سوسن الشريف
شعرت بالقلق، رفعت رأسها للساعة بجانب السرير، إنها الثانية صباحًا، رقبتها تؤلمها بشدة، وهذا طبيعي لأربع ساعات قضتها نائمة فوق الهاتف، منتظرة استكمال الاتصال مع …
مع من؟!
لم تعد تدري مع من كانت تتحدث، تعددت الشخصيات والكلمات واحدة “هاكلمك بعد شوية أوعي تنامي، أو تشغلي التليفون”، “معلش لازم اقفل دلوقتي، هاكلمك تاني ضروري”. وغيرها من العبارات المتكررة، وكلها تأتي في الوقت الذي تكون قد استمعت فيه للطرف الآخر، وأبدت رأيها، أو وجدت حلاً للمشكلة التي كانت سبب الاتصال، وبدأت ترد على السؤال الأول في المكالمة “عاملة ايه؟”. فبعد انتهاء الحوار، يتكرر السؤال بلهجة وإحساس آليان، فقط ترغب من تتحدث إليها سماع جملة واحدة “الحمد لله”، فما أن تزيد عن هذه الجملة، تأتي تلك العبارات المحفوظة المعتادة.
كجروٍ صغير يلقون إليه بفتات المشاعر، مكتفين بالنظر إليه يهز ذيله فرحًا ببقايا موائدهم المزدحمة، شاعرين بالرضا وقد منحوه أكثر مما يحتاج، لكن هل يعرفون بالفعل قدر حاجته؟! هل يسد الفتات جوعًا؟!
قد يساعد على البقاء حيًا، وهذا كافٍ بالنسبة لهم.
هل يعلمون ألم كل حكاية في انتظار لأن تستكمل، أو معاناة مشاعر في حالة جوع دائم، أن يكون لدينا حب كبير لا نجد من نمنحه إياه بلا مقابل، فنحتفظ بحكاياتنا وحبنا ومشاعرنا لأنفسنا، لتكتمل وحدتنا.
أحيانًا كانت تبادر بالاتصال للاطمئنان على الطرف الآخر، ويكونوا في خير حال، وتنتهي المكالمة التي كانت لا تقل عن ساعة في أقل من عشرة دقائق، منهم سبع دقائق للتحدث مع السوبر ماركت والصيدلية والمطعم والبواب والمكوجي، وكثيرًا ما تكون القطة أو الكلب هما محور الحديث في الثلاث دقائق التي خصتها بها من تحدثها، وبالطبع منطقي أن تنتهي المكالمة بنصحها بأهمية اقتناء قطة أو عصفورًا أو أي شيء من هذه المخلوقات الجميلة الحساسة.
تدخل من باب الشقة مسرعة، تمسك بالهاتف لتروي تفاصيل ما حدث في يومها لأحد ما، لكن الجميع مشغول في حاله، يفسحون لها وقتًا في المساء، تكون الأحداث التي حسبتها مهمة صارت تافهة، والحكايات التافهة أصبحت أكثر تفاهة، حتى المواقف الطريفة التي تُثير المرح، تصبح بادرة، كطعام فقد مذاقه، وبعضه منتهي الصلاحية. ذات مرة أصيبت بنوبة عصبية، فقدت فيها الوعي لساعات لم تعرف عددها، ولم يعرف أحد كذلك، كانت تغيب أيام، وأحيانًا تتجاوز أسبوعين، فلا تسمع عنهم ولا منهم.
في اليوم العشرين رن الهاتف، كانت مندوبة مبيعات، ظلت تسمعها تتحدث، وتروج لبضاعتها الراكدة، وتسألها أسئلة مكررة تستعيد فيها مذاق الحوار مع الآخرين، وأنهت المكالمة بعد ساعة.
في اليوم الواحد والثلاثين، الجيران سمعوا أصوات طرق على باب شقتها، لقد أتى الأخوات والأصدقاء من كل مكان، يحتفلون بعيد ميلادها. كم كانت مخطئة، عاشت عمرًا وقد سجنت نفسها بنفسها، فها هم يحملون شموعًا وحلوى وزهور، وأطفالهم يثيرون ضجة تزين المكان، لم ينسها أحد، الحياة أبعدتهم عنها قليلًا، لكن لم تغرقهم في خضمها لحد الفراق.
كانت نائمة، كلوحة غير مكتملة، يراها الآخرون تحفة فنية خلابة، غير مدركين آنين فقدانها الألوان، تحتضن التليفون. كتبت في رسالتها المستلقية تحت الوسائد، “امنحوا المارين تحت نافذتي الحلوى والزهور، امتنانًا لهم، كانوا الونس والصحبة، كم أود معرفة اسم المولود الجديد لجارتي في المنزل أمامي، ونتيجة المباراة بين يوسف وعلي وعبد الله، وأخر أخبار مريم ووليد، ومتى ستتزوج منار؟!”
ما زالت نائمة في إحدى المستشفيات، محتضنة التليفون بين ركبتيها ويديها، كجنين لا ترغب في أن يغادر أحشاءَها.
بينما لا يمكنهم النوم، منتظرين اتصالاً هاتفيًا عن قرب انتهاء الأجهزة عن التوقف!!