حسن شوتام
تحضرني ذكرى “الحليب الأخضر” وقتما أضفتُ القليل من شراب النّعنع إلى كوب حليب طازج، فأنخرط في ضحك خافت وأنا أتلذّذ بطعم ذاك الخضار؛ شَربة بعد أخرى وأستعيد في ذات الوقت طيف تلك الزيارة الموشومة في ذاكرة كل أفراد الأسرة لكثرة تداولها في مناسبات شتى على سبيل النكتة.
كثيرا ما رافقتُ أمي إلى ورشة بناء بيتنا الجديد. كانت تحرص على متابعة الأشغال ومراقبة سَيْرِ جلّ المراحل والمحطّات مع التأكد من جودة المواد والمعدّات المُستعملة بنفسها، رغم أن أبي -البعيد جدا- أكد لها غير ما مرّة تواصلَه الدائم مع “المعلم” وأن لا داعي لتكبّد مشقات وأعباء إضافية مرتبطة بعالم الرجال. ولأن رأس أمي -كما سمعتُ أبي يردّد- “قاصح”، لا تأخذ برأيه بل تجيبه على سماعة الجيران مُطمئنة إياه ومؤكدة له خبرتها في التعامل مع “المعلمين” المتلكئين!
كنتُ أصرّ على الذهاب معها لأنني كوّنت صداقات حديثة مع أبناء جيراننا الجدد. وكنت أنطلق للّعب معهم بمجرد دخول أمي تلك المتاهة غير المسقوفة والحافلة بأكوام الرمل وقضبان الحديد وأكياس الاسمنت والكثير من المعدّات الصدئة المبثوثة في فوضى رهيبة. وكانت أمي تمنعني من دخول بيتنا -قيد البناء- وتخشى أن أتأذى من العوارض الخشبية المتحركة، ناهيك عن المسامير المنثورة في كل مكان.
أمي أيضا كوّنت صداقات جديدة… صارت تستمتع بحلقة النساء عند عتبة بيت “لالة ربيعة” وأحاديثهن الشيقة الطويلة، وبعد أن كانت تستعجلني أمست تتركني في حمّى لعب ماتع لا يخرجني من حلبته سوى زحف المساء.
في إحدى المرّات، وفيما أمي تودّع دارة النساء، تمسّكت “لالة ربيعة” بلحاف والدتي وألحّت عليها في الرجاء -متوسّطة بقسم وبوجهي المُنهك من اللعب والجوع- بالدخول ومشاركتهم وقت اللّمجة قبل الانصراف. عبرنا الرواق إلى فسحة في قلب البيت وهناك تربّعتُ على بساط بينما لالة ربيعة بلكنتها الصحراوية الخفيفة تجوب بأمي أجزاء البيت ومرافقه وضحكاتها العالية تجلجل في الأركان.
وضعت ابنة “لالة ربيعة” على المائدة خبزا وعسلا وجبنا وزيتونا أسود. اختفت لبرهة وجيزة ثم عادت وبين يديها صينية الشاي. فاجأتني لالة ربيعة مُستفهمة: واش بغيتي الحليب أخضر ولا طايب؟
شردت قليلا متسائلا في سرّي عن طعم هذا “الحليب الأخضر”… أجبتُ في حياء مُشدّدا بعفوية طفل على حرف الخاء: خضر… خضر!
- شدّ الكاس مزيان!
قالت أمي ثم أضافت بعد أن ناولتني قطعة خبز محشوة زبدا وعسلا:
- يلاه شرب الحليب ديالك أو كول باش نمشيو راه تعطلنا!
كان حليبا طازجا باردا لكن أبيض اللّون. شربته مُحلّى بدهشة كبيرة.
في الطريق إلى البيت تعاظمتني الحيرة أكثر. بخطى سريعة كانت أمي تمشي وكنت متشبّثا بأطراف إزارها بيد ومحتفظا بما تبقى من خبز في يدي الأخرى؛ حتى إذا فرغت من أكله وبَلَغَ فضولي مُنتهاه صِحْتُ قائلا:
- ماما! لماذا لم تُحضر لي ابنة “لالة ربيعة” الحليب الأخضر الذي طلبته؟
- رأيتك بأم عيني تشربه يا بني. قل الحمد لله!
- ولكن هذاك حليب بيض ماشي خضر!
حملتني أمي وقتها بين ذراعيها ثم عاودت المشي بخطو حثيث… سمعتُ ضحكات متقطّعة خلف لثامها الأسود فأطرقتُ رأسي واجِمًا…
………………………………………….
*قاص مغربي