أول شيء فكر فيه هو هذا القطار نفسه، القطار الوحيد في المدينة، والذي يكرهه تماماً، فهو صغير، يعود لبدايات قرن مضي، ويذكره ــ كلما رآه من نافذته ــ بنعش أصفر. كل سائقي هذا القطار كانوا أصدقائه بشكل ما. كلهم ينتحرون بعد فترة قصيرة من العمل، ويتركون الآلة المعدنية البدائية تترنح وحدها للحظات، قبل أن تتوقف عجلاتها فجأة.. قبالة شباك غرفة نومه، وحيث يكون دائماً قد استيقظ قبلها بدقائق.
فكر أنه بحاجة لسيجارة، فتحسس جيب جلبابه، حيث ترك علبة سجائره آخر مرة قبل سنوات، منذ نام آخر مرة. بعدها ثبت طاقم أسنانه، فقد كان يطمئن فور استيقاظه عليه، ويثبته بسرعة بينما تعود له الحياة أخيراً، كأنه كان نائماً بدون فمه. لا يستطيع التدخين بدونه، رغم أنه لم يكن يحتاجه لمثل هذه المهمة.
كان قد بدأ يغيب في اليقظة، عندما استدار فجأة، مرعوبا، على كف أليفة وهشة، واحتاج وقتاً ــ كما يحدث في كل مرة ــ كي يتعرف على وجه المرأة التي شاركته حياته. لمح في عينيها الدموع المتفق عليها التي كانت تواجهه بها بعد كل مرة يعود فيها سالماً من نومه. بعدها تركته واستدارت لشئون البيت، عائدة للا مبالاتها التي تعود عليها.
زوجته لم تكن تعبأ بوجوده، ليس لأنها تكرهه، بل لأنها أكثر شيخوخة منه.. لكنها على العكس منه تماماً، كانت بلا أحلام على الإطلاق. لم تر طيلة حياتها صورة واحدة في منام، ولم يؤرقها ذلك أبداً.
عندما اخترق القطار منامه، كان غارقاً. انتشلته الأيادي بالكاد من قاع البحر وبدأت الهمهمات تدور حول طريقة دفنه.. واستيقظ الرجل وهو لا يعرف أين مقبرته في تلك المدينة الساحلية.
ظل متحيراً، يفكر في أنها المرة الأولى التي يوقظه فيها صفير هذا القطار. يفكر في جثمانه الذي في تلك المدينة الساحلية البعيدة، لا يعرف كيف دفن ولا أين.
وصله صوتها المتسائل من الصالة بحياديته الأليفة: كيف مت هذه المرة؟
كانت تسأله كلما استيقظ عن طريقة موته، غير عابئة بطريقة حياته.
لم يجبها، وزاد شعوره بالغيظ والخجل. ولكنه ارتاح قليلاً عندما مرت دقائق دون أن تكرر السؤال، رغم أنها ــ منذ تزوجها ــ لم تكرر عليه سؤالاً أو ملحوظة.
لم تكن زوجته مجبرة أن تصدق أنه كان يحلم بمدن كثيرة، كانت تتعامل مع الأمر كقدر لا يحتاج للتفكير به أصلاً.هو أيضاً لم يكن مضطراً ليصدق، ذلك أنه لم يكن يحتاج للتصديق.. فكلما حلم بمدينة كان يستيقظ ليكتشف أنه يعيش فيها. يستيقظ في سريره نفسه، في غرفته ذاتها، لكن في مدينة أخري. يعرف ذلك عندما يمد رأسه خارج الشبابيك، ويكتشف أنه يطل على جغرافيا لم يتنسم هواءها من قبل. فيخرج مغادراً الشقة الشبحية وظل زوجته الى مدينة جديدة.. يواجه هواءها كأنه يولد.
يتجول في المدن التي يحلم بها، يبحث عن مهن صغيرة ليأكل، رغم شيخوخته، ثم يموت. يستغرق ذلك أوقاتاً متراوحة، قد تكون أياماً أو شهوراً أو سنوات.. بينما جسده ــ في نفس اللحظة ــ مسجي في سريره. كانت زوجته تضطر لإطعامه وهو نائم كي لا يموت في سنوات أحلامه.. وتضع له السجائر في فمه، تشعلها له وتراقبه وهو يلتهمها بنهم، كأن الدخان يشحذ صور مناماته. لم يكن طعامه هنا يعني شيئا لجوعه هناك..مثلما لم تكن حياته هنا تتعارض وموته هناك. لكنه أدرك منذ سنوات طويلة، أن واقعه الفعلى صار في كل الأماكن خارج هذا البيت.. وأنه لو كان ثمة حلم في حياته، فهو مدينته وبيته وزوجته، وقطار البضائع.
مات في كل المدن التي عاش فيها، ودفن. واجه ميتات مختلفة، في حوادث طرق، مطعوناً، في مشاجرات، حانات، بسكتات قلبية ودماغية، في مساجد وكنائس.. ومات أيضاً الميتات العادية التي يموتها الناس على أسرتهم، له في كل مدينة شاهد قبر، وتلاوات تطلب الرحمة لروحه ولو بطريق الخطأ. صار تراباً منثوراً في أنحاء الدنيا، ذكري في كل الأرجاء، رغم أنه لا يزال حياً، هنا، في تلك المدينة بالذات. داخل بيت ما.. بيت واحد، بغرف محددة لا تتغير، له امرأة بعينها. رجل مثل أي رجل، يحيا في مكان واحد، حتى لوتفرعت من هذا المكان أماكن أخري: بيت، غرف، مقاهي، وشوارع غير منتهية. رجل كأي رجل يحيا في مدينة، لا يشترط أن تكون مثل أي مدينة، غير أنها تبقي مدينة واحدة، ولها ميزة لا يمكن أن يشاركها فيها مكان آخر، إنها مدينته. رغم ذلك، هو رجل يحلم في كل مرة بمدينة، يؤسس فيها بيتاً في منامه، وتكون له فيها مقبرة عندما يستيقظ.. غير أنه هنا لم يمت أبداً. ظل رجلاً عجوزاً بحياة مضاعفة، تؤكدها ميتاته التي صار يعرفها كلها.
ولأنه جرب الموت في أماكن كثيرة، لم يعد يخشاه، بل تمناه في وطنه، لأنه شعر بالخجل من أن يموت في كل البقاع ماعدا سريره. لقد ظل الموت دائماً بعيداً عنه، وكان الرجل ـ على العكس من جميع البشر ـ ينتظرمجيئه، ليس بخوف أو رهبة.. لكن بتصالحٍ عذب، وبأمنية أكيدة أن يتذكره قبل أن يتحول لكومة عظام حقيقية داخل جلبابه.
إنه عجوز لدرجة أن ذكرياته نفسها شاخت وماتت في العمر الذي تموت فيه أشد الذكريات قدماً.الذكريات التي كالبشر. الذكريات التي تموت بالضرورة، حتى قبل موت أصحابها. تموت في حوادث عارضة، في الطفولة والشباب والكهولة، تقتل أحياناً وتنز منها دماء لا نراها. بعضها يدفن وبعضها يترك في الطرق. فقط عندما تكتب الذكريات تعيش، بالضبط كما يحدث للبشر. ذكريات هذا الرجل لم تكتب أولا بأول، وعندما تكتب ــ إن حدث ذلك ــ ستحرف، ولن تعود أبداً على علاقة بذلك الذي حدث بالفعل.عليه ألا يقنط، وعلينا جميعاً. لا ذكري تشبه الواقعة. كان يقنع نفسه كلما فشل في تذكر شيء بأن الذكري خيال شاحب لواقع لم يحدث.
ربما لذلك، كان يتذكر أشياء قليلة، تؤكد له ــ فقط، وبيقين مضاعف ــ أنه لم يعد يملك ما يتذكره.. وتخبره في كل مرة أنه شخص نسي كل شيء تقريباً، فيما عدا ميتاته.. من هذه الذكريات مدينة حوائط لا نهائية، مات فيها مبكراً جداً، غير أنه ظل غير قادر على محو ذكراها. مدينة لا تعرفها الخرائط التي كان يعود إليها بعد كل يقظة ليعرف على وجه الدقة أين عاش ومات آخر مرة.
حدث عنها زوجته كثيراً.. كانت ــ كما كان يقول مأخوذاً ــ أقرب لغرفة، شاسعة.أينما سار الشخص فيها يصطدم بالحوائط، الحوائط التي يمكن للواحد أن يجدها في أي بيت وليس في مدينة. عليها صور السكان في براويزها، صور الشهداء والموتى المترعة بشرائط الحداد السوداء المائلة، آيات قرآنية، وصور قديسين، ولوحات زيتية، بألوان الطلاء الكثيرة، بل ومفاتيح كهرباء محفورة. ليس سوي ملايين الحوائط التي يمتلكها الجميع بالتساوي. بالمقابل، تخلو البيوت من أي ذكرى معلقة. بل إن حوائطها ليست سوي جدران جرداء، وعملية، من تلك التي تألفها في المدن. يمكن لأي عابر أن يفتح باب أي بيت، ويعطي ظهره لأفراد الأسرة، ويدفق بوله الساخن أسفل الجدار. داخل البيوت توضع الملصقات الإعلانية، والأوراق الانتخابية، وتحضر الكتابات المرتجلة للعابرين، وأفيشات الأفلام. إذا أردت أن تعرف أخبار المدينة فادخل البيوت.. وإن أردت بيوتها، فليس عليك سوي أن تتجول.. لتري العاديين على الحوائط.في كل بيت فيها غرفة تستخدم كمقبرة، وقد دفن في واحدة من تلك الغرف، محصناً بالجدران، ثم محصناً بالحوائط في الخارج، وهي الميتة التي كانت الأكثر مثالية له حتى الآن.
مدينته تتغير. هكذا فكر الآن وهو يتأمل صفوف بيوت نبتت مكان أعواد البوص خلف شريط القطار، وبامتداد البصر، في أفق الغيطان الخضراء التي كانت تطوق المدينة. كان يقول ذلك لنفسه كل مرة يطل فيها من شباكه. في الماضي كان الأطفال يدحرجون كرات زجاجية ملونة متناهية الصغر على التراب، ثم جاءت ترابيزة خضراء بمضارب وكرة بيضاء يديرها شاب بالقرب من شباكه. كثيراً ما كانت الكرة الفللينية ذات الرائحة النفاذة تتسلل من شباكه ويتحسسها بوجل في نومه كأنها بيضة سحرية، ويظل قابضاً عليها الى أن يستيقظ، ولا تعرف زوجته ماذا تقول لأصحابها، فتضطر لتوبيخهم، قبل أن تمنحهم ثمنها. الآن تستقر ترابيزة أخري، خضراء أيضاً، بعصي طويلة وكرات لا تحصي. يري تلك الأشياء في لحظات يقظته النادرة، والتي كانت تتحقق على فترات متباعدة جداً، حتى أن أغلب أبنائه ماتوا دون أن يعرف.
أبناؤه الثمانية، أنجب خمسة منهم وهو نائم، بإصرار من زوجته التي كانت تمارس الحب بجسده النائم. نفس الخمسة ماتوا وهو نائم، ولا يذكر أنه ذرف دمعة على واحد منهم.. فقد تعامل معهم دائما كما لو كانوا أخطاء تسببت فيها مضاجعات محرمة. الثلاثة الآخرون ماتوا وهو مستيقظ.. وبكي عليهم كثيراً، فقط لأنه لم يرهم سوى مرات معدودة في حيواتهم الممتدة.
بمجرد استيقاظه، كان يسأل زوجته عن أسماء من ماتوا أثناء غيابه، ليقدم فيهم واجب العزاء.. رغم أن بعضهم يكون مر على موته سنوات ونسي حتى أقاربه حقيقة موته. كان يقضي اليوم بطوله في مواساة ناس لم تعد تعوزهم هذه المشاعر، ويشرب مئات الفناجين من القهوة المرة. وبمجرد أن يعود كان يتقيأ ــ بلا انقطاع، ولساعات ــ السائل الداكن الذي ما يزال محتفظاً برائحته. كان يعبر البيوت في أيام عزاءاته الغريبة غير مصدق أن هناك من يموت في هذه المدينة. ويتذكر ذكري وفاته في مدينة ما.. أو أكثر من ذكري متزامنة.كانت له ست ميتات وقعت في اليوم نفسه.. وأحياناً كان يغيب في عمليات إحصائية عقيمة وهو يصنف ميتاته حسب السنوات التي وقعت فيها أولا، ثم الشهور،فالتواريخ، وأسماء الأيام، ومواقيت الوفاة، وأسبابها. ورغم أنه فقد ذاكرته تقريبا، إلا أنه لم ينس قط يوماً مات فيه. كان يشعر في تيقظاته المتعبة أنه تراب متيبس داخل جلباب، ويحسد التوابيت المتجهة لمقابر تخص أبناء ذلك التراب، من ولدوا فيه وماتوا عليه، متحسراً على ميتاته اللقيطة.
لم يطلب من زوجته اليوم أي أسماء لموتى ، وظلت الورقة التي كتبت فيها أسماء الراحلين في منامه الأخير مدسوسة في صدرها، كما تعودت أن تفعل، رغم ما يتركه لها ذلك من خوف مجهول، كأنها تتجول بصحبة الموتى.
توقف صفير القطار، وبدأ يتحرك ذاتياً مغادراً الشريطين النحيلين، فأدرك الرجل أن سائقاً جديداً قد انتحر. في هذه اللحظة نادى على زوجته، وقد أكدت له العلامة الغامضة أنه سيموت أخيراً، ولكنها لم ترد. تحرك بصعوبة حتى وجدها في الصالة، نائمة على ظهرها بجسد أزرق.. ويدها متيبسة على ورقة، مرفوعة باتجاه عينيها، كأنها كانت تقرأ شيئاً. لم يشعر بأي شيء غير عادي. ظل يتأملها كأن تلك هيئتها الوحيدة الأليفة لديه.. وبدأ يستوعب دون انفعال أن الشيء الوحيد الذي يربطه بهذه المدينة غاب للأبد. بهدوء فكر في أن مدينة حلمه القادم يجب أن تشهد ميتته النهائية، الحقيقية.. وفي هذه الليلة فقط، وللمرة الأولى منذ ولد، حلم بمدينته.