حصاد اللعنات في رواية “حذاء فيللينى” لوحيد الطويلة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

خالد بريش

الكاتب وحيد الطويلة من خلال روايته "حذاء فيلليني"، الصادرة عن منشورات المتوسط، يرتب آهات المحرومين والمضطهدين في مقامات موسيقية، جاعلا من حذاء فيلليني رمزا وناقة لعبور الصحراء، أقصد إيقاعات الأحداث، وذلك وسط عباب الأحلام لأنه يعتبر أنه لا شيء أصدق من الأحلام، لأنها آخر ما يموت..

منذ أن رمى الصحفي العراقي منتظر الزيدي الرئيس الأمريكي بوش بحذائه وللحذاء في صحافة العالم حيز وبعد رمزي مهم. واليوم يقوم الكاتب وحيد طويلة بإدخال الحذاء في عالم الأدب المكتوب من خلال رواية يجعل فيها الحذاء تارة رمزًا وأخرى أداة.

وما بين حذاء الزيدي وحذاء فيلليني المخرج السينمائي المعروف قواسم مشتركة كثيرة. فإذا كان الأول لضرب عنجهية الامبريالية المتمثلة في الرئيس الأمريكي. فإن الثاني يستخدمه الكاتب رمزًا لسخرية مؤلمة من واقع مجتمعاتنا على كل الأصعدة. وليضرب فيه رواسب ما عشش في الأدمغة محاولا استفزاز العقول لكي تنفض عنها الغبار، وتتحرك بوعي وخطى ثابتة نحو المستقبل. حذاء ليس ككل الأحذية، كأنه جرس يذكر الناس بكل ما نسيناه أو عرفناه يوما، ولكننا تجاهلناه.

وإذا كان الكاتب قد أهدى روايته إلى الذين صرخوا ولم يسمعهم أحد، وإلى الذين لم يستطيعوا أن يصرخوا. إلا أن سرده بحد ذاته صراخ يخرج من أعماقه، فتأتي عباراته مدججة بدبابيس تشكشك روح القارئ ليصرخ معه وينتفض. أو بالأحرى ليستيقظ وينهض من سباته. فنراه يتنقل بالقارئ عبر سرد متجانس من عوالم الخيال إلى فجاجة الواقع وآلامه، من ابتسامة مرة إلى أنين جارح يستغرق الكيان، من أقبية سجون يدور فيها ما لا يخطر على بال بشر، إلى ذلك اللقاء العبثي بين السجين الطبيب والسجان المريض. طارحا خلال السياق كثيرًا من الأسئلة التي تتلاحق كعلامات على طريق لا تُعْرف نهايته، فتحدد مساره.

مقالات للكاتب

تنساب عبارات الرواية بهدوء فتتسلل إلى دواخل القارئ بالرغم من قساوتها وحديتها أحيانا بفعل الحدث الذي تتناوله، فيستسيغها بحسرة وكأنها “حقائب للسفر جاهزة للسفر إلى الآخرة أو إلى المنافي الكثيرة”، ليحس نفسه فجأة متورطا بالقضايا التي تطرحها سطور الرواية والأفكار التي أرادها الكاتب لأنه هو المخاطب والمعني أصلا، مع أن الكاتب حذره مسبقا عندما ذكر له مقولة فيليني: اسحب ذيلا قصيرا فقد تجد فيه فيلا!

وإذا كان السؤال القديم الجديد: لماذا يكتب الكاتب أو الشاعر…؟ فإن كاتبنا يحاول الإجابة عن هذا السؤال وعلى طريقته دون أن يدخل في التفاصيل فيخبرنا أنه يكتب ليحرك الصمت، ولننهض من سبات، لأننا في نظره “جالسين بانتظار القدر، لا صوت واضحا لنا، بالكاد همهمات واهنة، وسلام بتحريك الأيدي والشفاه فقط”… فنشرب همومنا يوميا بأسى وكآبة “كأننا أجهزة آلية أو دمى يحركها واحد من الخارج بضغطة واحدة كأنه يلعب بنا، بل يلعب بنا فعلا”…! ليؤكد وبمرارة وبعدما أدخل القارئ في شِراكِ حبكته الروائية التي أعدها بعناية قائلا: لا أتحدث نيابة عن أحد، لو عرفت ما حدث كما حدث لابيض شعري مرة واحدة، وربما سقط وسقط معه وجهي دفعة واحدة!

شخصيات الرواية خليط من عوالم مختلفة لا علاقة لأحدها بالآخر إلا من خلال توليفته الأدبية، وهي شخصيات أرادت تغيير العالم كل على طريقته: ابن لادن وفيلليني والمأمون الذي يستخدم اسمه فقط. ولو أضفنا إليها الشعب المتمثل في مطيع، وكيف يتحول إلى مطاع عندما ينتفض ويثور، لأدركنا تكاملية هذه الدائرة ولأدركنا دور الحذاء في حياتنا ابتداءً من حذاء السندريلا الباعث على الأحلام عند الصغار، إلى حذاء الأم (شبشبها) المؤدب والمربي، والمستريح في قاموس ذكريات معظمنا، وصولا إلى حذاء فيلليني في الرواية.

يستخدم الكاتب بجمالية الابتسامة المرة والتلاعب بالأسماء ورمزيتها ضمن معادلة بين مطيع ومطاع اللذين يفصلهما عن بعضهما خيط رفيع جدا. فيوقظ مطيع ويدعوه للنهوض والصراخ والهتاف، في الوقت الذي يقرع ناقوس الخطر في أذن مطاع لكي لا يُخطئ التقدير ويعي رموز الهتاف والصراخ والحراك وعمق الأزمة فيخبره أنّ ” الجلاد كالعداء يجب أن يحسبها بالثانية ويتوقع الانزلاقة قبل حدوثها”، إلا إذا كان من الغباء بمكان…!

ومن خلال البوح بكل شيء لأن البوح وتسمية الأشياء بأسمائها وذكر الأمور كما هي وكما حدثت بالنسبة له أساس في قضية التوازن النفسي والروحي عند الإنسان عامة، كونه يحول الآهات والتوجعات وقرقعة تكسير العظام التي يستلذ بسماعها بعضهم، أنغاما موسيقية من مقام السيكا أو الصبا أو الحجاز.

مجتمع الرواية في مجمله مجتمع واقعي بسيط، يُعتبر الحب بين أفراده الأساس في علاقاتهم ببعضهم، كحب الأولاد لطبخ أمهم وتلذذهم به لأنها تحب أن تطبخ لهم. وبالحب يرتبط الإنسان في مجتمعه ووطنه كربطة العنق التي تهديها زوجة لزوجها لكي تربطه ويبقى مرتبطا بها أي يُحبها. مجتمع يسوده كثير من الممنوعات حتى ركوب الباص فيه للانتقال من مدينة إلى أخرى يتم بالبطاقة الشخصية. والحيطان فيه تسمع وترى، وحروبه عبارة عن شعارات وهتافات وأغانٍ ترددها الإذاعات ولا تتجاوزها لكي لا ينزعج العدو وتصبح بالتالي من الممنوعات…!

أما أفراد هذا المجتمع فهم أنواع كثيرة فمنهم من تنبت لهم لحى من الخلف، ومنهم من يبدو الذل على وجوههم، ومنهم من يُتقاذفون ككُرة بالأرجل، وهناك المجانين بحب الوطن، وأيضا المحبطون من الوطن، والمخدوعون برجولتهم، والعاشقون لرائحة الدم، وذوو الوجوه المكلومة، والأرواح المكسورة… كلها أنواع من البشر تتفتح بين سطوره كزهور بل كنساء جميلات، ويستوعبها رمزٌ كحذاء فيليني الشبيه بحذاء الزيدي الذي لم تتلاعب فيه أياد خفية كيد مارادونا، حذاء يرسم النهايات لأن لكل شيء نهاية وآخرة ومؤخرة ولو كانت كبيرة كمؤخرة كيم كاردشيان التي يهتم فيها المواطن في مجتمع الرواية أكثر من اهتمامه بواقعه ومستقبله!

ولا ينسى أن يوزع الكاتب لعناته على كل الذين يعدون أنفاس الشعوب، وضربات قلوبهم، ويتحكمون في توزيع نظراتهم، ويتدخلون في لون لباسهم الداخلي ونوعه… فيصول ويجول بالقارئ في كل وديان المآسي والانهزامات، من محطة إلى أخرى مستدعيا في نهاية المطاف الموت لأنه بحد ذاته راحة أبدية، ولكنه قبل كل شيء انتقام من الذين يصعب علينا حتى المساس بصورهم!

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم