تنبئ الرواية عن موهبة حقيقية، تريد أن تقدم شيئا مغايرا، كما أن ثقافة مؤلفها، وقدرته على توظيف تلك الثقافة من خلال سرده العذب، كل ذلك واضح وجلىّ، وهو السبب وراء المتعة التى يستشعرها القارىء، حتى لو تاه قليلا فى البداية. وددت لو كان أحمد شوقى على أكثر بساطة فى بناء حكايته الطويلة، بل إننى أعتقد أن الرواية لا تحتاج الى عناوين تقطع تدفقها. البساطة فى بناء الرواية أقرب بكثير الى روح النص، ولكننى أحترم بالتأكيد اختيار المؤلف الفنى، وفى كل الأحوال، ستفرض الحكايات نفسها، وستأخذك الى عالمها البديع.
السرد على لسان عفريت كان إنسانا هو مبتدأ اللعبة. يحدثنا العفريت فى البداية عن جنيّة الأحلام المفقودة، التى يريدها أن تخرج من جديد من سماء الحزن، فيمهد ذلك الطريق أمام حرية كاملة فى الحكى. يتحدد قانون الرواية منذ صفحاتها الأولى فى حرية الخيال الذى يستدعى القص والسرد. العفريت غريب سيحكى لنا عن آخرين، وسيحكى أيضا عن نفسه. سيرتبط الحسن بالحزن فى حياة العفريت :” جنية الأحلام وقد خرجت، لم تخرج من اللاشىء، لكنها خرجت كأى مولود جديد، من رحم السماء الحزينة خرجت، وتشكلت كما أراد الشاب: بفستان أبيض شفاف ستتخذه لباسها الأبدى، وبشفاه من الكريز، تماما كما أراد لثمرته أن تتذوق” . ليلةٌ واحدة استمتع بها، ولولا فراقها ما حكى حكايات حزينة: ” آه لو لم نفترق! لو لم تختف! لو لم يأت صباح فأتحول عفريتا على غير إرادتى، لكانت هنا الآن، وكانت حكاياتى سعيدة، وما كنت أحكى وحيدا، كنت سأحضر لها زهرة وقطعة شيكولاتة، تسألنى : لم هذه لوزة؟ فلا أقول، وأهز كتفى راقصا بالرفض، فتقول : وحياتى! .. تعدمنى لو ما قلت ، فأقول هذه لوزة فيها حسنة .. فتختفى والليل”.
غريب يحكى عن جنيّة هى مزيج بين الأنثى والملهمة وربة الشعر معا. سيحكى العفريت الوحيد بلا توقف، ولكنه لن ينسى الجنيّة التى ألهمته كل هذه العذوبة فى السرد. حكايته كما رأينا مطرزة بلوثة معاينة الحسن، وبمكابدة أحزان الغياب والفراق . هكذا ستكون أيضا حكايات أسرة كامل، وأمه مسعدة، وأعمامه، وأولاده، وأولاد أخيه. سنكون من جديد أمام مزيج الواقع والخيال، والحسن والحزن ، والحياة والموت، الأفكار الكبيرة والصراعات الصغيرة، والجد والعبث. ساقية الحكى تدور على لسان عفريت يعلن لنا مشروعه: ” لقد قررتُ الإئتناس بالحكاية والشعر، فى وجه الأبد الغامض، ليس بالحكايات المتناثرة، وإنما بالسعى الدؤوب للخلق !” ..” بدأتُ الحكايات عابثا، ثم فرضتُ على نفسى مسارا ألتزمه، وهو أن أخلق جنيّة أحلام، ولكنى سأكون خالقا ولست بخالق، بل تخلقها الحكايات والأحلام .. وهذا الكون الفسيح الذى صرتُ على هامشه، سأخلق لنفسى من نفسى كونا يوازيه .. “.
كامل الألثغ الذى يحوّل اسمه عند النطق الى خامل هو بطل القصة التى يحكيها العفريت غريب. الشاب أزرق العينين تعرّض لمكيدة من عمه الشرير، هرب كامل/ خامل من قريته الكائنة قرب البحر، الى أرض بكر يطلقون عليها أرض الجوافة. هناك استقر، وهناك جاءت إليه أسرته: أمه مسعدة، وإخوته، وهناك أيضا سيتزوج هو وأخوته، وسيولد جيل جديد من الأبناء، ولكن أرض الجوافة، ستتحول الى أرض الأسمنت. ستولد قرية جديدة مختلفة، ولن يبق من الماضى إلا كلمة “الجناين”.
خامل لم يكن خاملا، ولكنه كان يعمل ويبنى ، يصبح أكثر ثراء، وتسانده زوجة طموح وقوية الشخصية. لم تكن حياة عائلة مسعدة هانئة على الدوام. سرعان ما بدأت المعارك والمكائد بين زوجات الأبناء، انتقل البشر الى مكان آخر، ولكن شيئا لم يتغير فى الطبائع، يسرد غريب تفاصيل الغيرة بين النساء، ويتوقف عند دور مسعدة التى تحاول أن تمنع السفينة من الغرق، تدور الساقية بأبطال الحكاية صعودا وهبوطا، تولد قصة حب رقيقة بين سالم (شقيق كامل/ خامل) وبين إكرام، يتزوجان فى النهاية، تجسد حكايات الأسرة هذا الخليط الإنسانى اليومى فى مباهجنا الصغيرة، و سعينا الدائم وراء السعادة والإستقرار.
حتى عندما يتصالح العم الشرير مع كامل، وحتى عندما يعود كامل الى قريته الأولى، فإن الأمور لن تسير كما ينبغى.الأرق يطارد كامل، يقترح عليه زميله فى العمل أن يكتب طالبا النوم من ربة الأحلام، تبدو مشكلة كامل فى أن حياته تنقصها الأحلام. الموظف البسيط فى شركة الأسمنت، أصبح تاجرا كبيرا يشترى أرضا ليحولها الى مخازن تتسع لمواد البناء. بين مولد كامل وخروجه، وموته العبثى ، رحلة تصلح عنوانا على حيوات لبشر كثيرين: يجرون كأنهم فى ماراثون طويل، يقودهم الأمل فى الفوز، ويهزمهم التعب ، ثم يتوقف كل شىء فجأة بالوصول الى نهاية محتومة اسمها الموت.
“حكايات الحسن والحزن” تتأمل رحلة الحياة بكل ما فيها. تتعامل بتعاطف مع ازدواجية الإنسان، ومتاعبه وأحلامه الضائعة. نتأرجح ما بين الكمال والخمول، والحب والكراهية، والجشع والإيثار، والواقع والخيال. تأسرنا لحظة حب، وتفتننا نظرة امرأة، ويهزمنا الموت فى النهاية، ولكننا نمتلك خيالا يجعلنا ننتظر ربة الأحلام، ونستعين على الزمن بالحكى.
لا يتوقف العفريت غريب عن الحكى حتى بعد موت كامل/خامل. نكتشف أنه هو أيضا ينتمى الى من يحكى عنهم . هو الشاهد على تحول أرض الجوافة الى أرض الأسمنت. تجعلك هذه الرواية مدركا لأهمية الحكايات، ولأهمية ترتيب العبارات، وإعادة اكتشاف المعانى، لقد كتبت بالأساس فى مديح الحكائين، الذين يروضون الخيال، فيصنعون واقعا جديدا، والذين يحلمون للإنسان بما هو أفضل من أعمدة الأسمنت، ومن جشع الأعمام.
جنيّة الآحلام ليست فى حقيقتها سوى الفردوس المفقود الذى نتمناه، فإذا لم نجده على الأرض، اخترعناه. هكذا تفعل الحواديت، وهكذا فعل أحمد شوقى على.