ماريا بوبوفا
ترجمة: أسماء يس
«أحب.. لكن احذر ما تحب»، هكذا كتب الفيلسوف الرومانى الأفريقى القديس أوغسطين فى أواخر سنوات القرن الرابع. نحن، بمعنى عميق، ما نحبه؛ نصير ما نحبه بقدر ما يصير ما نحبه نحن. ونتصرف مدفوعين بأشواقنا الواعية واللاواعية، ويأسنا، ورغباتنا النمطية اللانهائية. وبالطبع يوجد شيء متناقض للغاية فى مسألة مناشدة العقل فى فكرة أننا نستطيع ممارسة الحكمة فى مسألة الحب؛ فأن تحب هو أن ينسدل ثوب الجنون حتى على العقل الأكثر عنادًا وتماسكًا، خصوصًا عندما يتولى القلب زمام الأمور برعونته اللذيذة!كيف ننتبه إلى تحذير أوغسطين، ليس باتباعه بلا تفكير بل من خلال فهم أفضل لتجربتنا فى الحب، هو ما تستكشفه حنا آرنت (14 أكتوبر 1906 – 4 ديسمبر 1975) فى عملها الأقل شهرة، لكن الأجمل من نواحٍ عديدة «الحب عند القديس أوغسطين»، (منشورات المكتبة العامة). وهو أول مخطوط طويل لحنا، وآخر ما نُشِر لها بالإنجليزية، وقد انتشلته من بين أوراقها بعد وفاتها العالمة السياسية چوانا فيكتشياريلى سكوت والفيلسوفة چوديث تشيليوس ستارك.
بعد نصف القرن من كتابتها كأطروحة دكتوراه فى عام 1929- بينما كانت رسولة العقل التى ستصبح واحدة من أكثر العقول التحليلية نباهة وذكاءً فى القرن العشرين، تكتب رسائل حبها النارية إلى مارتن هايدجر- راجعت حنا المخطوط وعلَّقت عليه باهتمام بالغ.
على مَسَن أوغسطين حاولت صقل أفكارها الفلسفية الأساسية، وعلى رأسها الانفصال المزعج الذى رصدته بين الفلسفة والسياسة كما يتجلى فى صعود آيديولوجيات مثل الشمولية، التى درست أصولها وأسبابها بتركيز واهتمام شديدين. واستعارت من أوغسطين عبارة amor mundi/ حب العالم، التى ستصبح سمة مميزة لفلسفتها. ولانشغالها بأسئلة عن أسباب استسلامنا للشر وتطبيعه، أرجعت حنا أصل الاستبداد إلى قطع الصلة بالآخرين. وعادت مرارًا وتكرارًا إلى أوغسطين للحصول على الترياق: الحب.
وفى حين كانت الفكرة القديمة عن حب المحيطين عمومًا -التى ستلهم مارتن لوثر كنج- محور تركيز حنا الفلسفى واهتمامها بأوغسطين، لم تنفصل اهتماماتها السياسية عن ينبوع الحب العميق: الحب الشخصي. ومع كل الحكمة السياسية والفلسفية التى استمدتها منه، كانت «اعترافات أوغسطين» مفعمة بالحيوية لأسباب تتعلق بتجربته فى الحب الشخصي؛ هذه القوة الأبدية التى تحكم شمس وقمر ونجوم حياتنا الداخلية، وتنعكس وتنطبع على بنياتنا الثقافية والاجتماعية.
مع الأخذ بعين الاعتبار مفهوم أوغسطين للحب باعتباره «نوعًا من الرغبة الجارفة» باللاتينية «الشهية»، التى اشتقت منها كلمة شهوة، وتأكيده على أن «الحب ليس فى الواقع سوى اشتهاء شىء ما لذاته»، عدت حنا أرندت هذه الرغبة المباشرة الدافع الأساسى للحب:
كل رغبة مرتبطة بشىء محدد، وهذا الشيء يتطلب إثارة الرغبة نفسها، ومن ثَم توفير هدف لها. ترتبط الرغبة بالشىء المحدد الذى تسعى إليه، والحركة يحددها الهدف الذى تتحرك نحوه.
فكما كتب أوغسطين، الحب هو «نوع من الحركة، وكل حركة موجهة هى نحو شىء ما». وما يحدد حركة الرغبة دائمًا موجود مسبقًا، فشغفنا يتجه إلى عالم نعرفه؛ ولا يكتشف شيئًا جديدًا. والشيء الذى نعرفه ونرغب فيه هو «الخير»، وإلا لما طلبناه لذاته. وكل الخير الذى نرغبه – فى معرض بحثنا عن الحب- هو أشياء مستقلة، لا علاقة لها بأشياء أخرى. كل منها لا يمثل سوى خيره الفرداني. والسمة المميزة لهذا الخير الذى نرغب فيه هى أننا لا نملكه، وبمجرد أن نملكه تنتهى/ تأفل رغبتنا فيه، إلا إذا كنا مهددين بفقدانه؛ فى هذه الحال تتحول الرغبة فى التملك إلى خوف من الخسارة، باعتبارها سعيًا لتحصيل خير بعينه لا أشياء عشوائية، فالرغبة هى مزيج من «الاتجاه إلى الشىء» و»العودة منه».
الرغبة تحيل إلى الفرد الذى يعرف خير العالم وشره ويسعى إلى العيش فى سعادة. ولأننا نعرف السعادة، نريد أن نكون سعداء، وبما أنه لا يوجد شىء أكثر تأكيدًا من رغبتنا فى أن نكون سعداء، فإن مفهومنا للسعادة يرشدنا فى تحديد الخيرات المهمة التى تصير لاحقًا موضوعًا لرغباتنا. الشهوة، أو الحب، هو إمكانية حصول الإنسان على الخير الذى سيجعله سعيدًا، أى الحصول على ما يخصه.
لهذا يبدو الحب السخى غير المتملك -الحب الذى لا ينقص بسبب الإخفاق فى تحقيق الخير الذى يتوق إليه- إنجازًا خارقًا يفوق طاقة البشر. («إذا لم يكن ممكنًا أن تتساوى المحبة/ فلأكن أنا الطرف الأكثر محبة». هكذا كتب صديق أرندت المخلص والمعجب الكبير الشاعر د. هـ. أودن فى قصيدته الخلابة التى تؤيد الانتصار الإنسانى الخارق للقلب).
تحذر حنا من أن الحب المبنى على التملك مصيره الحتمى هو الخوف؛ الخوف من فقدان ما تم الحصول عليه. وبعد ألفى عام من تقديم إبكتيتوس علاجه لانكسار القلب بالتسليم بفناء كل الأشياء، ومن ثَم، فحتى الحب ينبغى أن يُمسك بقبضة مرتخية، كتبت حنا، التى انتبهت أن كلام أوغسطين موجه للرواقيين:
ما دمنا نرغب فى أشياء مؤقتة، سنبقى دائمًا تحت هذا التهديد؛ وسيرافق خوفنا من الخسارة دائمًا رغبتنا فى الحصول على الأشياء. يجيء الخير بشكل مؤقت ويفنى بشكل مستقل عن الإنسان التى تربطه رغباته به. ولأننا باستمرار، عبر الرغبة والخوف، مرتبطون بمستقبل تحيط به الشكوك، نجرد كل لحظة حاضرة من هدوئها، وأهميتها الجوهرية، ولا نستطيع الاستمتاع بها؛ وهكذا يدمر المستقبل الحاضر.
بعد مرور نصف قرن على تحذير تولستوى من أن «الحب لا مستقبل له [لأن] الحب هو نشاط مرتبط بالحاضر فحسب»، تضيف آرنت:
لا يتحدد الحاضر بالمستقبل بما هو عليه… بل بأحداث معينة نأمل فيها أو نخشى حدوثها فى المستقبل، ما نتوق إليه، أو نسعى إليه، أو نتفاداه أو نتجنبه. السعادة تكمن فى التملك، فى امتلاك الخير والاحتفاظ به، والأكثر من ذلك فى اليقين من عدم فقدانه. أما الحزن فهو فقدان الخير الذى نملكه، وفى تحمل هذه الخسارة.
وهكذا، عند أوغسطين، فإن سعادة التملك لا تتناقض مع الحزن، بل مع الخوف من الخسارة. مشكلة السعادة الإنسانية أنها محاطة بالخوف على الدوام. فلا يتعلق الأمر بالافتقار إلى التملك، بل بسلامة وطمأنينة التملك.
الموت، بطبيعة الحال، هو الخسارة الأخيرة للحب وكذلك للحياة، ومن ثَم فهو ذروة خوفنا من المستقبل. ومع ذلك، فهذا الهروب من الوجود عبر بوابة القلق -الذى ربما هو أكثر الأمراض التى يتعرض لها البشر شيوعًا- هو فى حد ذاته موت حى.
وعن هذا تكتب: فى معرض خوفهم من الموت، يخاف الأحياء الحياة نفسها، فالحياة محكوم عليها بالموت… والصيغة التى تعرف بها الحياة نفسها وتدركها هى القلق. وهكذا يصبح موضوع الخوف هو الخوف نفسه. حتى لو افترضنا أنه ليس ثمة ما يدعو للخوف، وأن الموت ليس شرًا، ستظل حقيقة الخوف (وأن جميع الكائنات الحية تتجنب الموت) قائمة.
على هذه الخلفية من الفضاء السلبى، تحدد حنا الهدف النهائى للحب وفقًا لأوغسطين:
الجسارة هدف الحب. والحب كالشهوة يتحدد بهدفه، والهدف هنا هو التحرر من الخوف.
وبشعور يسلط الضوء على الآلية المركزية التى يغذى بها الإحباط (مؤقتًا) الرضا فى حالة الحب الرومانسى، تضيف: الحب الذى يسعى لشىء آمن ومتاح، سيشعر بالإحباط باستمرار، لأن كل شىء محكوم عليه بالموت. وتحت وطأة هذا الإحباط يتحول الحب، ويصبح غرضه الإنكار، ولا يتبقى منه سوى الرغبة فى التحرر من الخوف. ومثل هذه الجسارة لن توجد إلا فى الاستقرار التام الذى ليس من الممكن لأحداث المستقبل المتوقعة أن تزعزعه.
وإذا كان الحاضر -انتفاء الأمل/ التوقعات- شرطًا أساسيًّا لتجربة الحب الحقيقية، فالزمن هو البنية التحتية الأساسية لها.
بعد مرور ما يقرب من نصف قرن، وعندما أصبحت أول امرأة تحاضر فى كلية جيفورد المرموقة بالسلسلة الممتدة لـ 85 عامًا، ستجعل حنا من فكرة الزمن مركزًا للأنا الفكرية لدينا، محورًا لمحاضرتها التاريخية المعنونة (حياة العقل). وهى هنا، تقتبس من كتابات أوغسطين، معتبرة الحب مفارقة خارج الزمن بالنسبة لمخلوقات زائلة/ مؤقتة مثلنا:
حتى لو كان ينبغى للأشياء أن تدوم، فحياة الإنسان لا تدوم. ونحن نفقدها يوميًّا. وبينما نعيش تمر بنا السنوات وتقودنا إلى العدم. يبدو أن الحاضر هو وحده الحقيقى، لأن «الأشياء الماضية والمستقبلية ليست موجودة»؛ لكن كيف يمكن للحاضر (الذى لا دائمًا إما لم تعد موجودة أو ليست موجودة بعد. والحاضر يمر عبر ما ليس له مساحة، ويختفى فيما ليس موجودًا. هل يمكن القول إن الحياة موجودة أصلاً؟ الحقيقة أن الإنسان هو من يقيس الزمن. ربما يمتلك الإنسان «مساحة» يمكنه فيها حفظ الزمن لفترة تكفى لقياسه، أليست هذه «المساحة» التى يبلغها الإنسان بنفسه، ليتجاوز الحياة والزمن؟ الزمن موجود فقط بقدر ما يمكن قياسه، والمقياس الذى نقيسه به هو المكان.
تشير حنا إلى أن الذاكرة عند أوغسطين هى المساحة التى يقاس فيها الزمن ويخزَّن مؤقتًا:
الذاكرة، مخزن الزمن، هى حضور «لا أكثر»، كما أن التوقعات/ الحدس، هو حضور «لم يحدث بعد». لذلك فلا أقيس ما لم يعد موجودًا، بل أقيس شيئًا ثابتًا فى ذاكرتي. يحدث هذا فقط من خلال استدعاء الماضى والمستقبل إلى حاضر الذكرى والتوقعات، الذى يوجد الزمن فيها على إطلاقه. ومن ثم فالزمن الوحيد الصالح هو الحاضر، هو الآن.
أحد المواضيع الرئيسية التى أبحثها فى كتابى «الاكتشاف» هو السؤال المتعلق بزمنية تجاربنا الغنية، ذكرت مارجريت فولر، إحدى شخصياتى الرئيسية: «الاتحاد بين طبيعتين لبعض الوقت أمر عظيم للغاية». هل علينا أن نيأس أم نبتهج بحقيقة أنه حتى أعظم حالات الحب لا توجد إلا «لوقت ما»؟ فالمقاييس الزمنية مرنة، تتقلص وتتوسع مع عمق وحجم كل حب، لكنها دائمًا محدودة، مثل الكتب، مثل الحياة، مثل الكون نفسه. ويكمن انتصار الحب فى الجسارة والنزاهة التى نختبر بهما اللحظات العارمة العابرة التى تجمع شخصين وقت ارتباطهما، قبل أن يتخليا عنها بنفس القدر من الشجاعة والنزاهة.
تندهش فولر عند مشاهدة لوحات كوريجيو للمرة الأولى، ويغلبها جمال لم تختبره من قبل، يشع بحقيقة أكبر عن قلب الإنسان: «روح الحب الحلوة! يجب أن أسأمك أنت أيضًا؛ لكنها كانت مشرقة ذاك اليوم»!
تستكشف حنا آرنت حقيقة القلب الجوهرية فى كتابات أوغسطين. وبعد قرن من تأكيد كيركيجارد أن «اللحظة ليست ذرة من الزمن بل ذرة من الأبدية»:
الآن/ الحاضر هو ما يقيس الوقت ذهابًا وإيابًا، لأن الآن/ الحاضر، بالمعنى الدقيق للكلمة، ليس زمنًا، بل هو خارج الزمن. فى الحاضر، يلتقى الماضى والمستقبل. يتزامنان للحظة عابرة يمكن تخزينها فى الذاكرة، التى تتذكر الأشياء الماضية وتتوقع الأشياء القادمة. فى اللحظة العابرة (الآن/ الحاضر الزمني) يبدو كأن الزمن توقف، وهذا الآن ما أصبح نموذج أوغسطين للأبدية/ الخلود.
أوغسطين نفسه يصور هذه الزمانية اللانهائية:
من يمسك [القلب] يهيئه حتى يثبت قليلاً ويلتقط للحظة روعة الأبدية التى لا تزال قائمة إلى الأبد، ويقارن ذلك باللحظات الزمنية التى لا تتوقف أبدًا، سيرى أنه لا مثيل له… ولكن فى أثناء الوجود فى الأبدية، لا شيء يمر إلا كلية الوجود.
وتركز أرنت على قلب المفارقة:
ما يمنع الإنسان من «العيش» فى الحاضر الخالد هو الحياة نفسها، التى لا «تتوقف أبدًا». فالخير الذى يتوق إليه الحب يكمن وراء كل الرغبات المجردة.. ولو أن المسألة مجرد رغبة، لأنهى الخوف كل الرغبات. وبما أن كل ما يواجه الحياة من الخارج كموضوع لرغبتها يُقتفى من أجل الحياة (الحياة التى سنفقدها)، فالهدف النهائى لجميع الرغبات إذن هو الحياة نفسها. الحياة هى الخير الذى يجب أن نسعى إليه، ونسميها الحياة الحقيقية.
ثم تعود إلى الرغبات التى تخرجنا من الحياة ثم تغرقنا فيها:
تتوسط الرغبة الذات والموضوع، وتمحو المسافة بينهما بتحويل الذات إلى محب والموضوع إلى محبوب.
فالمحب لا ينعزل أبدًا عمن يحب؛ بل ينتمى إليه… ولأن الإنسان ليس مكتفيًا بذاته، ومن ثَم يرغب دائمًا فى شيء خارج نفسه، فإن مسألة من هو لا يمكن حلها إلا من خلال موضوع الرغبة، وليس، كما اعتقد الرواقيون، من خلال قمع الدافع. الرغبة نفسها: «كل شخص هو ما يحب» [كما كتب أوغسطين]. وبالمعنى الدقيق للكلمة، من لا يحب ولا يرغب على الإطلاق؛ هو لا أحد.
فالإنسان فى حد ذاته، أى جوهره، لا يمكن تعريفه، لأنه يرغب دائمًا فى الانتماء إلى شىء خارج نفسه، ويتغير وفقًا لذلك… وإذا أمكن القول إن له طبيعة جوهرية أصلاً، فستكون عدم الاكتفاء الذاتي. ومن هنا يدفعه إلى الحب إلى الخروج من عزلته.. سعيا إلى السعادة، وهى عكس العزلة، تتطلب أكثر من مجرد الانتماء. ولا تتحقق السعادة إلا عندما يصبح المحبوب عنصرًا دائمّا متأصلاً فى كيان المرء.
ومن المذهل حين نتتبع خطوط هذه الأفكار عبر حياة حنا آرنت الفكرية، وبعد عقود من حصولها على الدكتوراه، ستضع أطروحتها المؤثرة حول كيفية استخدام الطغاة للعزلة كسلاح للقمع. وبعبارة أخرى، فالشمولية ليست إنكارًا للحب فحسب، بل اعتداء على جوهر البشر.
استكمالاً لكتاب الحب والقديس أوغسطين، تستمر حنا فى دراسة التسلسل الهرمى للحب عند أوغسطين، والبنى النفسية للرغبات، ومخاطر التوقعات، واللبنات الأساسية لـ«محبة العالم» التى هى حيوية للغاية لبناء حياة متناغمة ومجتمع متناغم. وبإقران هذا مع ما كتبته إليزابيث باريت براوننج حول السعادة كالتزام أخلاقى، يمكننا إعادة النظر فى طرح آرنت بشأن السعى وراء السعادة، والكذب فى السياسة، والقوة الناتجة عن كونك غريبًا، والفرق بين الإضاءة التى يسلطها الفن والعلم للواقع الإنسانى.