استَبَدَّ بي النعاس.. قاومْتُ.. لم أفلح، فنمْتُ..
كل شيء في منامي تحوَّلَ إلى أزرق؛ النوافذُ، الأبوابُ، الشوارعُ، والوجوهُ.. أمُدُّ يدي، وحدهما حافظتا على لونهما الطبيعي. الناسُ يمرُّون أمامي، ينظرون، يُحدِّقون فيّ في استغراب..
أتابع سيري، غير عابئٍ بنظرات المَّارة التي أحسُّ بها تنغرز في جسمي كسكاكين.. تُحدثُ فيه ثقوباً تسيل بدماء زرقاء.. أحاول إيقاف الدماء الزرقاء فأعجز عن ذلك.. أُهَدِّئ ذاتي مستحضراً قول أستاذي، ذات يوم، وهو يشرح لنا دلالة الألوان. كان صوته هادئاً كعادته. تَقَدَّمَ من السبورة، وكتب بخط عريض وجميل:
” اللون الأزرق في الحلم”..
استدار صوْبَنا، وشرع في الحديث عن الرضى والاستقرار اللذين يشعر بهما الفردُ وهو يرى أحلامه بالأزرق. تعالتْ ضحكاتٌ من آخر الفصل الدراسي، نظر الأستاذ صوب الجهة التي صدرت منها الضحكاتُ، صَرَّ على أسنانه وَفارَ وجههُ بالامتعاض. خَيَّمَ على الفصلُ سكونٌ كَسَّرَهُ أحدُ التلاميذ السكونَ قائلاً:
” لا أحدَ، يا أستاذي، يحلم باللون الأزرق.. الأحلام كلها تكون بالأبيض والأسود.. ثمَّ، لماذا يا أستاذ نجد مستشفيات الأمراض العقلية تُصْبَغُ، في الغالب، باللون الأزرق..”..
ظلَّ الأستاذ، للحظة، صامتاً.. فاجأه السؤال، وتَمَسَّكَ بعناده، بِصَمْتِهِ؛ صَمتٌ يوحي بعدم رضاه على ما سمع. نظر بمؤخر عينيه إلى التلميذ، استدار صَوْبَنا، أسدلَ على وجهه هيئة الجد وَفَرَحَ الانتصار.. واسترسلَ في حديثه مُشيراً إلى السَّلام الداخلي الذي يُحدثهُ اللونُ الأزرقُ في الذات؛ لأنه رمز القوة والصلابة، وأنَّ المواليد من الذكور، على خلاف الإناث، تُقْتَنى لهم ألبسة زرقاء..
بصوتٍ تخالطُه ثقةٌ، رَدَّ التلميذُ أن جدته قالت يوماً، وهي تتحدث عن الألوان إنَّ للون الأزرق دلالة سيئة، فهو رمز للإجرام والجنون.. كان في صوت التلميذ رجفة، قال الجملة، غارَ صوتُهُ وتعثَّرتِ الكلماتُ في حلقه.. تبادلنا، لحظتها، النظر بيننا وأنا أستحضرُ قول أستاذ مادة الجغرافيا وهو يشيرُ إلى أَنَّ الماء لا لون له، وأنه يأخذ لون ما يوضع فيه. كنتُ من قبلُ أعتقد أن اللون الأزرق للبحر يدل على الحياة، ولون السماء الأزرق أيضاً.. فالسماءُ زرقاء والبحر أزرق..
في طريق عودتي إلى البيت، وجدْتُ الفقيه الودراسي قاعداً صحبة بعض الرجال، اقتربتُ منه، قَبَّلتُ يدهُ، وسألتهُ عن اللون الأزرق. بَسْمَلَ، وحَمْدَلَ، وقرأ قوله تعالى:” يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذٍ زرقاً”[1].. تساءلتُ عن علاقة اللون الأزرق بالإجرام. الفقيه قال إنه يدل عليه.
قبل حين في الفصل الدراسي، قال التلميذ إنه يدلُّ على الجنون.. الفقيه الودراسي ربطه بالإجرام، ارتبكتُ، تذكَّرْتُ كلام أمِّي وهي تحكي لجدتي، يوماً، أنها رأتْ ذات منام أنها تخلع ثوبها الأزرق.. من يومها وهي تعاني من معاملة أبي لها..
في طريقي إلى البيت، كنت أُرَدِّدُ:
” ضحكة صفراء”.. ” كذبة بيضاء”.. ” أيّامٌ سوداء”.. ” أحلامٌ وردية”. لم تكن الأحلامُ يوماً زرقاء..
لم أكنْ أغفو.. لم يستبد بي النعاسُ.. لم أقاوم.. لم أنمْ..
أَلْتَفِتُ يمنة ويسرة.. النَّاسُ ينظرون إليَّ في استغراب، عيونٌ وسط وجوه زرقاء تلاحقني.. أصواتٌ تقرع أذني، تَنِزُّ دموعٌ من عيني فأنضحها بظهر كفِّي.. أُسْرِعُ في خطوي سعياً لأبدد خوفاً ينخرني. أستعجل الزمن للفرار من نظراتٍ تلاحقني.. أهشُّ خوفاُ يبصم على قلبي.. خطواتي الصغيرة تبث خوفي في الأزقة والدروب الفاصلة بين المدرسة ومنزلنا. روائح النفايات المتخمرة تزكم أنفي.. أُحِسُّ بوجع في صدري، باختناق في تنفسي.. أقع أرضاً.
خيوط الشمس، المتسللة من خصاص النافذة، تدعوني للنهوض، وجسدي يطلب فسحة ضافية من الراحة.
أفتح عينيَّ، لا وجود لأحد بجوار سريري.. لا أحد ينظر إلي في استغراب.. أتطلَّعُ إلى وجهي المنعكس على المرآة، لا أثر للأزرق..
هو الحلم وحده كان أزرقَ..
ارتديتُ ثيابي.. تناولت وجبة الفطور، حملتُ محفظتي قصد التوجه إلى المدرسة. خرجت، الناس يمرُّونَ أمامي.. كل الوجوه زرقاء..
لم يكن الحلمُ وحده أزرقَ..
تناثرتْ كثبانُ الأماني حولي..
ابتسامة كحبل حول عنقي..
وأنا أموت في دوائر الصمت..
………………………….
* من مجموعة ” سفرٌ تحت الجلد”، مطبعة الخليج العربي ـ تطوان 2018