حلم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 61
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ميثم سلمان
لأكثر من مرة أرى نفس الحلم، مع بعض الزيادات هنا وهناك. ولهذا صرت أتذكر تفاصيله بقوة وكأنه واقعا عشته حقا. أشاهد في منامي أنني أحمل دجاجة أمي الصفراء تحت إبطي وأنا أقف وسط مجموعة من الرجال في سوق شعبي. مظهر الرجال يذكرني بمشهد من مسلسل تاريخي يتناول الخلافة العباسية. لا توجد نساء. فقط رجال يرتدون ملابس عربية قديمة بملامح صارمة، وجوه مغبرة ولحى طويلة. الرجال يسألونني بلسان عربي فصيح أسئلة كثيرة. أجيبهم وأسناني تصطك من الخوف كون الجميع كان يحمل السيوف.
– ما اسمك يا فتى؟
– أسمي عبد الزهرة.
– ما هذا الاسم الغريب! وما معناه يا أبله؟
ألوذ بالصمت كوني لا أعرف معنى اسمي بالضبط، فأمي لم تخبرني عنه كما أنني لم أفكر يوما بسؤالها. قبل أن أرد عليه بادرني رجل آخر بسؤال، “وأين لحيتك وشاربيك يا أملط؟”
– اللحية صارت مودة قديمة.
– ماذا قلت يا معتوه؟ يسألني نفس الرجل وهو يتقدم بخطوة نحوي وكأنه يريد أن يصفعني.
– من أكل سروالك ورداءك يا مجنون؟ يسأل الآخر ثم يطلق ضحكة ساخرة وكذلك يفعل بقية الرجال.
– هذا شورت وفانيلا. آني احب ألبسهن من أنام. تعرفون ان الجو كلش حار بالعراق وكهرباء ماكو.
يواصل الرجال ضحكهم. ثم يسألني: “ماهذه اللغة التي تتحدث بها يا أعجمي؟”
– هاي اللهجة العامية العراقية. وأذا تردوني احجي وياكم فصحى هم أكَدر.
– اللعنة عليك! تحدث بلسان عربي.
– نعم، نعم. سأتحدث. أنا عربي من محافظة ذي قار في العراق. أتيت إلى هذا السوق بحثا عن عثمان السمان فلي حاجة أريد إيصالها للإمام.
– أي عثمان هذا وأي إمام؟
– هذا الإمام هو الذي سيظهر في آخر الزمان لينقذ العالم من المظالم. أمي تقول إنه سيملؤها عدلا بعدما ملئت جورا.
أصمتُ قليلاً ثم أكملُ جوابي لهم، “تقول أمي إنه كان في الخامسة من عمره عندما قُتل أباه، الإمام العسكري، مسموما. بعدها كان يجب على أتباع أبيه أن يخفوا الابن خوفا من الخليفة. وبعدها اختفى عن الأنظار إلى الآن.”
صرخ الرجال متجمدين في مكانهم كسؤال أزلي: “متى الآن؟”
جاوبتهم بارتباك: “الآن. حاليا. اليوم. الثامن من شهر تموز عام 2018”
يضحك الرجال من عبارتي ويسألني أحدهم بسخرية، “وماذا تريد من إمامك هذا أن يصنع لك؟”. أرد عليه بتلعثم وأنا أدفع نحوهم الدجاجة وكأني أقدمها لهم، “ها. أممم. أريده أن يعلم هذه الدجاجة على الطيران والسباحة كي تكف أمي عن تعذيبها”.
يقهقه الرجال بصوت عال وهم يتقدمون نحوي من كل الجهات فيطبقوا عليّ تماما حتى أكاد أختنق فأفز مذعورا.
كل ما أعرفه عن هذا الإمام هو ما تلقنني إياه أمي حيث كانت تريدني أن آمن به وأقدسه. كنت أكتفي بالصمت عندما تدس في ذهني الحكايات والمعلومات عنه. أستمع إليها بلا أبالية وكأن هذا الشأن لا يعنيني. لا أظهر رفضا له ولا تأييدا، كطفل يلهو بألعابه بينما هناك بالقرب مذياع يبث نشرة الأخبار. أو كما لو كنت أستمع لشخص ما يبوح لي بعشقه لأكلة السمك المشوي ولسان حالي يقول: إنه شيء يخصك أنت وما شأني أنا بهذا. الفرق هو أنني لا أجرؤ على قول ما يدور في خلدي. حيث لا أقوى على القول لهذا الشخص مثلا: أنا أحترم تقديسك للسمك المشوي لكنني لا أجد فيه دواع للقدسية. وكذا لم أبح لأمي بانطباعاتي أو الأفكار التي تمر في ذهني. بالرغم من هذا راحت أمي ومع مرور الوقت تعتقد أنني إنسان منحرف وفاشل لكوني لا أعلن تقديسي لهذا الإمام. الحياد والسكون بنظرها لا يخلو من شك خصوصا وهي تريد مني أن أكون مثل بقية الشباب في القرية المتدينيين والمواظبين على زيارات مراقد الأئمة وإقامة مراسيم العزاءات الحسينية. تظن أن مجرد زجي في هذه البيئة أنني سآمن بما تفرضه البيئة علي من ثقافة غير آبهة بقناعاتي وأفكاري الخاصة. حيث لا يوجد في قاموس أمي معنى للمختلف.
لقد وجدت نفسي بالفطرة غير مهتم بقناعات وعقائد البيئة التي نشأت فيها. وأحيانا أجيب على أسئلة صديقي الوحيد علي عندما يسألني عن العقيدة أو الدين أو الخالق الذي آمن به، “ليش أحنة لازم نؤمن بدين؟”. حينها يلف ويدور ويتحدث كثيرا حتى يصدع رأسي لينتهي بعبارة لا أجد لها جوابا، “الدين هو الي يفرقنا عن الحيوانات”. لم أبنِ أفكاري بالتعلم من أي شخص أو القراءة فليس لي أي صديق عدا علي الذي يختلف معي دائما. كما أنني لا أطيق القراءة وهو ما جعلني أخفق بالدراسة في مرحلة الأعدادية لأتفرغ بعدها للعمل.
أحيانا أجاري علي كي لا أفقده كصديق، وأجاري أمي لخوفي من عقوبتها وحرصي على صحتها فهي بالنهاية أمي ولا أريد لها أن تتأذى بسبب فكرة في رأسي. مجرد فكرة لا تؤذي أحدا.
رغم اختلافي مع أمي إلا أنني كنت أحياناً أتمنى في قرارة نفسي أن يخرج مثل هذا الإمام لينقذ العالم ويملؤه عدلا. أو على الأقل لإنقاذ هذه الدجاجة. حيث يؤلمني حال هذه الدجاجة فهي الوحيدة من بين الدجاجات تطلب منها أمي المستحيل. أمي الستينية تريد من هذه الدجاجة أن تطير وتسبح كي تبيعها بمبلغ أكثر مما تبيع به دجاجاتها الأخرى. بيع البيض والدجاج وأحيانا البط لأبناء القرية هو المصدر الأهم لعيشنا أنا وأمي منذ كنت بالتاسعة من عمري بعد مقتل أبي قبل عقد ونصف في حادث سيارة على الخط السريع الواصل إلى بغداد، إضافة لما أحصل عليه من أجر يومي من عملي في صباغة البيوت. أما أخواتي الخمس فهن يعشن مع أزواجهن.
بدأت حكاية هذه الدجاجة عندما تشاجر أحد الزبائن مع أمي قبل مدة طويلة بخصوص سعر إحدى الدجاجات التي أراد شرائها. قال لأمي بتذمر: “هذا السعر غالي حيل. قابل هاي الدجاجة تطير، تسبح!”
صباح اليوم التالي بدأت أمي تجربتها. وضعت خمس بيضات دجاج تحت إحدى البطات التي كانت راقدة على بيضاتها. كانت غاية أمي أن تتفقس بيضات الدجاج عن كتاكيت يحملن طبيعة البط بالطيران والسباحة. ونذرت أن تذبح ديكا فداء إلى الإمام الغائب لو نجحت التجربة.
من بين البيضات الخمس تلكم تفقست بيضة واحدة وخرج الكتكوت مرافقا فروخ البط، أخواته بالتفقيس، يمشي خلف البطة الأم باتجاه البركة المجاورة لبيتنا. لكن أمي صدمت لمشاهدتها عدم تمكن الكتكوت من السباحة. خاضت البطيطات في الماء وتسمر الكتكوت على الجرف. دفعته أمي بيدها نحو البركة لكنه جاهد لئلا يغرق ورجع بشق الأنفس إلى اليابسة.
جعلت أمي الكتكوت يترعرع في كنف البطة. تحجزه مع البطيطات وتطعمهن مع بعض. في كل مرة تخرج فيها فراخ البط للسباحة يلحقهن الكتكوت لكنه يقف عاجزا عن السباحة. وأمي تدفعه نحو البركة وهي تتمتم بحسرة، “لا تفشلني يا صاحب الزمان”.
كبر الكتكوت وصار دجاجة لها جناحان كبيران وريش بني اللون ناعم الملمس وجميل. يئست أمي من تعليم الدجاجة على السباحة لكنها ظلت تواضب على قذف الدجاجة للأعلى في محاولة تعليمها على الطيران. ورغم أن الدجاجة بذلت جهدا كبيرا بتحريك أجنحتها كي تبقى أطول فترة في الهواء لكنها فشلت بالإستمرار بالطيران لتهبط مضطرة إلى الأرض الترابية للباحة الخلفية لبيتنا. أراقب هذا المشهد اليومي بوجل قبل ذهابي إلى العمل ولم أتمكن من البوح بأي كلمة لأن أمي صارمة وعنيدة ولو تدخلت حينها وتفوهت بما يزعجها في تلك اللحظات الجهنمية لتلقيت تعنيفا قاسيا منها.
في كل مرة يراودني حلمي المتكرر تحدث فيه إضافات مع الاحتفاظ بنفس البداية. فبعد أن يحاصرني الرجال يحاول أحدهم أن يسحب الدجاجة مني. أقاومه فيسل الرجال سيوفهم بحركة واحدة محدثة جلبة مخيفة لأفز من نومي. في الحلم اللاحق وبعد أن يسل الرجال سيوفهم أواجههم بالدجاجة التي صارت تبث ناراً من منقارها وكأنها تنين مما يجعل جميع الرجال يتراجعون خوفا. حينها أهددهم في حالة عدم تعاونهم معي سأجعل الدجاجة تحولهم إلى رماد. ولكي أستغل هذه اللحظات سألتهم من موقع القوة عن مكان بيت عثمان السمان. تلعثم أحدهم وهو يقول: “صدقني يا فتى إنك سوف لا تحصل على أي شيء من هذه المهمة وسوف لا… “. أصرخ بوجهه وأنا أضع الدجاجة بين يدّي مقرباً أياها من وجهه وكأنني أصوب فوهة بندقية نحو رأسه: “هذا ليس شأنك. فقط دلني على بيته”.
أحزن كثيرا كلما شاهدت أمي ترمي الدجاجة عاليا فتسقط مرتطمة بالأرض لفشلها بالطيران. وعندما أقول لأمي بكل هدوء وأحترام: “يمة، ترة الدجاج ما يسبح ولا يطير”. ترد عليَّ وهي تثبت سبابتها على فمها وتحدجني بعينين يتطافر منهما الشرر: “أشش. ولا كلمة. لا تصير مطي. أنت شنو أمعرفك. أبو صالح ماراح يفشلني انشالله.”
صار الحلم يتكرر بطريقة متسلسلة بمعنى أنه يبدأ من حيث أنتهى في المرة السابقة وفي فترات متباعدة. لا أعرف كم المدة التي أستمر هذا الحلم يروادني قبل أن يتحول إلى كابوس كريه. لم أرغب بالبوح لأمي عن قصة هذا الحلم فهي قد تفسره بإنه تشكيك أو سخرية من إمامها المقدس وهذا بالنسبة لها من أكبر الكبائر يضاهي نكران وجود الخالق. أتوقع أن أمي لو عرفت فإنها ستضربني بقسوة وهي تصرخ: “أنت شنو حتى تجي تستهزأ بعقيدتنا. اليوم أكسر عظامك وأنعل اليوم الي جبتك بيه يا جلب”. وبالتأكيد أنها ستطردني من البيت.
طوال كل لحظات سلسلة الأحلام كانت الدجاجة بين يدي أصوب منقارها نحو الرجال وكأنني أسدد بندقية نحوهم. لكن آخر مرة حلمت فيها وبعد أن قلت لهم تاريخ اليوم لمحت عيني الدجاجة مغمضة مما شجع الرجال على الهجوم عليَّ بسيوفهم. صوبت الدجاجة نحوهم وأنا أضغط عليها بأصابعي في أماكن مختلفة من جسدها وكأنني أبحث عن زر إطلاق النار. كل ماكانت تفعله الدجاجة المسكينة هو القوقأة بصوت عال: “ق ق ق قيق قيق. ق ق ق قيق قيق…” ثم يجهز عليَّ الرجال جميعاً ليضربونني ضربة رجل واحد فأستيقظ مذعورا من هذا الكابوس المرعب.
بعدها بعدة أيام ماتت الدجاجة ولم يتحقق حلم أمي بأن تراها تطير وتسبح. حزنت أمي كثيرا كأنها طعنت طعنة ماضية في وجدانها. لكنها أعادت الكرة مرة ثانية مع دجاجة أخرى.

مقالات من نفس القسم