شيء يبدو معقدا للغاية منذ المطالعة الأولي وأنت تقرأ عنوان الجزء الثاني من يوميات “ذكري”، الذي سماه “حطب معدة رأسي” الصادر حديثا عن دار العين، إنها المكونات التي ترهق رأسه دائما، ترهقها أحيانا ببساطتها وضآلتها، وأحيانا ترهقها بثقلها وما تسببه من عبء ونزاع، تستطيع إذن معدة مصطفي ذكري أن تهضم الكثير من التفاصيل، ولكنه يبدو حريصا علي أن يطالع القارئ تلك العملية الشائكة التي تتم بنزاهة وشرف، هي الكتابة التي يقول عنها المؤلف أنها “لا تخضع للالتزام وتأتي حسب المزاج والأهواء، كان لليوميات أن تكون الحارس الشخصي للتبطل والفراغ والكتابة السلبية الحقيقية التي لا تتعدي أحيانا أحلام يقظة تصطدم بجدران وسقف الغرفة”.
نستطيع الآن ربط كل شيء بسهولة، عندما نبدأ بما اعترف به الكاتب في “تمرينات منزلية” انه اكتسب عادة البقاء في البيت منذ الصغر، وبدأ يعدد الأسباب التي جعلته يعتاد هذا الأمر، وخصوصا كره المدرسة الشديد، الذي كان يدفعه إلي تمثيل المرض حتي تخضع أمه لرغبته في البقاء داخل البيت، إذ أنه علي الرغم من شعوره بالذنب، إلا أن اختلاق الأكاذيب للبقاء في البيت كان يتصاعد في رأسه، وفي كل الأحوال كانت هناك نتائج متشابهة تحتوي جميعها علي حلم البقاء في البيت، كل التمرينات المنزلية التي أحبها الكاتب ساقته إلي التداخل فورا مع كل هذه التفاصيل السينمائية المنمقة، هو لا يشاهد السينما بمهارة فقط وإنما يقوم بأدائها بجدارة داخل يومياته، أداء كل الأدوار بخفة وموازاة حقيقية، المشاهد الممتعة في الأفلام هي في الحقيقة تلك التي يمكنها أن تخلق لدينا مشهدا موازيا كل مرة، تلك المشاهد الموازية التي يمكننا أن نلعبها في تصوراتنا الراكدة عن الحياة والألم، تماما كما فعل جمال في يومية “ناشيونال” عندما أعلن أمام نفسه عن قيامه بشيء مختلف منذ اللحظة التي يقف فيها الآن أمام المرآة، وعصر الليمون علي كوب الشاي الساخن، ورشف رشفتين عميقتين وأصبح كل شيء ينذر بأنه يستطيع الآن أداء دوره، الدور الذي أتقنه مقلدا بشكل مشوش جولي أندرسون وهي تضع حشرة في طعامها في المطعم، وقدم لها الجرسون طعاما غيره، جولي أندرسون لم تكن تملك المال مثله، خرج من المطعم في الواحدة ليلا، وخرج له اثنان من شارع جانبي، وأوسعوه ضربا، وفي بيته، نزع جمال من مكواة قديمة ناشيونال، سلكها الكهربائي المضفور، وعقد طرف السلك في حلقة السقف الحديدية، وصنع حلقة لرقبته، وكانت آخر صورة في مخيلة جمال قبل أن يدفع الكرسي من تحت قدميه صورة موديل في إعلان عن مكواة ناشيونال حديثة تضخ بخار الماء من فتحات سفلية.
يوميات “ذكري” هي تلك الحيوات المتوازية في رشاقة وخفة، واحدة تنتج من تفاصيله البسيطة تتداخل مع تلك التي يتألق فيها نجم السينما المعروف، وتلك التي تسمع فيها صوت موسيقي تصويرية، يسير معك الكاتب برفق، تركل قدماه المشاهد والتفاصيل أحيانا وأحيانا أخري يلتهمها في شراسة وأحيانا أخري يبدو متناغما صبورا، يعبث مع نجوم السينما عبثا يشوه المصائر والأصول، وقد يشاركهم اللهو في أفلامهم كما يشاركونه الحلم والأمنيات، إنها الرحلة التي تنطلق من استئثار كل حواسك، تدعوك للانتباه بكل أعضائك النشطة، ليستعيرك الكاتب لحظات داخل رأسه المرتبكة، وتشاركه في الصعود والهبوط في معدته المزدحمة والمليئة أحيانا بالزوائد القلقة.
لا غضاضة إذن في أن يؤكد لها أنها تشبه جيدا الممثلة مارلين ديتريش، وكانت سعيدة بالتشبيه، مما جعله يفرد لهذا الموضوع “أزهار الشر” يوميته المزدحمة بالتفاصيل والهوس، تبدأ ب”البعض يفضلونها ساخنة” اسم الفيلم الشهير للمخرج بيلي وايدر، وهي التي قيلت علي لسان توني كيرتس لمارلين مونرو، ومرورا أيضا بإهداء لارس فون ترير فيلمه الأخير ضد المسيح إلي المخرج الروسي اندريه تاركوفسكي، والزوجين وليم ديفو وشارلوت جينسبورج اللذين ذهبا إلي غابة عدن، أو جنة عدن. ليغرق في قوة لا رس فون ترير في استسلامه لصنع صورة جميلة، ليست خشنة حسب تعاليم الدوجما.
في معدة رأس ذكري، فلسفة ما لا يستطيع إسكاتها بالمرور الناعم، حتي وإن أصابته بالضجر، فما الذي يجعله في يومية “درس في السقوط” يقيم هذا الجدل الواسع المضن حول المبدأ “لا كومة قش دون إبرة” فيقرر أن الذي عبر عن هذا المبدأ عبر عنه باعتبار أن ذهنه يباشر دائما “البحث عن إبرة” التي تجعل ما يصادفه علي ما هو عليه، وما يصادفه دائما ليس بالضرورة كومة قش، لكن المبدأ عنده ثابت، فحتي إذا لم توجد كومة قش، فهو يبحث دائما عن الإبرة، “الفلسفة أمام مثل هذه المبادئ تلجأ إلي البداهة” يقرر، حتي وإن قادته هذه الفلسفة إلي استعادة هيجل وكير كيجارد.
ينطلق الكاتب بملامح حياته وتفاصيلها المرهقة إلي التفكير والجدال والمنطقة، فلا بأس من إقامة مثل هذا البحث العميق عن فكرة “الاختلاف والتكرار” بما أنها اكتشف أن حياته مثقلة بالتكرار السخيف، دونما يدري كيف حدث؟ ومن أين أتي؟ وكيف لم يلاحظه؟ يبدو أن التكرار في مرته الأولي والثانية والثالثة كان اختلافا، كان يلمع ببريق البداية ويحدث تحت مبدأ الندرة، ولكن الاختلاف يفلت ويصبح هذا التكرار بمراته المتتالية، هل هو كما قال دولوز: “نكرر ماضينا كلما قلصنا من إعادة تذكره”؟ أم أن النجدة تأتي من عند هيوم عندما يقول: ” لا يغير التكرار أي أمر في الموضوع الذي يتكرر، إلا أنه يغير شيئا في الروح التي تتأمله”؟ وهكذا يظل الإلحاح حاضرا طوال الوقت مع أسئلة “ذكري” التي يستنتجها من يومياته البسيطة، إلحاح علي التنقيب عن النتائج الحقيقية، إلحاح للوصل إلي الغايات المنطقية لا التي تعتمد علي الأهواء والرأي، إلحاح علي الكتابة والرصد العادل السخي.
ثلاث سنوات هي عمر انتظام “مصطفي ذكري” في كتابة اليوميات، كانت الاستراتيجية في البداية هي أن تكون كتابة اليوميات منشطا مؤقتا للكتابة الحقيقية، ولكنه يعترف أن الإحراج كان بأنه انشغل حتي عن التفكير في أعمال حقيقية من المفترض له الضلوع في تأليفها مستقبلا، وشغل أيضا عن إعادة النظر في أعمال كافكا وبروست وجويس، لينطلق بشكل مؤقت إلي ما بعد “كعوب السرد العالية”.