سعيد نصر
قرأت هذه الرواية القصيرة، التي لا تزيد عن تسعين صفحة، ثلاث مرات متتالية، وبعد القراءة الثالثة، وجدتها رواية الأيقونات الخمس فى الدوائر الخمس، حيث 5 خلجات و5 محطات و5 إخوة صغار، و5 شخصيات، و5 مدلولات قيمية، تفاعلت مع بعضها البعض، كأنها أدوات رسام ماهر لترسم لنا لوحة معبرة للغاية عن معاناة فقراء مصر مع البؤس الإنسانى والظلم الاجتماعى، خاصة الشباب الجامعى القارىء والمثقف الواعى،خلال حقبة التسعينيات من القرن الماضى،وهى المعاناة التى لايخلو المجتمع المصرى عن مثيلتها الآن، وهو ما يتجسد فى قول الكاتب:
“ما أقسى المعرفة إذا كان البؤس خليلها.أنا الذى أكلتْ القراءة عينى،وأحببت وطنى كما أحبه كل المخلصين، لم يشفع لى أى حب ولا أى وعى فى زمن الإنفتاح”.
فالرواية تدور أحداثها وشخصياتها المؤثرة حول 5 قطع من الملابس ( حذاء وقميص وبنطلون وبلوفر وجورب)، هى ملابس يوسف شمردل، و5 شخصيات أربعة منهم من خارج المحيط الأسرى ليوسف شمردل ، منهم من له علاقة بفقره أو يذكره به، ومنهم من له علاقة بسرقة خلجاته أو يذكره بها ، وهذه الشخصيات، هى: (سعيد، ومدرس الرياضيات، وعمه، وسالم، وبهية)، و 5 إخوة صغار ليوسف يضطرونه للكدح فى حقول الغلابة لمساعدة أبيه على إعالتهم، و5 محطات أساسية له، هى: (المرض فى الكتيبة، والعودة للبيت، ومستشفى الحميات، والمستشفى الأميرى، والعودة للكتيبة)،و 5 مدلولات قيمية هى (الفقر والحرمان والتسامح والعدل والحرية).
وقد يكون التماثل العددى بين الخلجات الخمس وأخوات يوسف شمردل الخمس، جاء بالصدفة، وقد يكون العكس، حيث يقول “شمردل”: ” اصطحبونى إلى دارنا. ثلاث طرقات، وانفتح ذراعا أبى، واحتوانى صدر أمى الحنون،واندفعت عشرة أرجل لخمسة عيال صغار، هم اخوتى، من جوف الغرف الضيقة”، وبصرف النظر عن المصادفة والعمد،فإن هذا التماثل يضفى على الخلجات الخمس” الحذاء والبنطلون والقميص والبلوفر والجورب” طابع نفسى وروحانى، ويجعلهم كما لو كانوا بالفعل يمثلون روح “شمردل” أو حواسه الخمس،وهو ما يدفعنى دون أى تردد إلى إعتبار هذه “الخلجات الخمس” البطل الرئيسى والحقيقى للرواية، لكونها ومن خلال مدلولاتها تضع القارىء أمام مرآة يرى فيها كل تفاصيل معالم مصر الاقتصادية والاجتماعية القاسية على الفقراء من شبابها الجامعى المثقف فى حقبة التسعينيات، حيث يقول يوسف شمردل: “طاقم واحد للخروج، بنطلون وقميص وبلوفر وحذاء وجورب. كل قطعة من هذه تشهد على أيام مضت بحلوها ومرها، وخلفت وراءها سجلا حافلا بذكريات لا تنسى”.
فالملابس الخمس هى محور ارتكاز الرواية وهى مركز الدائرة التى تدور حولها كل الأحداث، حيث يمثل حادث سرقتها على أيدى ممرضة تدعى عطيات بالمستشفى الأميرى بالمنيا هاجسا مخيفا لشمردل، يتمثل فى احتمال عودته عاريا من كتيبته بعد تسليم ملابسه الميرى، وهى لمحة رمزية عبقرية من الكاتب تعكس قلقه الشديد بسبب مستقبله الغامض فى مجتمع تحكمه الرشوة والمحسوبية فى تعيين الخريجين،و تدور حول هذا الاحتمال المرعب كل الأيقونات الخمس والدوائر الخمس المشار إليها، والتى من خلال الأحداث والحكايات الخاصة بها، ينجح الكاتب فى تعرية أمور اجتماعية واقتصادية وسياسية عديدة، منها ، نظرة الأغنياء لتعليم أبناء الفقراء، حيث يعترض العمدة على تعليم أبناء الفقراء فى قريته، لأنه سيؤثر بالسلب على قيامهم بتسبيخ أراضى الأغنياء، ومنها وجود رجال أعمال طفيلين و سياسيين واقتصاديين ومفكرين يتاجرون بالوطن ويتلاعبون به، ومنها كذلك فتح قناة السويس لمرور القوات والمعدات الأمريكية لضرب العراق، حيث يقول “يوسف شمردل” :”الطريق المؤدى إلى الضفة الأولى من القناة، التى دفنوا جدك حيا تحت ترابها، يترنح بين ضربات المعاول والفؤوس التى شقت الحياة فى الموت، وفتحت طريقا يعبر فيه الأمريكان إلى الخليج. الطريق المنتهى عند الضفة الثانية من القناة، التى صنعت من دماء ابن عمك التى سالت فى حرب الاستنزاف خمرا فى كؤوس اللصوص الجدد، الذين تاجروا بالوطن. يشربون ويبصقون علينا”.
وتحكى الرواية قصة حياة خريج جامعى يعشق الكتب ويهتم بالشأن العام، ويحب الخير ،ومتفوق فى دراسته، ولديه عزة نفس ، ولايهتم بتفاهات أبناء الأثرياء ، ولكنه ينتمى لأسرة تعانى من الفقر المدقع ، فجده مات من البرد حسبما قال له أباه، ويرى فى الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين مثلا أعلى له، حيث فتح صفحة مقالته بالأهرام فوجدها بيضاء لتعلن يوم وفاته ، وهو ما يعكس شخصيته النبيلة المحبة للعطاء والخير، ويؤدى خدمته الإلزامية فى كتيبة بالسويس، يعلم ويدرك من خلالها أن القوات المسلحة مصنع لإعداد الرجال، من خلال رمزية الصرامة والرأفة فى شخصية الصول حسن الجلاد، وفيها يمرض بمغص معوى شديد، ويحصل على إجازة بموافقة قائد الكتيبة، يعود بموجبها إلى بيته، ليكشف عليه طبيب فيحوله إلى مستشفى حميات المنيا ، فتحوله بدورها إلى المستشفى الأميرى بالمنيا، وهناك يخضع لعملية جراحية ويودع على سرير فى عنبر 11 ، وأثناء العملية تسرق عطيات الممرضة ملابسه المدنية، وسرعان ما يدرك أنها ضاعت بلا رجعة، وذلك عندما رحل ابنها الطفل ” سعيد”، والذى كان يعتبره “شمردل” كل أهله، لتبدأ سيمونية روائية سردية وصفية على واقع ذكرياتها معه ، حيث يقول:”طفرت عينايّ بدموع حارقة، لفراق سعيد. وقد كنت على حق فى هذا البكاء الصامت المر، فمنذ تلك اللحظة، لم أر صديقى الصغير. ذهب،وأخذ معه حكايات أمه مع ملابس المرضى، وبرحيله رحل دليلى الوحيد على أن لى ملابس فى هذا المكان الغارق فى البؤس”.
ويظهر لقارىء الرواية أن قطع الملابس الخمس تدور فى حلقة حلزونية مع الشخصيات الخمس، وهو ما يعكس براعة السرد الرواى للكاتب، فالحذاء الذى رافقه فى عامه الجامعى الأخير، وأشفقت عليه من كان يحبها بسببه ، دون أن يدرى، وأخذه معه للمستشفى ليعود به بعد تسليم ملابسه الميرى، له علاقة عاطفية ممتدة بأول حذاء ارتداه جلبته له قريبة له من ابن رجل غنى تعمل خادمة فى بيته بالمدينة ، وذلك عقب تعرضه لعلقة وجع ساخنة على قدمية الحافيتين من مدرس التربية الرياضية، حيث يقول”شمردل”: “مرة واحدة قلتها، ورحت فى نحيب وعويل، يوم أخرجنى مدرس التربية الرياضية من طابور المدرسة، ونادى العامل، وطلب منه أن يقبض على قدميّ الحافيتين، وأخذ يمطرهما وجعا من عصاه الرفيعة اللبلابة، وصرخ فى وجهى: إياك أن تأتى للمدرسة حافيا.”
وتتبدى العلاقة العاطفية بين الحذاء وصاحبه والعاكسة لواقعه الاجتماعى المذرى، فى مشاهد وصفية عديدة منها الكاتب :” فرحتى اليوم بنجاح العملية الجراحية لم تبدد أبدا حزنى الشديد على حذائى المسكين. نعم مسكين! فكم جاهد معى ضد برد شوارع المدينة فى الشتاء القارس، وضد لهيبها فى قيظ الصيف، دون أن يشكو، أو يتمرد على حالى المتواضع”.، وقوله أيضا ، عندما أدرك واستوعب سبب حملقة الفتاة التى يحبها فى حذائه بشدة لحظة كشفه عن حبه لها:” لقد أدرك حذائى، ما لم أكن أحيط به علما، وها أنا أحبه لأنه انتشلنى من الغرق فى موقف بائس تعيس، لكنه الآن أحزننى، حين اختفى. ترى .. أين هو الآن؟”
وللبنطال علاقة وطيدة مع شخصية مهمة، وهى شخصية “العم” ، فهى تعكس ابن البلد الأصيل و”الراجل الجدع”، الذى يقف مع أخيه فى محنته،حيث ذهب له “شمردل” برسالة من أبيه فلباها وأكد لابن أخيه أنه سيشترى لهم قطعة الأرض الزراعية،التى يعيشون منها، وأحضر بنطال جديد ، كان قد اشتراه لأحد أبنائه، وأعطاه لابن أخيه ليرتديه بدلا من بنطاله القديم بعد أن لوثته “الملوخية”،حيث يقول الكاتب على لسان شمردل عن البنطال: “حين تركت بيتهم فى الصباح وقفلت عائدا، لمحت مثله فى واجهات العرض بالمحلات. كان غالى الثمن، متينا. وقلت فرصة ليعمر معى زمنا حتى تسمح لى الأيام بشراء بنطلون جديد، فالسنة الدراسية على الأبواب، والستر مطلوب. لكن عاملة المستشفى وأدت هذه الرغبة، واستباحت حلمى البسيط، وخطفته من خارج غرفة العمليات، ومضت به إلى أين ؟ .. لا أدرى.”
وبعيدا عن الحذاء والبنطال، فإن القميص يظهر بوضوح علاقة التداخل بين الخلجات الخمس والأخوة الخمس، ويكشف العبء الشديد الذى يتحمله شمردل لإعاشة اخوته ، بوصفه العكاز الأيمن لأبيه الطاعن فى السن، حيث اشتراه خلال رحلة عمل فى إجازة نصف العام سافر خلالها مع صديقه خالد لمطروح ، وأصيب برصاصة أقعدته فترة عن العمل، تعافى بعدها، فاشتغل عامل تراحيل، من أمام مسجد الشيخ مستور، وأجهد نفسه فى حمل الطوب ليل نهار، حتى اشترى كسوة إخوته الخمس،وبينها كوتشى لأخيه الصغير، واشترى القميص بما تبقى معه من مال، حيث يقول الكاتب:” ما تبقى لم يكن كافيا سوى لشراء قميص لى، وتذكرة العودة. قميص كان أزرق كالبحر الذي أحببته، به خطوط صفراء بلون الرمل الذى كثيرا ما رسمت عليه بعض أحلامى. كان ناعما، ما إن يشم النسيم حتى يشرع جنبيه لريح الشجر ويطير. يهفهف تماما مثل شعر سعيد ابن عاملة النظافة، التي أخذت قميصى، وأغلقت غرفة العمليات، ومضت صامتة.”، ويقول عنه الكاتب فى موضع آخر:” وقال لى الشيخ الراقد جوارى إننى تحدثت عن القميص كثيرا. كان يتكلم وفى عينيه ابتسامة مملوءة بتساؤلات كثيرة عن سر تعلقى بملابسى، خاصة هذا القميص. أنصت إليه، وحملقت فيه، فارتسم على صفحات وجهه المملوء بالتجاعيد عذابى ومكابدتى عند مسجد، يشهد على أجساد عشرات المنهكين اللاهثين وراء كسرة خبز .. وقميص.”
ويكتب” البلوفر” بحبر الكدح والتعب مع ضرب الفأس فى حقول الفقراء ، شهادة الخالة بهية، وهى سيدة فقيرة كادحة، على معاناة الكاتب من أجل الحصول عليه، حيث يقول:”وضربة بضربة انتهيت أنا من شغل أرضها وانتهت هى من صنعه.”،وعندما لم تستطع بيعه فى مدينة المنيا لوجود بعض العيوب فيه، اشتراه شمردل منها مقابل عمله فى حقلها، وأعطاها فوق ذلك ، أجرة يومية كان قد أخذها من صاحب حقل أخر، وتكشف حاكيته مدى نبل شخصية يوسف شمردل، وعلاقة البلوفر بآلامه وأوجاعه مع المطالب الحياتية لاخواته الخمس الصغار، من خلال تعاطفه الحسى و البصرى الشديد مع أبناء جارته الفقيرة، حيث يقول:” وكنت متيقنا من أنه يستمد جمـاله من جمال وجـوه أولاد الخالة بهية، ومن صدق الأصابع التى صنعته. كلما ارتديته فى الصباحات الباردة تتراءى لى الأرض الخضراء البراح، ولمعان الفؤوس فى صهد الظهيرة، والظهور المنحنية فى كدح تحت وقدة الشمس.”
ويظهر الكاتب علاقة الارتباط بين شمردل والبلوفر ، كأنها علاقة الجسد بالروح، خاصة أن جده مات من الصقيع، ولو كان معه مثل هذا البلوفر لكان قد وقى نفسه شر البرد الشديد ، ويعبر الكاتب عن ذلك بلغة واقعية رائعة، حيث يقول:” لم يكن لديّ غيره، فاشتهرت به واشتهر بى. أحببته لأنه وهبنى الدفء، وأحبنى لأننى كنت أعتنى به. ألبسه فى هدوء حتى لا أشد وبره. ولمّا راح الربيع يولد من رحم الشتاء طويته فى حرص، ووضعته فى كيس بلاستيكى سميك، ووضعت الكيس فى قعر الحقيبة الجلدية. ظل بها مستريحا حتى عاد الشتاء من جديد.”
ويكشف الكاتب من خلال الجورب النقاب عن المعدن الطيب ليوسف شمردل ،ويكشف أيضا عن العلاقة الروحية والنفسانية بين الجورب وشمردل من خلال التشابه بينه وبين جورب جده قبل موته من الصقيع والبرد، حيث يقول عنه: ” جورب أزرق فاتح كلون عروقى التى مزقتها مشارط الأطباء فى غرفة العمليات. لم يكن عاديا كالأسلاف، بل كان متميزا كجورب جدى.” ، ويحكى أنه اشتراه من رجل فقير “بائع سريح” يدعى سالم، مقابل نصف وجبة غداء وكوب شاى، وذلك بعد أن تعاطف معه بعد أن حكى له أن زوجته ماتت، وهى تلد ابنه الوحيد العليل الذى أنفق على مرضه ثمن فدان ملك، دون جدوى، وسرعان ما تبين لشمردل أن “سالم” لا أهل ولا مأوى له، فاستضافه فى بيته بالقرية، وفيه مات فى نفس اليوم بعد أن تمتم باسم ابنه ثلاث مرات، فدفنه شمردل فى مقابر عائلته، وتتضح ملامح العلاقة العاطفية بين شمردل والجورب من خلال الذكريات الجميلة له مع العم سالم، فى قول الكاتب:” بعد موته بثلاثة أسابيع، لمحت الجورب فى يد أخى الصغير يعبث به، وتذكرت أنه أعطاه لى فور خروجنا من المقهى، فدسسته فى كيس بلاستكى، واستقر فى قعره كل هذه المدة. فى أول يوم ارتديته فيه شعرت كأن عم سالم يتوكأ على، ويهمس فى أذنى بحكايته المريرة، التى لا تعلم أم سعيد التى سرقت ملابسى عنها شيئا.”
ويغلب على السرد الروائى فى “حكاية شمردل” الطابع الواقعى، ولكنه لم يخلو فى الوقت نفسه من طابع الواقعية السحرية، ويظهر ذلك فى مشاهد عدة، ويصب فى ذات خانة الأيقونات الخمس”الملابس المسروقة، منها ، مشهد رؤيته لملابسه وهى على جسد ابن الممرضة فى المستقبل ،حيث تخيلها الكاتب تنتقل لـ”سعيد”ليرتديها عندما يصبح شابا ، من خلال ارتداء الطفل لملابسه القديمة التى سرقتها أمه ، بعد عشرين عاما، وهى صورة متشائمة للغاية، وتوحى بأن متلازمة الظلم والقهر ستستمر فى مصر المستقبل ، أى مصر بعد عشرين عاما من حرب تحرير الكويت، وتبدو هنا عبقرية الكاتب، حيث شهدت مصر بالفعل بعد عشرين عاما ثورة 25 يناير ، ومنها أيضا ،بحسب دراسة فنية تحليلية بعنوان الواقعية السحرية فى روايات عمار على حسن للباحث عيد خليفه، تخيل الكاتب للفقر بسبب حزنه الشديد على ملابسه، مشهد تخيله للفقر كالوحش الكاسر، وذلك بقوله عنه “رجلاً عارياً مخيفاً ، له أظفار حادة طويلة ، وأنياب سوداء بارزة ، وعيناه جاحظتان ، يمسك فى يده سيفاً مصقولاً ، يضرب به أعناق الغلابة “، وذلك قبل أن يراه مرة أخرى ضعيفا ، حيث يقول الكاتب ” بل الفقر ضعف وليس قوة ، إنه رجل مسكين كسيح ملقى هناك بين كثبان الرمال يتضور جوعاً ، يمد يداً مشلولة إلى العابرين فيبصقون عليها ، يزحف بركبتيه بصوت يائس مخنوق ، لكن لا يجيبه أحد . يحفر بعضديه الرمال السافية ( ) ، ثم يرمى جسده فى قبره العارى ويحتضر ، لكنه لا يموت أبداً.”
ويتضح من أسماء الشخصيات الأخرى ومدلولالتها،أن الكاتب اختارها بدقة متناهية، لتصب فى الهدف العام للرواية، والمتمثل فى معين الطيبة والخير الفطرى فى أهل أبناء طيبة صعيد مصر،على الرغم من حالة الفقر التى يعيشونها،فماهر شخصية خيرة وزميل مخلص ليوسف شمردل يصطحبه للنقطة الطبية، ويجمع له نبات العاقول من الصحراء ، لكى يتداوى به، وأحمد أبوالنور شخصية خدومة هى الأخرى حملت عن يوسف شمردل فى مرضه حقيبته الثقيلة، وعرض عليه فى محطة سكة حديد المنيا أن يصطحبه حتى بيته،ولكن شمردل رفض ذلك، وخالد شخصية كادحة ومكابدة لمساعدة أهله فى الإنفاق عليه، وهى شخصية متلازمة فى الفقر والكفاح مع يوسف شمردل، وصابر شخصية لها فى اسمها نصيب كبير، حيث لا أهل ولاسكن، وحسن الجلاد اسم متناسب مع الشخصية العسكرية التى تجمع بين الشدة.
وتتجلى الشخصية النقية الوطنية ليوسف شمردل من خلال ومضتين، أولها سماعه لأم كلثوم فى أغنية تعبر عن حب مصر، وثانيها تتضمنتها خاتمة الرواية ، وتتمثل فى مسامحته لأم سعيد ،فى لحظة توهانه على وقع صدا مستقبله الغامض، على سرقة ملابسة، على الرغم من أنها تساوى عنده حياته ، بل حياة العالم كله، حيث يقول يوسف شمردل: “ربما تلمح ابنها بعد سنوات يرتدى بعض ملابسك. لا تغضب منها، أو منه. فغدا سيذهب هو إلى هناك، حيث الصحراء المدججة بالآدميين المتعبين. ربما يحل فى المكان نفسه الذى شهد انكسارك. يمشى على هذه المدقات ذاتها التي تمشي عليها أنت الآن، ويتدثر بهذا الليل الذى يستر عورتك. الليل الذى انتظرك وانتظرته ليطوى بعضا من وجعك.”
هذا ويغلب المضمون الاجتماعى على الرواية، حيث تبدو المضامنين الاقتصادية والسياسية قليلة، ولكنها تكشف نزعته إلى العدل والحرية، وإن كانت تأتى فى شكل ومضات عابرة، كإشاراته إلى الطفيلين الذين يتاجرون بالوطن، وحديثه العابر عن حرب الخليج الأولى وموقف مصر منها، ومشهد مرور القوات الأمريكية لضرب العراق، وحديثه عن المستبدين فى إشارة إلى صدام حسين ، وكل الذين على شاكلته من الحكام العرب وتسببهم فى تدمير دولهم وشعوبهم،وحواره مع عمه حول الظلم الاجتماعى، بشكل يتضمن ما يمكن تسميته ثورة ناعمة ضد القهر الاجتماعى والمتسببين فيه، وكذلك حديثه التخيلى حول مستقبل “سعيد”، حيث يقول الكاتب، ” وفى اليوم الأخير له ربما يكون أكثر شجاعة منك، فيخلع ملابسه تماما، ويجرى فى قلب (…….) صارخا: “لنعد كما كنا قبل الظلم، وكما سنحشر يوم الدين.”