عادل زيادة
تميزت العمارة الإسلامية على مدى عصورها بتنوع مبانيها تنوعاً كبيراً مابين دينية ومدنية وعسكرية، وشُيِّدت مبانيها بما يتناسب مع الفكر المعماري الإسلامي وبما يتماشى مع الذوق العام لمجتمع المدن الإسلامية، ومن بين العمائر المدنية المتبقية والمنتشرة في كثير من المدن الإسلامية الحمَّامات العامة التي تُعرف بحمَّامات السوق، وكان لهذه الحمَّامات أثر كبير في مجتمعات المدن التي بُنيت بها ظهرت معها عادات وتقاليد استجدت على المجتمع الإسلامي بصفة عامة إلى جانب ما كان لهذه الحمَّامات من نمط خاص في أسلوب بنائها المتميز الذي يتصف بعناصر معمارية وفنية خاصة بهذا النوع من المباني.
ولأهمية الموضوع أفضل أن أصطحبكم في جولة مع هذه الحمَّامات سأبدأ بالتعريف الدقيق لها وأصل فكرتها واسلوب عمارتها وطريقة ارتفاقها للرجال والنساء، وموقف الشريعة الإسلامية في ارتفاقها وكيفية دخولها، وماكان يحدث في داخلها والخدمات التي تقدمها لزائريها وأثرها في الحياة الاجتماعية، ومن هم العاملون بها، ودور الحكومات في السيطرة عليها، والحوادث والجرائم التي كانت ترتكب فيها .
الحمَّام هو مفرد الحمَّامات ؛ وورد عن أهل اللسان أنه من الحميم وهو الماء الساخن او شديد السخونة، فيقال حَمَّمت الماء أي سخنته، وكل ما سُخِّن فقد حُمِّم. واستَحَمَّ إذا اغتسل بالماء الحميم، وأحَمَّ نفسه إذا غسلها بالماء الحار، والاستحمام هو الاغتسال بالماء الحار.
هذا وقد ورد لفظ الحمَّام بصيغة المؤنث في النص التأسيسي لحمَّام بشتاك بالقاهرة حيث ورد بصيغة “هذه الحمام المباركة”، وورد أيضاً بصيغة المذكر وذلك في النص التأسيسي لحمَّام السلطان إينال بالقاهرة أيضاً حيث جاء فيه “هذا الحمام المبارك”. ويذكر الإمام المناوي أن الجن هم أول من بنوا الحمَّام حيث بنوه لسليمان عليه السلام عندما تزوج بلقيس ملكة سبأ، ودليل ذلك ما رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري أن أول من دخل الحمَّامات سليمان بن داود فلما دخله ووجد حرَّه وغمه قال: “أواه من عذاب الله أواه”
وُلدت فكرة بناء الحمَّامات العامة بسبب ما أوجبته العقائد الدينية وطقوسها في استخدام الماء للنظافة والطهارة فضلاً عن دورها الكبير في تقديم الرعاية الاجتماعية في المجتمعات على مرِّ العصور. وأيضاً بسبب عدم وجودها في منازل عامة الناس، كما ارتبطت كذلك برغبة القادرين على إنشائها في استثمار أموالهم حيث كانت من المشروعات التي تُدِر ريعاً وفيراً لشدة الطلب عليها، هذا إلى جانب الاهتمام بإنشائها كأوقاف على أعمال الخير والبر.
ولابد أن نشير هنا إلى أن حمَّامات السوق هذه هي في الأصل منشآت دخيلة على الحضارة الإسلامية فقد ورثتها -ضمن ما ورثته من الحضارة الروماتية ثم انتشرت بالآلاف في مدن العالم الإسلامي شرقاً وغرباً، إذ أن المسلمين الأوائل لم يعتادوا استعمال الماء الغزير في بيوتهم، ولكن ضروريات حياتهم جعلتهم يقتبسون فكرة الحمَّام الروماني ويضعونه في مكانة لم يحتلها من قبل في المدن الرومانية نفسها، وجعلوا منه مرفقاً شعبياً بالمعنى الصحيح، ويرجع ذلك بدون شك لاختلاف الدَوْر الذي لعبته الحمَّامات في المدن الرومانية والمدن الإسلامية، فقد كانت في الأولى للأثرياء والرياضيين ونخبة من المجتمع لغرض اللهو والترفيه والمتعة، أما في الثانية فقد كانت لضرورة دينية.
ومع ذلك ظل الحمَّام في المدن الإسلامية من بين المنشآت التي تعددت الآراء بشأن أصلها واختلفت هذه الآراء اختلافاً يوضح مدى الاهتمام بكل ما يتعلق بها. فيرى أحد المؤرخين أن الحمَّام في المدينة الإسلامية ماهو إلا الترما Therma أي الحمَّام اليوناني القديم، ويخالفه آخر في ذلك حيث يعتقد أن الحمَّام الإسلامي لا يمكن أن يكون وريث الحمَّام اليوناني، بينما يرى ثالث أن الحمَّامات الإسلامية مقتبسة من الحمَّامات الرومانية التي كان لها أثراً مباشراً عليها، وربما تكون أيضاً مأخوذة عن الحمَّامات البيزنطية أو السورية التي ترجع إلى القرون الأولى للميلاد، فالبنسبة لحمَّامات الإغريق نرى أنه من الصعب تحديد الوقت الذي عُرفت فيه كمنشآت معمارية عندهم، وعلى أي حال فإن أصل الحمَّامات يرجع إلى اليونان حيث يُستدل على وجودها من خلال بعض المناظر والرسوم المسجلة على بعض الأواني التي ترجع إلى الفن الإغريقي والتي أمدتنا بمراحل تطورها ووسائل الاستحمام، وربما كانت الحمَّامات التي سجلتها رسوم هذه الفترة حمَّامات ذات مياه باردة حيث لا يوجد ما يُستدل من خلاله على أنها قد خضعت لإحدى طرق التسخين وبذلك تكون خطوة أولى نحو خطوات تطور الحمَّام .
ويبدو أن الحمَّامات الساخنة في بلاد اليونان قد قوبلت ببعض المعارضة في بداية إنشائها حيث وُجد قانون في أثينا يمنع إقامة هذا النوع من الحمَّامات داخل حدود المدينة، ولكن سرعان ما تلاشت هذه المعارضة وأُنشئ الجيمانزيوم الذي أُلحقت به حمَّامات متكاملة بأقسامها الثلاثة البارد والدافئ والساخن.
ومن الثابت تاريخياً أن قدماء اليونانيين قد عرفوا حمَّامات البخار الساخن منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وكان يُطلق عليها لفظةTholos وتعني الحجرة الساخنة، وكان عبارة عن مبنى دائري الشكل تعلوه قبة ضخمة، وأرضيته مفروشة بفسيفساء متعددة الألوان، وكانت الحرارة تُوَّلد به في البداية عن طريق تسخين أحجار صغيرة تُرش بالماء البارد فيتصاعد منها البخار، إلى أن ابتُكرت غرف التسخين السفلية المعروفة باسم “الهيبوكاوست”Hepocawest ، تلك الطريقة التي ظل يعمل بها الحمَّام بعد ذلك حتى القرون الأولى في العصر الإسلامي، وهي تسخين الأرضيات عن طريق غرف بأسفل حجرات الحمَّام عبارة عن أفران يمر هواؤها الساخن بداخل ممرات أو دهاليز تمثل أسقفها المكوَّنة من بلاطات حجرية – في الوقت ذاته – أرضيات غرف الحمَّام الساخنة والدافئة، ويفتح بأسقف هذه الدهاليز فتحات تمد حجرات الحمام بالهواء الساخن يختلف عددها باختلاف درجة حرارة الحجرات. ثم حدث تطور آخر في نظام التسخين عندما ابتكر الإغريق أيضاً نظاماً ساد فيما بعد عند الرومان وهو ما يُطلق عليه اسم سسبنسورا Suspensurae ويعتمد هذا النظام على الجدران المزدوجة المبنية من نوع خاص من الطوب المفرغ (مفتوح الجوانب) والتي ينبعث منها الهواء الساخن داخل حجرات الحمَّام.
ورث الرومان الحمَّام الإغريقي وأخذوا في تطويره وزيادة ملحقاته، وتعود أولى الحمَّامات الرومانية إلى القرن الثاني قبل الميلاد واستمرت في تطورها حتى وصلت أوج ازدهارها في القرنين الثالث والرابع الميلاديين. وتفنن الرومان في بنائها بشكل كبير لم يجاريهم فيه أحد من المتقدمين ولا من المتأخرين.
وخضع الحمَّام الروماني في الأصل إلى تخطيط ثابت يتكوَّن من ثلاثة أقسام رئيسية عبارة عن ثلاث قاعات متتالية: تبدأ بالقاعة الباردة Frigidarium وهي عبارة عن فناء كبير به أبنية من ثلاث جهات لغرف خلع الملابس والتدليك وغيرها ويتوسطه حوض كبير للمياه الباردة مخصص للسباحة إلى جانب أحواض صغيرة للإغتسال بعد الانتهاء من الألعاب والمسابقات. يلي القاعة الباردة القاعة الدافئة حيث درجة حرارة متوسطة بين البارد والساخن Tepidarium وهي على هيئة بهو كبير يمثل مركز الحمَّام، وقد أُعدت هذه القاعة للإقامة والتسلية والمناقشات والاستراحة لأوقات طويلة، وتشتمل على أحواض مياه دافئة تساعد على تدرج حرارة الجسم للوصول إلى المياه الساخنة بعد ذلك، وتعتبر القاعة الثالثة وهي الساخنةCaldarium أهم أجزاء الحمَّام، وهي قاعة مستديرة تشتمل على حوض مياه ساخنة، ويغطيها قبة وبأسفل أرضية هذه القاعة أُنشئت غرف التسخين وممراتها التي تسري بداخلها التيارات الهوائية الساخنة.
وبالإضافة إلى هذه القاعات الثلاث يوجد عن يمينها ويسارها غرف كثيرة لخلع الملابس والألعاب الرياضية وقاعات للقراءة والاستراحة وغير ذلك من وسائل رياضة الفكر والجسم، وزيادة في الفخامة استعمل الفنان الروماني أنفس أنواع الرخام الملون والمرمر المعرق والجرانيت والفسيفساء اللامعة في تغشية الجدران، وأصبح لهذه الحمَّامات بذلك أكبر الأثر في تهذيب عقول وأبدان الشعب.
وإلى الحلقة القادمة ….