حوار مع الشاعرة الأسترالية دوروثي بورتر

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حوار: أسعد الجبوري

قيلَ إنها لا تخرج إلى حديقة الأرواح إلا ليلاً. أصبحت المرأة تتحسّس من الضوء لأسباب لم نكن ندركها. ومع ذلك كنّا بانتظارها على السلّم الموصل ما بين محطة الكتب وما بين نزل الأرامل.
لم ينتهِ انتظارُنا بساعات، إنما وجدنا باباً زجاجياً ينفتحُ تحت أقدامنا، ويسحبنا بقوة مغناطيسية إلى أسفل. أصابنا الذهولُ، خاصةً وأن حيوان ((النيكودا)) الشبيه بالأيائل كان مرافقاً لنا في رحلتنا إلى العالم السفلي.
وما أن اجتمعنا بالشاعرة الأسترالية دوروثي بورتر (26 March 1954 – 10 December 2008) في النقطة الحرجة من العدم، حتى زُوّدت أفواهنا بأنابيب راحت تضخّ فيها نوعاً من شراب غريب المذاق.
بعد ذلك شعرنا بموجة من النعاس تجتاحنا. فأصبحنا وجهاً لوجه مع الشاعرة دوروثي بورتر وهي في مغطس الحليب المُذاب بالعسل، ومن خلفها تقفُ صبية خِلاسية فائقة الجمال تحملُ المناشف وقميصاً طويلاً من الحرير الأحمر.
أنا بانتظار سماع الأسئلة. دقائق وأكون مستعدةً للحوار.

لم ننتظر طويلاً. غطّت جسدها بالقميص الحريري، ثم أشارت برأسها لأنثى حيوان ((النيوتس)) التي كانت تشاركها الاستحمام، للبدء بطرح الأسئلة على دوروثي بورتر:

س: أنتِ والشعر. من منكما المرآة، ومن منكما المرأة؟
ج/ أعتقد بأننا كلّ واحد، نتجزأ بالخوف ونندمجُ بيولوجياً حينما تضيق بنا الجينات ولا نجد لنا منفًى.

س: ما الذي يجدهُ الشعرُ، عندما يلتفتُ إلى الخلف؟
ج/ سيرى الشيطانَ وهو ينظفُ ظلَّهُ.

س: هل تظنين أن ظلّ الشيطان يحتاج للغسيل، على سبيل المثال؟
ج/ بالتأكيد. فلم تمرّ ساعةٌ، إلا وتجد الزمنَ متعباً وتملأ ملابسه الأوساخ والأدغال والطحالب.

س: كيف تَتكوّن برأسك فكرةٌ مثل هذه يا دوروثي بورتر؟
ج/ من الملائكة الذين يعملون على خدمته هنا وهناك.

س: أتعتقدين أن الملاك شيطانٌ مقنّع؟
ج/ وهو كذلك. فالملائكةُ شياطينُ بأسماء حركية مستعارة على مدى الزمن الشعري الأول والثاني والثالث.

س: ما هذا الذي تقولينه يا دوروثي؟ وكيف رأيتِ هذا التقسيم التاريخي للزمن الفيزيائي؟
ج/ أقصدُ أن الزمن الأول كان شعرياً بامتياز، فيما الثاني فهو زمن التحوّلات العميقة في بنية الشاعر التخيلية. أمّا ثالث الثوالث، فيتعلّق بمجرة العدم، حيث يتوافد إليها الجميعُ على متون الزوارق.

س: هل تعرفين غرفة الزمن في الشعر؟
ج/ أعرف أن كلّ جملة شعر حقيقية هي فضاء لأوبرا الأرواح المحترقة شغفاً من أجل لذّة تواصل الأجساد وذوبان بعضها في البعض الآخر.

س: ماذا كنتِ قبل الشعر يا دوروثي بورتر؟
ج/ كنتُ جرادة تحوم فوق حقول اللغة.

س: وما الذي كان يُسحرك في تلك الحقول؟
ج/ رائحة الكلمات وألوانها الشبيهة بقوس قزح.

س: وهل أُصبتِ بعدوى قوس قزح لتصبحي فيما بعد امرأة مثلية؟
ج/ ربما. ولكن المؤكّد أن اللغة هي من فتحت في جسدي نافذة نحو ذلك العالم الجنساني المشبّع بالميول العاطفية المختلفة وبالسلوكيات البيولوجية المتعدّدة الأقطاب داخل الأجساد.

س: من اختبر جسدكِ أولاً، اللغة أم الجنس؟
ج/ في البدء مارستُ الجنس اللغوي أولاً، بعد ذلك بدأتُ كتابة الشعر.

س: هل تعتقدين أن الجنس ضرورةٌ لغوية؟
ج/ في القصائد نعم، وفي الجسد نعم.

س: وإذا ما تم تفريغ اللغة من الجنس، هل يقتلها ذلك الفعلُ أو يجعل منها أداة غير نافعة بالمعنى الفلسفي التقني؟
ج/ لا يمكن بناء نص شعري بمعزل عن اللذّة، سواء أعطت ثمارها عن الطريق المثلي أم الجنس الرائج بصنوفه الاعتيادية الأخرى. لذلك فالتفريغ عمل عدائي ومناوئ للإبداع الفني بكل تجلياته.

س: ولكن الكثير من الأصوات النقدية والتربوية ترى ضرورة إبعاد الجنس عن الكتابة كإجراء أخلاقي ووقائي لعامة المجتمعات؟
ج/ أنت لو أفرغتَ الهواء من الجنس لنفذ الأوكسجين منه، واختنق وحلّ على البشر الموت.

س: وماذا عن الآمال الأخرى في عوالم الكتابة يا دوروثي بورتر؟
ج/ كنتُ أظن وأنا على قيد الحياة بأن الآمال ضريحٌ مقدّس للبشر المصابين بالعمى، مثلما بعد الموت أراه ضريحاً وهمياً لا وجود لأحدٍ بداخله، حتى من الموتى.

س: أنتِ كتبتِ الكثير من الأعمال للأوبرا. هل كان ذلك بسبب البعد الموسيقي في غرف حواسك؟
ج/ بالضبط. أنا كتبتُ الكثير من تلك الأعمال التي عُرضت في سيدني وفي لندن، وحصلت على الكثير من الجوائز، كجائزة كتاب العمر وجائزة المجلس الوطني للكتاب.

س: كيف نشأت علاقتكِ مع الموسيقى ببعدها الأوبرالي؟
ج/ نفسي كانت هي السبب. فهي التي انفتحت على الموسيقى، وهي التي أغرقتني بالشعر الغنائي الذي سبق وأن استولى على كياني بشكل مثمر ومدوٍّ.

س: ماذا عن الموسيقى الخبيثة؟
ج/ إنها تلك الموسيقى التي تدخل الجسد مع البكتيريا، لتستوطن وتتمدّد في جميع المناطق دون أن يمتلك المرء قوةً لردعها أو لمنعها من عمليات التسلّل.

س: بما في ذلك الصالون الروحاني للجسد؟
ج/ ليست أستراليا جيباً قارياً للكنغر، إنما هي جيب موسيقي لمختلف المخلوقات الحيّة منها والصامتة. بل ويمكن اعتبار أستراليا مجموعة من الشرائح النغمية المتصارعة، المؤتلفة، المتنافرة، الصاخبة، الهادئة في جوف أسطوانة واحدة.

س: أتظنين بأن كلامكِ هذا يُطمئن القارئ؟
ج/ لا وجود لقارئ بصيغة المستوعب الكامل للأعمال الشعرية. كل قارئ جبهة، وكل قارئ ذرّة رمل من تلال الصحراء.

س: هل تقصدين أن الإيمان الشمولي أو الكامل بالنص عملٌ مستحيل؟
ج/ بالضبط. لذلك فأنا لا أعوّل إلا على نصوص ممتلئة بالشهوات، وتتشابه مع أجساد شبيهة لها بتوفير طاقة السيطرة على منابع تلك الشهوات والتحكّم بها خدمةً للمؤلف.

س: كلما قطعنا شوطاً بالابتعاد عن المسألة الجنسية، تعيديننا إليها وكأنها مركز الكون. لماذا يحدث ذلك يا دوروثي بورتر؟
ج/ لأن القرّاء – ذكوراً أم إناثاً – لا يستغنون عن أعضائهم التناسلية أثناء قراءة المجموعات الشعرية أو الروايات أو التدقيق باللوحات الفنية.

س: لمَ تصرّين على رأيك؟
ج/ لأن الجميع يرفض تغييب تلك الأعضاء التناسلية عن المؤلفات التي كُتبت من أجل تقديم المتعة لهم في عالم بائس يفضي إلى تدمير مدّخراتهم الجنسية ودفنها تحت التراب.

س: هل تعتبرين هذا المسار في الكتابة إيجابياً ومحظوظاً؟
ج/ بالتأكيد. فحتى لو وصفتَ الأشياء الفظيعة المقزّزة عن الحرب في رواية أو نص شعري، أو رسمتها في لوحة، سيلتقط العقل الباطني للقارئ صور سبطانة مدفع قذيفة الدبابة، مقارناً إياها بما يملكه هو ما بين فخذيه من سبطانة اللحم الذكوري.

س: كأن أفكار رأسكِ مخلوقات مضادّة لكلّ ما هو مبذول وواضح وأكاديمي. ما ردّكِ؟
ج/ بالضبط. فكلّ ما هو عادي وطبيعي غير مثير للكتابة بالنسبة لي، لذلك كنت أبحث عن الأفكار التي تقف على أسلاك الكهرباء.

س: ألا تعتبرين ذلك ممارسةً عاليةً للأنانية؟
ج/ أبداً. أنا أرفض مثل هذا الاستنتاج، ربما لأنه يحاول مصالحتي مع الكتابات الميتة.

س: وكيف تموت الكتابة برأيك؟
ج/ عندما تكون واضحة تحت الشمس وتمشي بأرجلٍ من الرمال.

س: وكتاباتكِ أنتِ، بأية أقدام تمشي؟
ج/ أنا لا أمشي، أنا أتدحرج.

س: بجسدكِ؟
ج/ نعم. أنا أترك جسدي يتدحرج، فربما يحتكّ بشيء ما ويشتعل. الاحتراق في فرن الكتابة أفضلية بالنسبة لي.

س: متى يدرك الشاعر أو الشاعرة بأن أحداً ما يساعده في عمليات التأليف الأدبي أو الفني بشكل عام؟
ج/ ثمة أشخاص تمتلئ بهم غرف الحواس، وبعضهم ينفخون بالكلمات لتنضج وتقع على الورق دون شعور منا بذلك الوجود السرّي.

س: هل عندكِ إيمان بالقدرات السريالية على بناء عالم جمالي داخل الشعر؟
ج/ بالتأكيد. هناك تسلّل عبر الجدار الزجاجي العازل ما بين الواقع والخيالي، قد يجري كسره بالإلحاح على نوع من التفاعل فيما بينهما. ذلك أنني أعتقد بأن الاثنين من بذرة واحدة منقسمة إلى وهمٍ جزئي ووهمٍ كلي.

س: هل تعتبرين الرجل وهماً يا دوروثي بورتر؟
ج/ ليس تماماً، ولكنه شبه وهم، ويمكن الاستغناء عنه في درجة اللامعنى.

س: ما المقصود بكلامكِ هذا؟
ج/ أقصد أن الرجل لم يكن مصنع اللذّة الوحيد على تلك الأرض التي غادرتها بعد سنوات من اندماجي المثلي مع زميلتي الكاتبة أندريا غولدسميث، شبيهتي في الزواج أو الاتحاد النسوي – النسوي.

س: هل كان ذلك بسبب الخوف من الرجل أو القرف من أعماله الجنسية؟
ج/ بدايةً، كنتُ أخافه في السرير. إلا أنني سرعان ما هجرته مع الوقت لأحقق شهوتي مثلياً.

س: ما الذي كنتِ تجدينه عند شبيهتكِ المثلية أندريا غولدسميث على سبيل المثال؟
ج/ كنتُ أجد فيها جميع مكملات جسدي الناقصة. كنا بمثابة حطب في فرن مشتعل، تغذّي نيراني وأغذّي حطبها بما كان يلزم. كنا بمثابة ذكرٍ واحد يتعدّد بأنثيين، وكان العكس صحيحاً هو الآخر.

س: لذلك تم تخليدكِ بعد الوفاة بسرطان الثدي كواحدة من أكثر الأستراليين المثليين والمثليات تأثيراً؟
ج/ ذلك حدث بعد أن تم اختيارنا زوجين في القائمة القصيرة لجائزة مايلز فرانكلين للأدب لعام 2003.

س: ولماذا إذاً كتبتِ رواية ((الرجل الخالد))؟
ج/ ربما للتعبير عن شيء ما، عن الخيبة مثلاً، أو بسبب الحساسية من الفجل.

س: وهل ينطبق ذلك على تلك الأغاني العاطفية التي قمتِ بكتابتها للملحّن بول غرابوفسكي والمغنّية كاتي نونان، والتي تم إصدارها بواسطة شركة وارنر للتسجيلات؟
ج/ لقد فازت تلك الأغاني بأفضل ألبوم للجاز بجائزة ((آريا)) لعام 2005، ولذلك تسعدني تلك الأغاني حتى وأنا تحت التراب. أسمعها بنشوة، ويفعل ذلك معي النمل الأحمر.

………………………………………………

ولدت دوروثي بورتر في سيدني. كان والدها محامٍ تشيستر بورتر وكانت والدتها جين معلمة كيمياء في المدرسة الثانوية. التحقت بورتر بمدرسة كوينوود للبنا . تخرجت من جامعة سيدني عام 1975 بدرجة بكالوريوس في الآداب تخصص في اللغة الإنجليزية والتاريخ. في عام 2006 ، قامت دوروثي بورتر بتحرير “أفضل قصائد أسترالية لعام 2006” وفي نوفمبر من ذلك العام كانت قد وصلت إلى نهائيات جائزة ملبورن للأدب. نشرت شركة Picador Australia آخر رواية شعرية لدوروثي بعنوان El Dorado عام 2007. وقد تم ترشيحها لجائزة Dinny O’Hearn Poetry (جائزة كتاب العمر للعام) وجوائز مهرجان Adelaide للأدب ؛ جائزة رئيس الوزراء الأدبية وأفضل عمل روائي في حفل توزيع جوائز نيد كيلي.
توفيت دوروثي في ديسمبر 2008 عن عمر يناهز 54 عامًا.

ببليوغرافيا
الشعر
ليتل هودلوم (1975)
بيسون (1979)
ببغاء الليل (1984)
القيادة بسرعة كبيرة (1989)
كريت (1996)
عوالم أخرى (2001)
قصائد يناير – أغسطس 2004 (2004)

روايات آيات
أخناتون (1991)
قناع القرد (1994 ) What
a piece of work (1999)
Wild Surmise (2002)

 

 

مقالات من نفس القسم