايبالك نسخة من المفتاح تاخدي حاجه من جوا. كنت ناسيه معلش. ثواني”

لم تكتمل الدقيقة، حتى جاء المفتاح. توجهت به لباب الجنة، خاوية على عروشها، الا من بعض ورق العزال. تجولت في المكان براحبته التي كانت تغشاها الورود قبل ايام قليلة. لازالت الرائحة قوية ونفّاذة.

تعجبت من عدم وجود شئ تركته مدام كريستينا لها كما قالت الجارة. غرفة واحدة مغلقة، تنبعث منها رائحة قوية للورود.

فتحتها بحرص، تجولت بعيناها، فستان وردي قصير بأكمام قصيرة معلّق على شماعة.

طاولة جانبية عليها مرآة فضية اليد، وزجاجة عطر ومشبك شعر.

مغطس ابيض عريق يتوسط الغرفة يمتلئ بماء الورد وأوراقه الحمراء والوردية والصفراء، رائحته النفّاذة مغرية بالانزلاق داخله. نعم هذا هو ما رمت اليه مدام كريستينا.

امام المرآة الطولية للطاولة، خلعت عنها ثوب القمامة. ارتدت الفستان الوردي. تعطرت ووضعت مشبك الشعر بعناية. واطلقت جسدها يغمره ماء الورد في المغطس اليوناني القديم.

 

مقالات من نفس القسم