حوار مع جوليا كريستيفا: وضعية الحياة الطارئة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 30
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 ترجمة: سعيد بوخليط

 لا نتخيل إلى أي حد تتجلى صعوبة التماسك حينما تعيش امرأة مع زوج ليس كالآخرين،  ولديها طفل يختلف عن الآخرين، ومهنة غير باقي المهن، وبأن مختلف محاور الارتباط تلك وبقدر كونها ارتقاء فهي تمثل عائقا أيضا(مع أخذ بعين الاعتبار أن كل واحد منا لايشبه الآخرين”)وتقوم على توازن ”مغاير تماما’ ‘يصعب تخيل ذلك !(كاترين كليمون، جوليا كريستيفا، الأنثوي والمقدس، ألبان ميشيل، 2015 )

*صامويل دوك:أستعيد رواية الساموراي. النص الذي يقدم لنا أول جسر بين وجودكم الواقعي ثم المتخيَّل، سرد بين حياة خاصة ومتخيلة، حكاية، تتعلق بكم، وأنتم تتأرجحون بين الواقعي والمتخيَّل. أحد المقاطع التي لامستني أكثر حينما تحدثتم عن فترة الحمل والأمومة. لحظة تشغل مكانا محوريا في أعمالكم الإكلينيكية ثم دفعتم الاختصاصيين والمحللين النفسانيين كي يطوروا تحديدا مفهوم الارتكاز الأمومي.  مع ذلك بقيتم شيئا ما متحفظين كفاية بخصوص تجربتكم مع الحمل(1). هل حدث ذلك بعد عودتكم من الصين؟سؤال جد متطفل؟وكيف عاش فيليب تلك الحقبة المميزة جدا؟

: (1) “إذن حتى لو كانت الأم تجهل الجنين الذي ستمنحه الحياة، فإن جسدها يعلم ذلك سلفا. يشعر بصدمة:  التطعيم المفترض أن ينمو بكِ، يبدأ في إضعافكِ (…).   لم تعودي واحدة،  بل أصبحتِ ثنائيا. حيوان،  فيزياء،  كيمياء: يكشف الآخر الذي تطويه على أنكِ آخر. غير بشرية، قاصرة، لكنكِ متسيِّدة. تواصل عيناكِ متابعة أطوار الأوبرا وأنتِ تهتزين معها على نحو مضطرب، مهووسة(تهيئ حفاظات الطفل، لباسه، عربته، السرير الصغير، إضافة إلى تدابير المهنة المعتادة)، لكنها لاتنظر وجهة أمَامِهما. تتقوس نظرتكِ نحو الداخل، لاترى شيئا، وتصير سمعا ولمسا، تغمركِ فقاعة من اللذة والجزع ولادراية بخصوص كيفية نهاية هذه المغامرة !يمثل الحمل الصيغة المعتاد للافتتان. أيضا، بالنسبة لأولغا “( رواية الساموراي،  ص410).  

* جوليا كريستيفا: نعم ” يمثل الحَمْل الصيغة المعتادة للافتتان”، مثلما كتبتُ.  هل كان تطورا لعلاقة غرامية، أو تعميقا لتحليلي النفسي السريري، أو حقيقة تستلهم تلك الأمهات الصينيات المتوهجات في ظل قوقعة الايديولوجية الشيوعية؟ كنت في سن الثلاثين،  بالتالي صارت رغبة إنجاب طفل مسألة أساسية،  يتعذر كبحها بالنسبة لتلك”الطفلة الصغيرة”التي سكنتني وفضلت الكتب على الدمى، ثم هاهي منشغلة حاليا بعربة الأطفال…بعد حالتي إجهاض قاسيتين اتخذت قرارهما بالاتفاق مع فيليب، لأننا لم نكن متيقنين من رغبتنا في الإنجاب،  ثم  حدثت أخيرا لحظة الاتفاق.

*صامويل دوك:كيف جاءت ردّة فعل فيليب؟

*جوليا كريستيفا:لم يظهر تحمسا و لاتحفظا، كما الشأن بالنسبة لزواجنا. لأن سوليرز يقارب الوجود بجدية،  تصور دأب منتقدوه بسببه على مؤاخذته. إذن تبادلنا أفكارا مؤثرة، أحاديث مختزلة، متحفظة وساخرة، في انتظار الحدث، نمرح مع الأطفال والشبان الذين يلعبون حولنا على رمال شاطئ لاكونش، بالقرب من منارة الحيتان. لقد حددتم بكيفية دقيقة الفقرة المعبرة عن الحالة ضمن صفحات رواية الساموراي. فقد حاولتُ ملامسة هذه الشخصية الفالتة مني، أو ”كريستيفا” أخرى. ترجمة حساسية متلاشية،  فضلا عن كونها ملغِزة مثل اللاوعي الفرويدي، عند حدود الإحساس و البيولوجية. إعطاء أجساد وكلمات إلى هذه “الجوانب الغامضة” لدى الكائن الحي، غبطة طبيعية يتم رغم ذلك التفكير فيها، وقابلة كي تصير معقولة. اعتقدتُ دائما بالكشف عن هذا السر في النظرات الحالمة، وقد استدارت  نحو الداخل، تماثيل العذراء لفترة النهضة الايطالية. تزودتُ بكاميرا ”سوبر8″، وشرعتُ في مسح الأهوار الفنية المالحة،  أوثق بالصور للملح، الماء،  الجياد،  ثم لحظات غروب الشمس. هكذا وضبتُ فيلما قصيرا تناوبا بين هذا الانغماس الحالم وكذا”ومضات”مختارة تعود إلى لوحات ساندرو دي فيليبيني”العذارى والطفل”، الأول الذي غيَّر شكل الأيقونات البيزنطية إلى الفن التشكيلي الواقعي. ينبغي لهذه الصورة أن تمكث في زاوية ما  ضمن معطيات أرشيفي.   

*صامويل دوك: لكنكم عملتم على تحليل هذه الحالة الخاصة جدا بين صفحات دراساتكم الإكلينيكية.   

*جوليا كريستيفا: صحيح أواصل هذا السعي وفق أوبرا أخرى، أكثر صفاء، تلك المتعلق بالتحليل النفسي. أتخلص،  خلال مراحل عديدة،  من مفاهيم معتادة،  في إطار هاجس تحويل مفهوم”الغريزة الأمومية”(توضيح سريع، ليست فرويدية، لكنها تنتمي إلى المجال الواسع للتعميم”السيكولوجي”). البيولوجيا والدلالة، العدوان والدعم:أقترح التفكير في عنف الحقارة، لكن أيضا زخم الاعتماد، كرافدي لتجربة الأمومة. سنعود بالتأكيد لهذا الجنون المؤسِّس، وتبعثره المكابِد، تسندهما الوظيفة الأبوية، وكذا انتقال اللغة. بالنسبة لتجربة معينة، تعتبر الأمومة صيغة واحدة !

* صامويل دوك: وأنتم، ما موقعكم ضمن مختلف ذلك؟

*جوليا كريستيفا: مثلما سمعتم. عزيزي صامويل، تعكس ذاتي فيلقا ! هي شيطانية،  وفق تجليات عدة. لكني أحدثكم دائما عن “الأنا”. بمعنى عندما أتلفظ بمفهوم الاعتماد. فقد اختبرت قوة ذلك منذ الحمْل والوضع. تمت الولادة في ظروف جيدة، بمعنى مؤلمة، مع تخدير موضعي، ثم طفل جميل، التقطت صور، في غمرة فرحي وفيليب. لم يتمكن والداي من المجيء بسهولة إلى فرنسا، أما والدا فيليب فقد أفسحا المجال للثنائي الشاب كي يحتفل بالمولود الجديد، اختار فيليب بلا تردد اسم دافيد وقد أعجبني. دافيد المبتهج، اسم عائلته لأبيه، ابن فيليب المبتهج يضيف سوليرز،  وكذا جوليا كريستيفا الزوجة السعيدة. على الفور، وعفويا دون تكلف،  أبدى الأب اهتماما،  تؤطِّره رِقّة استثنائية. لازلت أستحضر الصورة كما الآن، محتضنا دافيد،  يتقمَّطه ويشدو له…. طبعا ليس أغنية”على ضوء القمر”، بل موزارت، من خلال القطعة الموسيقية(يتنفس قلبي ليلا…)وكذا باخ(تمجيد الثالوث المقدس…)فيما بعد سجلناها على شريط، أظهر دافيد وهو طفل، شغفا بالاستماع إليه، يستظهرها عن ظهر قلب، ولازال ينشدها أحيانا صحبة أبيه:”أبي الذي أعشق”، يردد ذلك مع تطور سنه،  بينما يبقي إليّ التمرد والشجارات وكذا تفاصيل اليومي. ستقولون، عزيزي صامويل، بأنها عقدة أوديب لاتشبه غيرها !.  

*صامويل دوك:أنتم من صرحتم بذلك !   

*جوليا كريستيفا:نفعل ذلك نحن الثلاثة  والابتسامة لاتفارقنا، وضع نادر بالأحرى،  من خلال تلك الجوانب التراجيدية ل”العُقَد” التي استدل عليها الدكتور فرويد. الضحك بمثابة إمضاء من طرفنا نحن الثلاثة، رغم تيار التجارب التي اعترضت سبيلنا؛ إنه يؤشر على تقاسم و تبادل،  الأحزان،  التبريرات أو الانتقادات،  ثم تخفيف وطأة ذلك وفق تواطؤ غير مخادعٍ، ولا أيضا صعوبات أو وضعيات.  هكذا، استند الثلاثي السعيد على لازمة مفادها: “يتصف الرجال بالهشاشة في حين تشتغل النساء”. هكذا حاولت بدوري الظهور ضعيفة، أحيانا إذا بقي لي الوقت، لكن غالبا لاينجح الأمر.  عندما كان دافيد صغيرا، اصطحبه فيليب لزيارة الكنائس الباريسية،  ويستمعان إلى آلة الأرغن،  وكذا أشرطة وأسطوانات موزارت،  باخ،  و فيفالدي…بدوري انتدبتني متاحف:اللوفر،  فيرساي،  قصر فولوفيكومت،  وكذا قصور لالوار…عرف”برنامجي”نجاحا، لكن دافيد وجد أكثر تسلية الاستمرار في الذهاب صحبة أبيه. حين عودتهما، أضحى مألوفا تكرار اللازمة الغنائية أب/ابن، والتي لم تتوقف غاية الآن، مثلما ستلاحظون ذلك في روايتي”ساعة التوقيت المغتبطة”:”إننا صبايا غاسكونية/مقاتلين ومخادعين بلا حياء/ من كاربون كاستيلجالو/هكذا، نحن صبايا غاسكونية”.   

*صامويل دوك: لكن حدثت مظاهر انشطار فُصامي فيما يتعلق بنمو ابنكم دافيد، دون تجليات واضحة، ثم أضحت الأمور أكثر تعقيد؟ 

*جوليا كريستيفا: خلال مرحلة الوضع، بادرنا إلى تشخيص مشاكل تتعلق بالوظائف الحركية. رغم فحوصات عميقة، جاءت النتائج سلبية، بالتالي لم نخضع لوصفات علاجية. فيما بعد، بدأت أعراض تفاقم حالات انشطار فُصامي وعلى مستوى التكامل الحركي/ النفسي.  تابع دافيد مسارا دراسيا عاديا خلال مرحلة الحضانة، والمدرسة الابتدائية العمومية، ثم بعد ذلك المدارس المتخصصة. بعد علاجات مختلفة، ظل التشخيص المرضي غير دقيق:إحدى هذه الأمراض العصبية،  المسماة”يتيمة”،  تسببت له في غيبوبة مرات عدة.  الحالة مستقرة آنيا، لكن مجاورة الموت، وسيف ديمقليس المسلط فوق رؤوسنا، تجعلنا نعيش حياة أخرى، ثمينة للغاية، وأكثر حساسية.  معركة البقاء البطولية(مع التسطير على الكلمة)التي قادها دافيد بحيوية شديدة لم تؤدي فقط إلى لحم أواصر الرابطة بيننا، بل لقد غَيَّر معنى الوجود. يعني هذا البقاء بأن دافيد لم يتحمل فقط مجازفات مميتة، لكنه راكم من خلال ذلك طاقة زائدة،  وقتالية،  ثم ألفة قوية نحو آلام الآخرين وكذا تضامن عفوي يشحن والديه،  وأصدقائه، ومحيطه كي يتجاوزوا بالمعنى الحرفي للكلمة، نحو خارج الذات: الحياة.  لاأقف عند حدود تجميل الصعوبات، بل أقوم – صحبة المختصين المحيطين بنا- بالضروري حتى يقاوم بكيفية جيدة لحظات الألم تلك، والحزن والتساؤل. أنا لاأنتمي إلى فصيلة آباء هؤلاء الأطفال الذين يعانون إعاقة، ويرددون ادعاء مفاده بأنهم يعيشون البهجة و الرضى، نتيجة إيمانهم الكبير. لقد وضعني دافيد ضمن سياق زمن أفقي، وحاضر مستمر، و”آنٍ”يعمل البقاء داخله على إبراز باقي ممكنات الوجود مثل حالة وهمية ثانوية.  

* صامويل دوك: ولد فيليب وترعرع خلال لحظة كنتم تؤسسون إبانها مرتكزات مشروعكم، مع كتابات”الشمس السوداء”، “قوى الرعب”، ”حكايات الحب”، ثم الأجزاء الثلاثة حول العبقرية النسائية، وكذا مسار عالمي استثنائي. كيف استطعتم التوفيق بين تربية ابنكم دافيد، ولحظات التقاسم معه، العزيزة جدا على فؤادكم، ثم إبداعاتكم الأدبية وإنتاجكم الفكري؟

*جوليا كريستيفا:بفضل دعم معنوي من فيليب المنتبه دائما، وصاحب مودة لاتنضب، وكذا إخلاص والدة فيليب، التي أكدت لي منذ البداية،  مايلي:”لن نغير هذا في أي شيء حياتكم المهنية. فأنا إلى جانبكم”. “آه ياكنزي الثمين”، هكذا خاطبتْ دافيد ثم سافرنا نحو نيويورك وتحديدا جامعة كولومبيا باعتباري أستاذة زائرة كي ألقي ضمن أنشطة قسم اللغة الفرنسية محاضرات دورة الخريف. تقاسمتْ طيلة شهر، صحبة فتاة استعنا بخدماتها، تناول مرطبات، وزيارة كاتدرائية القديس باتريك في الشارع الخامس، وفيليب يرقص بدافيد بين ذراعيه، في سطح الطابق الأخير من عمارة شقتنا، المتواجدة في الشارع الشرقي، تحيط بها ناطحات السحاب. أيضا، بفضل قوة فكر والداي حين استضافتهما لنا في مدينة صوفيا خلال العطل. هناك يمارس دافيد التزحلق صحبة جدِّه في منحدرات جبال فيتوشا،  المغطاة بالثلج،  الكتلة الجبلية القريبة من العاصمة؛ كما سبِحَا معا في المياه الدافئة لمنتجع بحري في جنوب البلاد؛ثم، حين قدومهما إلى باريس، أحبَّ والداي حلبات التزحلق بحدائق لوكسمبورغ، واشتريا كمية معينة من بالونات يقتنيها العابرون من باعة متجولين.  

* صامويل دوك: لاشيء سوى ذكريات جميلة ولحظات عزيزة ! تستعيدونها بامتياز بين طيات المجهودات اليومية بغية مواجهة هذا التطور الصعب، التصدي للأمراض، الأزمات، ثم الدأب على طمأنة دافيد خلال فترات استشفائه.       

*جوليا كريستيفا:التزم أعضاء الفرق الطبية والتعليمية بمصاحبة شخصية، حسب الطلب، وقد ساعدونا على تهيئ وتنظيم ماستقوم به الجمهورية فيما بعد على نحو أفضل للتفاعل حقا مع شخصيات في وضعية إعاقة.  في هذا السياق، لا أشعر بأني أسديت مجهودات كبيرة. ربما لأن المجهود يستدعي مجهودا ثانيا وبأن الحب يحفز طاقات غير متوقعة؟بالتالي،  حتى  مع حاجتي إلى تسع ساعات من النوم، أكون مضطرة للاستيقاظ ليلا، قصد القيام ببعض المهام، ثم النوم ثانية. عندما أستعد لإرضاع دافيد،  أتزيَّن وأرتدي بذلة نوم رائعة حين النظر إليها أو لمسها،  كي أجعله سعيدا  !لذلك لاأفهم امتعاض بعض الأمهات الشابات وقد أنهكن من طرف أطفالهن الرضع. لذلك، لستُ منهن. وحدها الشجاعة تكبح الشكوى، ثم حينما لايتعلق الأمر بالخجل من طفل لكَ يكابد الإعاقة، بل على العكس ضرورة الاضطلاع بالمسؤولية النضالية ضد”الجسم الطبي”أو الدولة. أعيش حياتي كأمٍّ،  بجاذبية، وبالتأكيد لصالح التحليل النفسي، الذي استثمر في عملي.  تستلهم قراءاتي،  الكتابة،  بل مرضاي أنفسهم بكيفية جديدة ماأعيشه مع دافيد. لقد تبيَّنت معه عوالم كانت بالنسبة إلي معتمة أو موصدة قبل ولادته. خلال أول حالة إغماء له في مستشفى سالبيتريير، أسهر، جالسة بجانب فراشه، أحدثه، وأسمعه الموسيقى التي يحبها. في غضون ذلك،  وبين فينة وأخرى،  أعود لقراءة حنا أرنت التي أرست مستويات اختلاف بين اليرقانة،  الحياة الفيزيولوجية،  ثم البيولوجية، تلك الحياة التي تروى،  تتقاسم، إنها  مثل سيرة ذاتية، الحياة وفق معنى.  أحسستُ، أدركتُ، خلال تلك اللحظات بحضور مشترك،  بأن دافيد نفسه يستعيد قواه من أجل الاهتداء إلى الاثنين:  اليرقانة والبيولوجيا.  ثم وجب من جهتي،  توفير العناية  اللازمة حتى يصل إلى المبتغى، على طريقته الخاصة. أبدا لم تظهر لي قبل ذلك”معجزة الحياة”على قدر من البساطة والبداهة، وقد تجردتْ من كل ورع، سوى بين زوايا تلك الغرفة في المستشفى وأنا أراقب نَفَس ابني، ويغمرني نَفَس ثورة حنا أرنت ضد البربرية.  الحياة(البيولوجية)سعيدة بالضرورة حينما تعيد باستمرار البحث عن المعنى، الذي يشكل مأثما للتعاسة.  ضمن سياق نفس الفكر،  تصبح تلك الحياة الأكثر هشاشة وبساطة، سعادة قابلة للتشارك. بفضل دافيد، لم يعد الذي بصدد قوله لكم، مجرد بناء فلسفيا. أعتقد بأني استوعبتُ مفهوم” كوربوس ميستيكوم”(corpus mysticum) لدى كانط، الوحدة بين الحرية وأقصى مستوى التباين، والذي يفتقد بفظاظة للمغزى الدنيوي.  تجلت سلفا تجربة الحياة باعتبارها فتحا جديدا منذ أولى أعمالي السابقة وتحديدا الجزء الأول من العبقرية النسائية لكنه لم يتبلور بوضوح سوى مع تجارب المستشفى.  

*صامويل دوك:يبدو لي حينما تتحدثون عن دافيد، بأنكم تتحاوران معا في إطار حيوية متبادلة.  

*جوليا كريستيفا: يدرك دافيد وضعيته بكيفية كبيرة، ولايبدي تذمرا قط.  وإن لزمت الإشارة  سريعا،  إلى كونه نادرا مايصادف صعوبة في العثور على طبيعة الكلمات المناسبة من أجل وصف غيبوبته وكذا حدود أخرى. يصف معاناته بأشعار موجزة و مقتضبة.  يتمتع بموهبة سماعية مطلقة،  يعشق موزارت و فيفالدي،  مستلهما طبيعة هذا التذوق من أبيه.  إنه عالمهما الخاص بهما، الذي استأثر بإعجابي. عطوفان جدا، في غاية التشدد بخصوص صداقتهما، خصلتان تجعلكَ فوضويا سياسيا. يبدي دافيد عنادا نحو والديه بقوة السخرية. هكذا تظل بعض تعابير طفولته غير قابلة للنسيان. مثلا “أبي مثل الله، يوجد لكننا لانراه كثيرا”و يفضل دافيد:”السيدة المرحة”بدل جوليا كريستيفا. ثم يثير انتباهي:”حاولي أن تختصري”، ”إنكَ تسهبين في الكلام !”.

*صامويل دوك: استحضرتم في الفيلم الذي أنجز عنكم،  لحظة معينة عن ”العناية”. بالتأكيد،  مايتعلق بدافيد وفيليب،  لكن أيضا بخصوص مرضاكم، وكذا قرائكم.  يشرح فيليب بدعابة بأنكم متأهبون نحو الآخرين، و”تفعلون ذلك بطريقة جيدة”، ثم نحدس تفاوتا طفيفا بين مواقفكم الشخصية. هل كان إلى جانبكم إبان تربية دافيد؟ وهل أمكنكم الاعتماد على دافيد؟وهل أمدكم حضوره بسند صلب؟

*جوليا كريستيفا:سند راسخ.  

*صامويل دوك:لكن أتمناه، ملموسا!

*جوليا كريستيفا:روحيا،  و ليس وهميا.  بدت غالبا طريقته في مساعدة دافيد على النمو، ملائمة أكثر قياسا لطريقتي:عدم طرق الأبواب المغلقة، والولوج فقط عبر الأبواب المفتوحة:الموسيقى،  الفنون،  المتعة،  الحلم،  التمرد بالكوميديا. بينما يخصص لي ماتبقى،  أي التدبير،  بمعنى كل شيء.   

*صامويل دوك: ليس هيِّنا.   

*جوليا كريستيفا: ليس سهلا، لكنه غير مستحيل.  تقول إحدى شذرات دافيد من شعر الهايكو حيث موهبته واضحة بهذا الخصوص:”أبي عزب سعيد”. هذا يناسبني تماما. يمتلك سلوك فيليب، في نهاية المطاف، الجمالي أو الميتافيزيقي، الذي قد يبدو إنكارا للواقع، الفعالية الواقعية للاهتمام. هل بفضل اختباره إلى جانب دافيد،  لرحلة الهواجس و التراجيديا، اندهشت حين إفراطي في حيويتي الذاتية؟ غاية امتلاكي شجاعة من قبيل التي مكنتني  شهر ماي 1968 كي أواجه لوسيان غولدمان، المشرف على أطروحتي، تذكرون الواقعة، ثم يهاجمني على نحو أكبر أيضا:القلق حسب هيدغر !فقد خصص الفيلسوف في كتابه الكينونة والزمان،  موقعا مركزيا بخصوص ألوهية لاتنية متأخرة:كورا (القلق، بالألمانية)،  القلق، الذي يعكس  الانشغال القلق الإغريقي-اللاتيني. دون أي برغماتية، يصبح القلق حركة خارج الذات، وفي نفس الوقت اهتماما ينصب على الذات نفسها. أعترض على هذه الرؤية الهيدغيرية بخصوص الدازين، بالتركيز على القصور، الذي يراعي بحسبي، غيرية الآخر، وكذا غياب مبدأ المتعة ثم  اندفاعه مع التلذذ. مجرد تهور شبابي، وعناد سجالي !منذئذ، تموقعت جيدا كي أعرف بأن القلق بالنسبة لدافيد يكمن في قلقه الأولي الذي يجعلني باستمرار يقظة نحوه، ومع نفسي،  ثم  بصدد الآخرين. لكن، يلزم الانتباه !فالقلق لايجعلكَ بالضرورة مضطربا، أو قاتما؛بل ببساطة يعضد الاتصال الأكثر زخما مع غَرَابة القريب وكذا الذات؛يمثل القلق أولى بدايات الاقتراب. نادرا،  مايوجب  الطارئ البيداغوجي،  في عالم التمركز الذاتي للاستهلاك وكذا الافتراض الرقمي،  إدخال القلق، مع القدرة على العلاج، مثل قيم أولى، قبل كل تعليم لائكي للأخلاق. يعتبر فيليب والدا عصريا رائعا،  يصلح ويكافئ، وينقل إلى ابنه هذا التفتح لحركة خارج الذات ثم في الذات، نسميها المعنى الجوهري للاعتراف والصداقة.  يصف جيمس جويس،  في روايته أوليس،  الأبوة ك”خيال شرعي”، أو”حالة صوفية”للتحول. وقد اشتغل سوليرز على هذه الحالة، مع فن حقيقي للرفق المتأتي بفضل الموسيقى، اللغة الفرنسية والضحك.  

* صامويل دوك: أليست تجربتكم بخصوص العناية متوطدة أكثر بين طيات اليومي، لكنها أكثر سياسية منها “روحية”؟

*جوليا كريستيفا:ننسى غالبا،  بأن الأنوار الفرنسية،  جعلت من العناية قضية مشروع سياسي. من أجل الأفضل والأسوأ. من أجل الأفضل، لأن الموسوعيين، روسو ولاسيما ديدرو، ثم فولتير أيضا، في كتاباتهم حول الصمِّ، والمكفوفين، أو ذوي الإعاقة الحركية، لكنهم يتوجهون بالخطاب”إلى الفئات الأخرى”، كي تتوقف عن اعتبار الأشخاص التي تعاني وضعيات إعاقة مجرد موضوعات للعناية(مثلما تصنع المنظومات الإحسانية، في أفضل الحالات)، قصد الارتقاء بها نحو أفق مستوى الموضوع السياسي. حسب هذا المنطق الجديد ”المستنير”، الذي يذهب إلى الإعلان عن حقوق الإنسان، فهؤلاء الأشخاص أحرارا يتساوون أمام القانون، ويدين لهم المجتمع بالتعويض عن جوانب عجزهم ثم احتضانهم ضمن سياق المساواة الأخوية. ضمن نفس السياق،  فالمسمى مجتمعا، هذا ”الحيوان الضخم”الذي يتغذى على عقيدة مفادها لامجال للولوج دون عمل، سرعان مايهمل مسألة العناية ضمن سياق  الارتباط/الإنتاج/الإدماج. نتوخى جعل صاحب الإعاقة منتجا مثمرا، غير أننا نهمل قيمة العلاقة الشخصية التي يحتاج إليها حتى ينمي إبداعيته، ويلزمها أن تتصدر سلم ”قيمنا”،  وبالتأكيد، تنتزع الإنتاجية. تشجع العناية على الإبداع الفردي،  بالنسبة لمجتمع متكامل. على العكس، يؤدي الدمج بأي ثمن قياسا لمجتمع المنتجين/ المستهلكين، نحو إخضاع التميز إلى معيارية إجبارية. في إطار الورش الجمهوري حول الإعاقة، بمبادرة من الرئيس جاك شيراك(2002- 2005)، نظمنا داخل مقر اليونسكو رفقة صديقي شارل غاردو، أستاذ علوم التربية في جامعة ليون2، الحالات العامة لوضعية الإعاقة. كما سعينا مع المجلس الوطني للإعاقة، إلى إثارة الانتباه بخصوص تحول في النظرة، المرتكزة حول العناية الشخصية، وكذا الإقرار بالخصوصية ثم هاجس تطورها.  تصوروا، تمجيدا حقيقيا لحقوق الإنسان، عبر هذا الحق في الخصوصية ! إذا أمكن تفعيل ذلك بالنسبة لذوي الإعاقة، ألا يمكننا حينئذ تعميم نفس الأمر على المجتمع قاطبة !لقد حلمت حنا أرنت بعَقْد سياسي يقوم على التقييم الجمالي،  والذوق، وليس”الحُكْم”.  فكل واحد يقوِّم حفلا موسيقيا حسب ذوقه، لكن جمهور الحفل الموسيقي لا يصيغ أكثر من توافق يحوي إطاره،  تعدد الأذواق وتتواصل ثم تتبارى.  اليوم، العالم السياسي بعيد جدا عن هذه الطوباوية. لكن ليس ممنوعا الحلم بأن العناية بالأشخاص المعاقين، وكذا خصوصياتنا كيفما بدت، بوسعها مساعدتنا كي نعيش بكيفية أخرى، على نحو أفضل.  

*صامويل دوك: ومن يعتني بكم؟

*جوليا كريستيفا:المرضى.  أساهم في سرد بؤسهم، فيردد صدى بؤسي. أفسر لهم، ثم أستنير جراء ذلك. أخلِّصهم، فيشعرني السياق بالسكينة. نفس الشأن يحدث مع فيليب ودافيد. تقريبا بذات الكيفية. إنهما أفضل معالجيْن لي، الأصعب لأنهما المحبوبين جدا لنفسي.    

*صامويل دوك: عندما أتابع مختلف منجزكم، سواء ماتعلق بالثقافة، أو تلك الجوانب المتصلة بمعارككم، وأقاربكم، أتساءل إن كان التعب يتسرب إليكم في لحظة من اللحظات.     

*جوليا كريستيفا:بالتأكيد، لكن ليس التعب تحديدا. فقط أحس نتيجة تقدم سنوات العمر، بضغط على مستوى عمودي الفقري، مما جعل حركتي بطيئة(إنها تعويذتي) ! لذلك، أقوم ببعض التمارين على عارضة مثبتة فوق باب مكتبي، وفوق الكرة السويسرية ذات الاستعمالات المتعددة، قليلا من تمارين البيلاتس، إنها أدويتي المنبهة. بعد وجبة العشاء، أو حينما أستيقظ ليلا، أهتم بفحص محتويات بريدي الاليكتروني، فأجيب على رسائل مثلما أبادر إلى تدبيج أخرى. قبل سنوات، كان بوسعي الاشتغال غاية الصباح، لكن في الوقت الحالي أسترخي بأن أتابع قليلا البرامج التلفيزيونية الأمريكية، التي تمثل منوِّما جيدا. بعد الظُّهر، أتسلى بالاستماع إلى الموسيقى بين حصتي جلستين للعلاج النفسي. أو أكتب: مادامت الكتابة تجعل من الطاقة حركة، بحيث تنظمها وتهدئها،  ولا أشعر معها بالتعب.  

*صامويل دوك: ألاحظ مع عملكم، الأهمية التي يحظى بها ابنكم دافيد بالنسبة لحياتكم، من خلال إشارات تلميحية، إحالات حاذقة وضمنية، أحيانا مجازية وغير مباشرة لايدركها الجمهور بالتأكيد. ولم تتحدثوا بكيفية واضحة عن طبيعة علاقكتم بدافيد، سوى بين صفحات روايتكم الأخيرة ساعة الحائط المغتبطة. نحس أنه يمثل صديقا حميما بالنسبة إليكم، سندا، يتقاسم معكم تأملاتكم ومغامراتكم الأدبية.  

* جوليا كريستيفا:صحيح، لكن دافيد شخصية تواترت ضمن فقرات أغلب نصوصي الروائية، ثم صار مركزيا في رواية ساعة الحائط المغتبطة، بحيث نتحقق بسهولة من هويته مع شخصية” ستان”(Stan)، عاشق الأتمتة و الإنسان الآلي، ثم فيرساي والكواكب.  مثلما تعكسه شخصية ”أليكس” في رواية الساموراي، وشخصية”جيري” بالنسبة لروايتي ممتلكات وكذا موت في بيزنطة، ثم ”بول” في تيريز عشقي؛ فالساردة التي يتداخل حضورها مع القديسة تتحدث عنه كالتالي:”أعرف شخصا يؤلف قصائد رغم أنه ليس شاعرا، ثم روايات بمثابة قصائد، مع شيء إضافي، حركات زائدة”. صحيح، لم يدرك نقاد الأدب ذلك. لأنهم لايقرأون غالبا سوى الملخص الوارد على ظهر الغلاف !في المقابل، يتقاسم معي قراء مهتمون وقارئات تجاربهم فيما يتعلق بالاضطرابات الحركية والنفسية، ثم علاقات متوترة بين الأمهات وكذا مهنيي قطاع الصحة، أو اكتشافهم للمكابدة أو ممتلكات أمومية، قليلا ماتتناول روائيا. وانتباههم المتزايد،  بفضل نصوص رواياتي، إلى الشخصيات الهشة المحيطة بهم. فيما يتعلق بدافيد،  ولنتخلى عن الخيال،  تكشف أذنه المثالية نبرتي الأجنبية،  بالتالي لاتخطئني دعابته قط.  هكذا يخاطبني مبتسما:”مثير للانتباه ذلك،  لكنه لايفي بالمطلوب”، ويصحح أخطائي في الفرنسية،  أمر لايجرؤ أبوه على فعله معي. حينما أسافر إلى الخارج(باستمرار !)، يمازحني بقوله:”أبعث معك سلامي إلى باراك أوباما،  أتمنى أن تكون معكما أنجيلا ميركيل،  عفوا،  معنا”. يعتبرني صحبة أبيه، مدمنة على الأخبار السياسية:”ليس فقط منتج الحليب الفرنسي لايربح شيئا، بل يخسر خمسة وثلاثين أورو بالنسبة لألف ليتر من الحليب…هل تعلمين بأن الأجر الشهري في روسيا يقارب مائة وعشرين أورو !” أشعر بالانزعاج. “سترشد السيدة المبتهجة المالية”، يسخر دافيد ثم يغلق القناة التلفزية(قناة ب.  إف.  إم)، “القناة الفرنسية الأخيرة”.  لو تقمصتُ حياله فعلا شخصية المعالج النفساني، الموقف الذي ينعدم لدي حينئذ،  سيجدر بي الصمود أكثر أمام أشكال الاعتراض، التمرد، التقلبات،   السخرية… أنا لست قط تلك الأم البلهاء التي تقبل كل شيء من أجل الإرضاء. بل أرسم  حدودا لتحملي، وأعرف كيفية التصدي !أعرف فعل ذلك مع الطفل والمراهق. حاليا، تتم المضايقات،  والسخرية بين الكبار.   

*صامويل دوك: قال فرويد للأمهات:”مهما حاولتن القيام به، فإنكن تثرن الغضب”!هكذا استبق دون إدراك تلك الأم”الصالحة بما يكفي”التي تصورها دونالد وينيكات. فلا يمكنكن التحلي”مطلقا” بخاصية الكمال،  وهذا أفضل !لنعد إلى ورش الاهتمام بحياة ذوي الإعاقة، الذي أعطى انطلاقته الرئيس شيراك. بحيث كتبتم رسالة مفتوحة إلى رئيس الجمهورية بخصوص المواطنين الذين يعيشون وضعية إعاقة، مخصصة للمعاقين ولغيرهم(2003)، والتي تحافظ دائما بعد مرور ثلاثة عشر سنة، على راهنية قوية وتظل مصدرا يلهم جميع من يصاحب أشخاصا يعانون حالات إعاقة. استضفتم سنة 2005، في مقر اليونسكو الصندوق الاجتماعي اليهودي الموحد، والمسجد الكبير، ثم جان فانيي، مؤسس الطائفة الكاثوليكية لمنظمة لارش.   

* جوليا كريستيفا:وكذلك نجوم الإعلام: باتريك بوافر دارفور، كلير شازال، سيرج مواتي والعديد من الشخصيات الأخرى…، حضرت سيمون فاي خلال الاختتام، ومثَّل جون لوي بورلو الرئيس شيراك. إذن كيف ”نغير نظرتنا” حول الشخصية التي تعاني إعاقة، إذا لم نسترع انتباه السلطة الإعلامية إلى جانب السياسيين؟أردنا،  ونريد دائما:”إثارة الانتباه، الإخبار، التكوين” في مجالات عدة:التمدرس، الإدماج المهني، سهولة الولوج، وسائل الترفيه، الأسرة، الحياة العاطفية والجنسية.  لقد اشتغلت كثيرا على هذا الجانب صحبة جان فانيي،  منظمة لارش، والصحفية كلاير شازال التي لعبت دور عرَّابة. لقد أثبت قانون سنة 2005حول التساوي في الفرص تقدما دالا على جميع المستويات. لكني، أدركت منذ البداية، بأن الأكثر صعوبة يتمثل في تنظيم الحياة الغرامية لشخصيات تعاني الإعاقة. غالبا، ينحصر الآباء القلقين ضمن نطاق خوفهم و لايأبهون بالحاجيات  الوجدانية والجنسية لأطفالهم،  ثم فترة مراهقتهم وخلال شبابهم. فالدولة غير منخرطة كفاية بخصوص خلق فضاءات حياتية لأزواج أو جماعات من البالغين ذات أعداد صغيرة، تحترم درجة استقلالية كل واحد من هؤلاء. يعبر الآباء عن خشيتهم، كيف سيصنع هؤلاء الأبناء بعد رحيلنا؟إنه السؤال الموجع المفتقد لجواب، يتجاوز مدى صعوبات الاندماج المدرسي والمهني، ولم تتم غاية الآن معالجته.

*صامويل دوك:صارت تقريبا المعركة من أجل ابنكم ذات مدى أكبر.  

*جوليا كريستيفا: لقد أضعفت الأمراض العصبية دافيد،  وابتداء  من سنوات مرحلة الثانوية، بدأ يتابع تداريب وتكوينات عدة، خاصة وعمومية، مكنته من إبراز إبداعيته على مستوى الموسيقى، الكتابة … صادفنا داخل مجموعة مدارس،  ثم المؤسسة الطبية-الاجتماعية(ESAT) وكذلك جريدة ” Le papotin”، مختلف أنواع أصحاب الاحتياجات الخاصة:إعاقة حركية،  حسية،  نفسية،  ذهنية؛وكذا التوحد، الذي تكلم عنه الكثيرون، ثم وضعيات أكثر تعقيدا، حيث تتقاطع مجمل المشاكل. مع مقاربتي النفسية التي ساعدتني كثيرا، أدركت انتفاء شيء اسمه إعاقة، بل ولاوجود للمعاقين، بل شخصيات مختلفة تماما، ذات خصوصية، مع عجز خاص،  تبعا لكل حالة.  يبدي دافيد نفسه حساسية مفرطة، لأن كل واحد من رفاقه يعيش منفردا، ويحاول مساعدتهم حين معرفته بذلك، مثلما يفعلون معه.  بل استعبد صحبة أصدقائه مفهوم” الإعاقة”، والذي يعني أصله الاشتقاقي، وكذا بخصوص دلالته العامة،  ”العقبة”،  ثم ”الحرمان”، بحيث يبدو لهم في غاية الشمولية، مادام يلغي أشكال الضعف الدقيقة. عندما يكونوا خارج فريقهم،  في مواجهة المجتمع، يفضلون تعريف ذواتهم باعتبارهم مختلفين. طبعا، هذه الحقيقة الجديدة التي أعيشها مع دافيد أصبحت بالضرورة، وطبيعيا،  حقيقتي فيما يتعلق بالفكر والالتزام، لم أعد مناضلة،  فقد انسحبت من المجلس الوطني للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة عندما تجلى لي تعثره؛ حينما تراجع عمل السياسيين بعد ذهاب الرئيس شيراك. لكني واصلت حضوري، حيال ماهو ”قاعدي” وكذلك عبر كتاباتي. إن مصدر انتباهي إلى المسألة السياسية و الإنسانية خلال القرن الواحد والعشرين يتأتى سواء من تأثري بوضعية الأشخاص المعاقين والقيم التي يلزمونكَ بإعادة التفكير فيها ثانية، وكذا إذكاء الوعي بخصوص هشاشة الإنسانية نفسها أمام تصاعد الأصوليات الدينية. إضافة إلى ذلك، وفي إطار فهم ومرافقة المعاق، ظل التحليل النفسي هامشيا، أو أخرق. لذلك أحاول إسماع صوت يستلهم التحليل النفسي ومعه حساسيتي، ضمن سياق هذه البوتقة الدقيقة والمعقدة التي يستدرجنا نحوها المعاق، وقد أدار لها مجتمع الانجاز ظهره. كي أوضح بأن الإعاقة تجربة وجودية، بل أبعد من ذلك، تسلط الضوء على التعقيد البشري.  

*صامول دوك: فعلا، منذ الرسالة إلى رئيس الجمهورية، وفي إطار مداخلاتكم، وكذا تأملكم حول المعاق بدا بأنه منظور تؤسسه مرجعية فردية و حس أخلاقي، مما شَكَّل مقاربة غير مألوفة بالنسبة لهذا الموضوع.   

*صامويل دوك:يجابه المعاق الشخص الذي يؤذيه، وكذا أقربائه، بإقصاء مختلف تماما. فمنذ القرن الثامن عشرة ومع الإعلان عن حقوق الإنسان،  اتجه السعي – رغم الكثير من الإخفاقات- نحو وضع نهاية لمختلف التمايزات المستندة على الطبقة،  العِرق،  الجنس،  والدين. ولم يتحقق نفس الوضع مع المعاق؟لماذا؟فيما وراء الجرح “النرجيسي” للذي يعاني الإعاقة،  وكذا مكابدته ومحيطه للشعور بالخزي، تضعنا الحياة مع شخصية من هذا القبيل أمام  مستويات الوفاة. لأنه سواء ارتبط ضجره  بمصدر –عصبي،  حسي،  حركي نفسي أو ذهني-وفي غياب مساعدة  تقنية (جراحات ترميم متعددة)أو إنسانية (أنماط مختلفة من المصاحبة)،  فلايمكن لهذا الشخص الاستمرار على قيد الحياة. ترميم اصطناعي ومصاحبة تحميانه من فقدانه الاستقلال الذاتي، والموت في نهاية المطاف. تعرفون صرخة بودلير:”يا ألمي، هات يدك،  فلتأت من هنا”. بيد أنه،  ليس الألم،  بل الموت الذي تخاطبه الصرخة الخافتة للشخص المعاق. لكن أيضا طاقته، وكذا توثبه الحيوي اللذين يصعب مقاومتهما. الموت بالنسبة لحضارتنا،  إما تُرفض(تفسح الديانات المجال للحياة الأبدية)، أو تُكبت، غير مفكر فيها، تراقبها شعيرة الانتصار، النمو، المتعة. منذ عهد قريب، انتبهنا إلى العلاجات المخفِّفة للآلام، خلال أواخر الحياة، عظيم.  لايتعلق الأمر مع المعاق  بهذا  الموت الحتمي.  مادامت أوضاع الإعاقة تذكرنا دائما بعمل الموت فينا،  بتحققاته الطارئة وممكناته المؤجلة. ليس للعالَم الدنيوي أيّ تأمل حول الموضوع. هكذا تثير الموت فزع الجميع،  وتدفع نحو الشجب والإقصاء. لذلك،  حينما تتوخى سياسة المعاق، تغيير نظرتنا حول وضعيته، يتجه قصده نحو الاستئناس بهذا الخوف.   

*صامويل دوك: أنا مختص في التحليل النفسي الإكلينيكي داخل مستشفى حيث تكمن هذه الأسئلة في قلب تأمل عدد كبير من المعالِجين. التجأت دائما إلى أعمالكم  للتفكير في بعض الوضعيات الصعبة. هذه الوفاة مثلما أوضحتموها لاتهم  الفلاسفة المعاصرين.    

*جوليا كريستيفا: لقد أنجز ذوو الاحتياجات الخاصة أطروحات جامعية مهمة، ثم حققوا مسارات مهنية لاتقل تألقا في مجال الإعلام، فيما يتعلق بارتقائهم الذاتي، وباستطاعتهم  أيضا مداعبة الموت. لكن التطرق إلى حيثيات موت الشخص المعاق… آه لا، فالموضوع ليس ملائما. الإفراط في التعاسة،  قلة نسبة معدلات المشاهدة،  ستثيرون فزع المتابعين،  و سيجبرهم ذلك على تغيير القناة،  يرفض الجميع التفكير مليا في عجز الضمان الاجتماعي. أيضا ترتكز  تأملاتنا الإنسانية حول المعاق، حتى أكثرها سخاء على المفهوم الأرسطي القديم(”العجز”،  ”النقص”، “العقم”)،  أو الخطأ (فيما يبدو تجوزت حاليا).  يستلهم ماتيو ذلك ويجمل مختلف أنواع “العجز” و”الانتهاك” ضمن شريحة ”الفقر”:المرضى،  المجذومين، الأجانب،  المتسكعين،  المعوزين،  العاجزين،  كل الفقراء ! أعمال إحسانية رائعة أبدعها سياق هذا الفكر، أساس الإنسية المسيحية وكذا الكنيسة “جماعة الخادِم المتألم”، التي تطلعت نحو  سدِّ ثغرات  النقص،  و”إعطاء” ” من يحتاجون العطاء”.  أيضا انبثقت مقاربات تقنية وعلمية من هذا القصور أو النقص: بدراستنا لتجليات الحُبسة(العجز عن الكلام)، نعمق معرفتنا  بالميكانيزمات المعقدة للغة.  لايتعلق الأمر هنا بتجاهل علم الأمراض ولا إلغائه. بل التحلي باليقظة،  لأننا نجازف باحتجاز الذات المعاقة في نطاق موضوع  يقتضي فقط” التكفل به”.    

*صامويل دوك:ماذا تقترحون؟

*جوليا كريستيفا: إتمام نموذج العجز من خلال الهوس بالتميز الفردي. عدت إلى ذلك، مع دانز سكوت.  فبالنسبة لهذا اللاهوتي المنتمي للقرن الوسيط، لا تكمن الحقيقة سواء مع الأفكار العامة، أو تلك المادة المعتمة،  بل انطلاقا من حقيقة هذا الرجل،  تلك المرأة،  وهذه الوضعية،  ذاك الموضوع. وكذا هذا التعبير(اللاتيني” ecce”تعني”هذا”، ”ذاك”) الصادر عن المفهوم السكولائي(eccéité) ”المميزات الفردية”،  وبالانجليزية(thisness)والتي نترجمها بالخصوصية. فحسب إيتيقا دانز سكوت، ستكون الخصوصية اليقين الوحيد، و”القيمة” الأساسية.  ستلاحظون بأني أقترب من القصد…إنها خصوصية دافيد التي تمثل يقيني الوحيد، قيمتي النهائية. جعلني تعاطفي العاشق أكتشف قدرته على ممارسة الموسيقي بفضل أذنه المثالية رغم صعوباته العصبية. أصاحبه إذن كي ينفصل عني، ويشخْصن بشكل أفضل لغاته، ووسائله التعبيرية ثم علاقاته مع الآخر.  بحيث يمارس ذلك على طريقته الخاصة، ليس كما أريد، بل مثلما يريد وضمن نطاق مقدوره.  سنفتح ”ورشا” جديدا، ذلك المتعلق ب”الحياة العاطفية والجنسية”، مع أصدقائه وصديقاته ومرافقيه. سيكون صعبا، إن كان ممكنا؟أشك، أقول له:”دافيد، إنك تحلم !”، ثم يجيبني” لكن أمي، أحلم إذن أنا موجود”.  

* صامويل دوك: وأنا أصغي إليكم، أشعر بأنكم مثل فيليب سوليرز، لكن بكيفية ثانية، لاتطرقون سوى الأبواب المفتوحة. تتجه نظرتكم بداية نحو الممكن، وكذا الجمال.  وليس وجهة المستحيل، أو المعاناة.   

*جوليا كريستيفا: أحيانا يعتبرني دافيد وفيليب مفرطة النشاط. صحيح أني مستعدة لجميع الاحتمالات كي يسير الأمر على أحسن مايرام،  وبشكل أفضل. أشعر بالزهو وأنا أنشد  لهما لحنا روسيا حفظته خلال فترة شبابي في بلغاريا: “هيَّا تبلَّلْ كالفولاذ، واستعدْ للحظة الشدة، تهيأ ثم تقدم إلى الأمام”. ثم يجيبان بنبرة مغالية: “جوليا،  استعدي وتقدمي !”. طيب، يلزم أن أحتفظ لنفسي بجزئية صغيرة من هذه الحماسة الساذجة…. إذن هدنة النكتة،  ممارسة التحليل النفسي السريري،  اشتغالي صحبة  مرضاي،  ألفة فيليب مع ابننا دافيد- ليست للأسف براغماتية جدا، لكنها ذات فعالية”موسيقية”- قادني مختلف ذلك كي أجعل من الحياة معركة مع حضور الموت، وفي نهاية المطاف، استثمارا لكل لحظاتها.  وحده جمال معين يستحق.  فقد جعلتني لقاءات كثيرة حول دافيد أعيش هذا الجمال. نعم ليس عزاء إيستيتيقيا، لكنه بالأحرى شعورا بالعدالة والإنصاف الذي يحققه التناغم الواهن المتوِّج للاستهلاك الطاقي.  أفكر في العمل المطلق لجان فانيي،  وقد تبادلت معه طيلة سنتين، مراسلات، صدرت سنة 2011(منشورات فايار)، تحت عنوان:نظرتهم تخترق ظلالنا. هل تعلمون من أين أتت هذه الجملة؟حينما حصلت على جائزة هولبيرغ في مدينة بيرجين، توخيت لقاء شخصيات منخرطة في مصاحبة معاقين في النرويج. قدموا لي ألفور أنيش، أستاذ شاب محاضر في الجامعة(متى يصبح لنا في فرنسا أساتذة محاضرين وإن كانوا يعانون إعاقة متقدمة؟)شرح لي طبيعة عمله، لاسيما حول يوهان إبسن. في إحدى مسرحياته، يعالج هذا المسرحي الكبير حكاية امرأة مكلفة بإبادة الفئران (ساحرات الفئران شخصيات وضيعة ومشهورة بالنسبة للرومانسية في البلدان الاسكندينافية)، أحبت طفلا معاقا، الصغير أيولف، والذي تقارنه بعاشقها الأول الذي مات غرقا. وكما لو بهدف إعادة ملاقاة هذه الأعماق النفسية حيث تتعايش الدناءة،  الخوف، الخجل والرغبات، قرر الطفل بدوره إغراق نفسه في ذات البحيرة. تركزت عيناي الطفل أيولف كليا نحو هذه المرأة:”تمعنان التحديق في جوهر الظل وتخترق نظراته ظلالنا”. لم نصل بعد إلى هذا المستوى. تساعدنا التطورات العلمية والمعارك الحديثة على اجتياز كآبة مذهب المازوشية الرومانسي. لكن لازالت تنتظرنا أعمال كثيرة. بعد ذلك اللقاء، والكتاب المشترك مع فانيي، واصلت تبادل الآراء مع الزملاء النرويجيين حول صعوبات الإنسانية المعاصرة بخصوص اختراق تعقد وضعية المعاق، بين طيات ظل الأنوار.   

*صامويل دوك: كلمة أخيرة من أجل إنهاء هذا الفصل؟

*جوليا كريستيفا: أفكر بإقرار الفضل للفرق الطبية، النفسية،  الاجتماعية،  الموسيقية، وأخرى تلك المحيطة بدافيد والتي تعرفت على أفرادها بصحبته وبمعية أصدقائه. حقا،  أصبو نحو نسيان التخوفات،  الدموع،  الأخطاء، الضجر.  تستمر فقط ابتسامة دافيد المختزلة لجل مايعشقه،  جميع الذين يتقاسم معهم حيويته المعدية،  حيثما أراد،  واستطاع ذلك،  سواء في جزيرة ري Ré أو باريس،  بناء على شعاره”أحلم إذن أنا موجود”: إنها الحياة. لذلك أحاول أن أكون عند أفق الحالة الطارئة للحياة.      

…………….

 *مصدر الحوار:

Julia Kristeva:Je me voyage ;Mémoires ;entretiens avec Samuel Dock ;Fayard ;2016 ;pp:147 -169.

مقالات من نفس القسم