حامد موسى
1ـ قمر الطفولة
في طفولتي، كان القمر مرآة أحلامي. كلما اكتمل، شعرت أن العالم كامل بدوري. كنت أظنه يرافقني في كل تحولاتي، حتى أدركت متأخرًا أنه يتبدل مثلنا… وأنه لا يكتمل إلا ليبدأ في النقصان.
ذات ليلة، رفعت رأسي فلم أجد القمر، بل دائرة معتمة، كأن السماء وضعت نقطة حبر على صفحة زرقاء. “قمر أسود”… هكذا سميته، ليس لأنه فقد الضوء، بل لأنه كشف لي فجأة أن النور الذي كنت أراه لم يكن ملكه أبدًا.
أدركت يومها أن كثيرًا مما نحبه في الناس هو انعكاس لشيء آخر، لشمس بعيدة لا نراها. وأننا حين نفقد الضوء، ربما نرى الحقيقة أخيرًا: أن كل كمال عابر، وكل جمال مُستعار.
منذ تلك الليلة، لم أعد أبحث عن القمر في السماء، بل في وجوه العابرين، في القصص التي تنطفئ فجأة، وفي الأماكن التي لم تصلها يد الضوء بعد.
وأحيانًا… أجدني أبتسم للقمر الأسود، لأنه علّمني أن الظلمة ليست عيبًا، بل فرصة لنعرف أين ينتهي السطح وأين يبدأ العمق.
2ـ غبار على القمر
قالوا لنا إن القمر سيكتمل الليلة، وإن النور سيغمر الساحات والشوارع، وأن الظلام الذي طال سيزول.
انتظرنا.
وعندما ارتفع في السماء… كان قمرًا أسود.
لمع لحظة واحدة، ثم غرق في عتمة كثيفة. لكن الناس في الميدان ظلوا يصفقون، وكأنهم لا يرون. المذيعون في الشاشات قالوا إن القمر يسطع بأجمل ضيائه، وإن الظلام الذي نشعر به مجرد “شائعات”.
في البيوت، أغلقت الأمهات النوافذ، خشية أن يدخل الليل إلى صدور أبنائهن. في الأزقة، كان هناك من يهمس: “القمر لم يمت… لكنه سُرق”.
مرت الليالي، وكلما عاد القمر، عاد أسود. لكننا بدأنا نعتاد، حتى صار بعضنا يقسم أنه كان هكذا دائمًا.
وفي ليلة بعيدة، سقط المطر فجأة، وغسل السماء. حينها فقط رأيناه… قمرًا أبيض، صافيًا كما كان، وكأن العتمة لم تكن إلا غبارًا تراكم بفعل الصمت.
3ـ أسطورة القمر الأسود
في الليلة التي غابت فيها الشمس عن العالم سبعة أيام، ارتفع القمر أسود كالليل نفسه. قالت الكاهنة العمياء: “حين يشرب القمر دم السماء، ستستيقظ الممالك النائمة.”
وفي القرية البعيدة، ولد طفل بعينين إحداهما ذهبية والأخرى مثل القمر الأسود. كبر الطفل وهو يسمع الهمسات: أنه آخر من سيشهد النور… وأول من سيطلق الظلام
4ـ وجه في السماء
“آدم” يلتقط صورًا للقمر كهواية. لكن في إحدى الليالي، حين قرّب العدسة، رأى شيئًا غريبًا: وجه امرأة يبتسم داخل القمر الأسود. ظنها خدعة ضوئية… حتى بدأ يرى نفس الوجه ينعكس في مرآة غرفته، يقترب، كل ليلة أكثر من السابقة
5ـ القمر المكسور
كنا نظن أن القمر قطعة واحدة، حتى جاء الليل الذي رأيناه فيه منقسمًا نصفين، نصف أبيض، ونصف أسود. قال لي صديقي: “إنه مجرد ظل الأرض.”
لكنني كنت أعرف… أن النصف الأسود هو ما نخفيه نحن عن أنفسنا، وأن القمر الحقيقي لا يكتمل إلا إذا اعترف كل منا بظلامه قبل نوره.
6ـ القمر في زنزانة
في السجن، كان “عادل” يرفع رأسه كل ليلة بحثًا عن القمر، فيرى قرصًا أسود. ضحك الحارس: “القمر بخير، لكنك تراه من خلف الشبك.”
مرت سنوات، وعندما خرج، رفع رأسه في الساحة فوجد القمر أبيض. بكى، ليس لأنه عاد حرًّا، بل لأنه فهم أن الظلام أحيانًا لا يكون في السماء، بل في العيون التي تنظر.
7ـ آخر رحلة للقمر
سنة 2140، أعلن العلماء أن القمر مات. تحوّل إلى كتلة صخرية سوداء بلا ضوء، بعد أن استنفدت الشمس قدرتها على إضاءته.
لكن في آخر ليلة قبل أن يختفي، تلقّت الأرض رسالة غامضة من محطة فضاء بعيدة: “القمر ليس ميتًا… لقد رحل باحثًا عن شمس أخرى.”
8ـ قمر الحب الأسود
كانت تحب أن تجلس معه على الشرفة في الليالي القمرية. لكن بعد رحيلها، صار القمر أسود في عينيه، مهما كان مشرقًا.
لم يكن القمر قد تغير… لكن قلبه هو الذي انطفأ.
9ـ يوم بيع القمر
في زمن الجوع، عرضت الحكومة القمر في مزاد عالمي. فاز به أحد الأثرياء، فغطاه بالأسود ليحتكره، وقال: “من أراد النور، فليدفع.”
لكن طفلًا في قرية بعيدة رسم قمرًا أبيض على جدار بيته… وانتشرت الرسوم حتى صار الليل مضيئًا بلا حاجة للسماء.