طارق إمام
للإسكندرية بوابتان، والمدينة نفسها شارعان وبحر. هكذا تُخبر أم الساردة ابنتها، في رواية إيناس حليم “حكاية السيدة التي سقطت في الحفرة” (دار الشروق 2023). غير أن التوصيف، في جوهره، لا يُجرِّد المدينة فحسب إلى بنيتها العميقة الحاكمة، بل الرواية التي نهضت كمحاكاةٍ بنيوية للمدينة نفسها.
لرواية إيناس بوابتان أيضاً للدخول: بوابة التخييل وبوابة التسجيل، ومثل المدينة، هي شارعان متوازيان. هناك شارع الحاضر الروائي، يمثله بحث “شادن” عن صيغةٍ لروايتها، شارع يبدأ من صيف 2002 وينتهي صيف 2003، بعد عامٍ بالتمام. الشارع الموازي هو شارع التاريخ، الذي يبتعثه الاسترجاع، والممتد من أواسط القرن العشرين إلى ثمانينياته، مؤطِّراً تاريخ جيلين: أجداد وآباء.
الشارع خط مستقيم، وهو تمثيلٌ مكاني نموذجي للزمن الخطي وللنسق التعاقبي الذي يبدأ من نقطة لينتهي أفقياً إلى نقطة، غير أن الشارعين هنا مليئان بالحفر والفجوات، فشارع الحاضر تقطعه استرجاعات دائبة، وأحياناً استشرافات استباقية، وكذلك شارع الماضي كثيراً ما ينحرف ليطل على شارع الآن. بهذه الطريقة يحدث الكسر الدائم للخطية الزمنية، بحيث يُزاحم النسق الكولاجي في اعتداده بعلاقات التجاور غير الزمنية نظيره الذي يوهم بالتهادي المتوقع لمرويةٍ تقليدية.
وكشارعي المدينة، يطل شارعا الرواية على بحر، هو العنصر الوحيد الذي لا يتغير بين مدينة الواقع ومدينة التخييل، بين الحاضر والماضي، فالمياه لا تشيخ.
النص يبحث عن نفسه
الرواية المتأهلة مؤخراً للقائمة القصيرة لجائزة كتارا 2024، لا تبحث فقط عن عروسٍ مختفية، بل عن روايةٍ مختفية، موضوعها العروس المختفية! أحجية داخل أحجية، تجسدها رواية داخل رواية. بل، دعوني أقول، إن الحكاية هنا هي من تبحث عن نصها، أن الفتاة المبتلَعة هي، قبل أي شخصٍ آخر، من يبحث عن “شادن”، لأنها إن عثرت عليها، فستحصل أخيراً على مكان فوق الأرض. الراوية إذن هي، في الوجه المرعب لهذه الحكاية، هي المطارَدة، هي من يجري البحث عنها، والمفارقة أن ذلك يحدث بالإرادة السوداء لشبح.
نحن إذن أمام رواية تبحث عن نفسها قبل أن تبحث عن حكايتها، رواية “ترميم” أكثر مما هي رواية “خلق”، إذ تنشأ، كما يُفترض، على أنقاض روايةٍ لم تتمها الأم. الرواية هنا مرادفٌ فادح للذات الإنسانية نفسها، فالنص يولد من رحم نصٍ أقدم، بالضبط كالابنة التي تولد من رحم أمها، والجدل المندلع من مواجهة النصين، السالف واللاحق، هو ذاته الجدل المندلع من اصطدام الذاتين.
يجدر هنا الإشارة إلى استناد الرواية لسؤال “السلطة الأمومية”، وهو سؤال شحيح الطرح في النص الروائي المصري، سواء من الكتاب أو الكاتبات. عالم “السيدة التي سقطت في الحفرة” تتوارى فيه أو تكاد البطريركية الأبوية، لصالح نظيرتها الأمومية. ولعل من اللافت أن الساردة لا تشير إلى أمها أبداً أو تدعوها بصفتها البيولوجية أو العاطفية كأم؛ ولا باسمها الذي يحدد هويتها كذات. هي فقط “الكاتبة العظيمة”، مختصًرةً بالكامل في وظيفتها أو دورها، وكذلك الأب، هو فقط “الفنان”. يحدث ذلك فيما تنادي الساردة جدتها بـ”ماما” وجدها بـ”بابا”، فضلاً عن تعريفها لبقية الشخصيات بأسمائها وروابطها الوجدانية لها، وبالذات المنبوذين والمهمشين، فأقرب الذوات الروائية للساردة هي تلك التي ابتُسرت حيواتها، حتى روائياً، بحيث يمكن أن نطلق عليها فنياً “الشخصيات الهامشية”، مثل حمودة وكارم وراوية وعالية. هذه الشخصيات هي صاحبة الحضور الفادح في وعي “شادن” بالعالم، وهي في الحقيقة المحرك الأكبر لنصها المأمول كي يصل إلى تمامه.
هذا الاتكاء على الجانب الوظيفي للشخصيات الأشد قرباً يعكس عمق الجدل في جذره الأكثر تقشفاً حيث يتجه مباشرةً نحو عالم الأفكار والتصورات؛ وعلى رأسها الهوة في التصور بين رؤية الأم ورؤية الابنة لما يجب أن يكون عليه النص الروائي. فعلى العكس من الأم، الطامحة في تحويل الواقع إلى خيال، تطمح الساردة في تحويل الخيال إلى واقع. إنه طموحٌ لن تنقذه سوى آليةٍ واحدة، حشد خطابات غير تخييلية في جوهرها، بحيث “توهم” أن ما لم يحدث هو حتماً ما حدث.
هذا ما تمثله بوابة التوثيق، المدعومة بتقديم ساردتها كـ خريجة لقسم الصحافة بكلية الآداب، القسم الذي لم ترحب به الأم، مفضلةً قسم الميثولوجيا (الخيال الإنساني اللا محدود).
ما يغذي التخييلي هنا هو غير التخييلي، فبنية النص مبدئياً تستعير بنية اليوميات، المؤرخة، في اتصالٍ يُضاعف الإيهام بالحضور السيري، ومع ضمير المتكلم الحتمي، يغدو الإيهام تاماً بأننا أمام تأريخ لحياة. اليوميات تُكتب بغية ألا تقرأ، متجهةً للداخل، كفعل تطهر أو اعتراف، أو حتى لإنقاذ الذاكرة، على العكس من الرواية، المرهونة بالتوجه للخارج، حيث لا معنى لفعل إنتاجها دون توفر شرط تلقيها. مِن هذه المفارقة الجديدة، ينشأ النص المراوح، فيما نتساءل معه، هل كُتب لإحياء ذاكرةٍ مطمورة، أم لإنشاء ذاكرة بديلة؟
أين رواية الأم؟ لا وجود لمقاطع منها في رواية الابنة، اللهم إلا المقطع الافتتاحي للرواية، الذي يشبه بالضبط الرحم الذي يلفظ الجسد، ثم يتوارى من جديد وقد فقد وظيفته الغائية. بالمقابل، تعثر “شادن” على يوميات للأم بالذات، أي تعثر على ما يفترض أنه “الحقيقة”، لتستعين به، كعنصرٍ رئيسي، على ما يفترض أنه تدشين للوهم.
المفارقة تتضاعف، حين نكتشف أن “شادن” نفسها تكتب يوميات داخل اليوميات، يضمها دفترٌ أحمر، لا تملكه، كأنه تأكيدٌ رمزي على أنها لا تملك حياتها، فيما بالكاد يحق لها أن تحتفظ بيومياتٍ تخص ذاتاً أخرى هي “ميرفت أحمد شحاتة”، أو عروس النبي دانيال. الفارق بين نمطي اليوميات جوهري، فثمة يوميات تعمل على الظاهر، وأخرى تشتغل على الداخل، عبر الاستبطان لذاتٍ تقاوم السقوط في حفرة المرض النفسي.
رواية للأم توازيها رواية للابنة، ويوميات للأم تقابلها يوميات للابنة: إنهما الشارعان من جديد.
اتصالاً بالتوثيق، هناك أرشيف الصحافة، وتقارير الوسائط الإعلامية للحقبة. ربما يحيل كل ذلك إلى تساؤل عن نوعية هذه الرواية، أو التعريف الأمثل لقالبها الأشمل. في الحقيقة، فإن رواية إيناس تتحرك بين أكثر من قالب، فهي في مجملها، دون شك، رواية تحري، حيث البطل يحقق في واقعةٍ غامضة، ويقوم بتحريات دقيقة، ومطاردات للمصادر، وتجميع للشواهد والأدلة والمعلومات، ليصل إلى “الحقيقة”. هي أيضاً “ميتا رواية”، أو نص ذاتي الانعكاس، إذ لا تكف عن التساؤل، من داخل متنها، عن التقنيات الأمثل لتحققها، وعن تعرية التفكير في الكتابة نفسها، بحيث نشعر طيلة الوقت أننا أمام رواية تُكتب “هنا والآن”، وتوهِم بأن كل ما نقرؤه هو تفكير في روايةٍ مرجأة، ربما سيبدأ يسطرها الأول هناك مع نقطة النهاية في السطر الأخير هنا. “حكاية السيدة التي سقطت في الحفرة” تؤسس أيضاً لنفسها كرواية أجيال، إذ تسرد سيرة ثلاثة أجيال من أسرةٍ واحدة، بإشباعٍ لا يجعل من استعادة الأسلاف محض مرورٍ تاريخي على المرجعية التاريخية لنص الحاضر.
مستويات السرد
ثمة بوابتان أيضاً تنفتحان على مستويين سرديين أساسيين: واحد استعاري يوازي الواقع، والثاني كنائي تداولي يعكسه. إنهما يتبادلان المواقع، ليمنحا النص بنيته المراوحة بين استكشاف العالم في أفقه الشعري، وتدشينه في بعده الحسي التجريبي.
بين الإسكندرية كـأسطورة “يحكون عن أسطورة انشقاق الأرض وابتلاع الفتيات الجميلات في عز الظهر، عن بائع أحذية ضاع برفقة بضاعته داخل سرداب متجره، وعن أرجل حمارٍ غاصت يوماً ما في بئر مقبرة… عن أعمدة وتماثيل أقيمت في زمن غابر كي تبتلع وهج الشمس من فوق رؤوس المارة نهاراً، وتُفزع مسوخ البحر من الاقتراب من المدينة ليلاً.. رُخام أبيض نقي يعكس نور القمر مثل مرآة”، وبين الإسكندرية كـواقع: “يبدو المشهد مختلفاً؛ مباني عالية متآكلة الواجهات، اللافتة الصفراء لمطعم كشري “التحرير” المغلق طوال العام ما عدا أشهر الصيف، مدخل شارع خالد بن الوليد والمحلات المظلمة بجواره، الواجهة الزجاجية لمقهى السكرية، سلسلة المقاهي الأكثر هدوءاً بعد أن أدخلت كراسيها في انتظار رحيل الشتاء، ومئذنة مسجد القائد إبراهيم وصولاً إلى ساحة ميدان منطقة الرمل”.
المستويان الكبيران يُترجَمان إلى مستوياتٍ لغوية متباينة، انطلاقاً من المراوحة المتصلة بين اللهجة العامية (السكندرية) والفصحى، إلى التباينات في توظيف غايات اللغة نفسها. ثمة لغة شعريةٍ تذهب مباشرةً للتجريد، ثمة أخرى وصفية مشهدية، تتحقق بها مقاطع كاملة بلغة سينمائية موضوعية. ثمة لغة تداولية تحرك المحكية في سياقها السردي، وأخرى إخبارية، أشد شفافية وغائية، تنقل أخباراً أو تحقيقات صحفية. وهناك مناطق المونولوج الداخلي، السيالة في غورها للداخل، والتي تنقل كل مشهد أو واقعة من بعده الظاهري إلى عمقه الوجداني.
التراوح يشمل علاقة الحبكة المركزية للرواية بالمحكيات الصغيرة. طيلة الوقت تترى حكايات صغرى، مكتملة في ذاتها، تصب في البحر الكبير، وأحياناً ما تنحو حتى لبعد أسطوري، يُذكر بمحكيات الجدات الشفاهية الخرافية، أو بمتون مدوَّنة كـ”ألف ليلة وليلة”. تصلح “حكاية بئر النحاس” _ والعنوان في ذاته دال جداً _ كمثال لهذه الآلية، حيث “صفوان” _ والاسم بدوره دال _ الذي يغرق في بئرٍ تتحول إلى نحاس. من حكاية صفوان تعود الرواية للإطار، ليظهر صندوق الأب النحاسي _ الأب الغارق كصفوان _ والذي يضم خمسة أشياء تركها الأب للأم قبل تواريه، ستوازي بدورها هدايا الأم السبعة للابنة، والمتروكة في صندوق أيضاً، كما ستوازي الأساور السبعة من الذهب، المتروكة في صندوق يحيل إلى زواج الجد والجدة.
يترك كل شخصٍ في هذه الرواية عدداً من آثاره في صندوق/ تابوت، إيذاناً برحيله، كبديلٍ للوصية، فلا وصايا في هذه الرواية رغم أن كل أشخاصها يعيشون على حواف مقبرة. شادن لم تترك صندوقاً، ولا آثارَ لمن سيخلفها، وفي هذا تأكيدٌ عنيف على رفضها لفكرة الامتداد.
شادن ستكتب نصاً، ستتركه للجميع بالتساوي، هديةً أو لعنة، وحينها، لن تكون مطالبةً من جديد بالبحث عن فتاةٍ تبخرت قبل خمسين عاماً، بل بالتفتيش عن الفتاة التي اختفت الآن، والتي تحمل اسمها.