حسين عبد العليم وعوالمه السردية الخاصة

عندما قابلت إبراهيم فرغلى لأول مرة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شعبان يوسف  

لم يكن رحيل الكاتب الروائي والقاص حسين عبد العليم، إلا علامة فادحة وفاضحة علي غياب النقد والنقاد عن إبداع كاتب جميل، سكتنا عنه جميعا، وبعد رحيله الفاجع حاول بعضنا أن يتعرّف عليه من جديد، وبعضنا الآخر من الذين كانوا يعرفونه علي المستوي الشخصي، أو علي المستوي الإبداعي أجلوا احتفاءهم به لأسباب تكاد تكون غامضة، وعندما أقول “تكاد تكون غامضة”، أعني أن بعضا من إبداعه كان معروفا ومشادا به، وكان يقتحم مناطق شبه مجهولة، أو علي الأقل هو الأبرع والأبدع والأسلس في الكتابة عنها أو فيها، والتعبير بها وعنها ولها بشكل خاص جدا.

في عام 2012 أجري معه الكاتب الصحفي أسامة الرحيمي حوارا لجريدة الأهرام، وبالطبع لا بد أن الذي يجري معه الحوار هو كاتب صحفي مثل أسامة الرحيمي، والذي لا يحاول تدشين من هم يلمعون علي السطح دائما، وأخشي أن يكون ذلك الحوار الوحيد، حيث إن الراحل لم يكن يجيد لعبة “اللهث خلف النقاد والصحفيين”، وربما هذا يريح بعضهم حتي يهربوا من الحرج، في هذا الحوار تكلّم حسين عبد العليم عن مكوناته الأولي، والتي سردها الرحيمي باختصار قائلا: “في سنوات التكوين أتاح له مجتمع الفيوم رؤية تفاصيل النسيج الإنساني المصري، وعلاقة المسلم بالمسيحي ضمن عادية الحياة اليومية، فتشربت روحه التشابكات التاريخية بلا عمد، وقرأ في وقت مبكر قصة مهرج استبعده صاحب السيرك بسبب الشيخوخة، وعندما ضاعت منه القصة، قال له والده : اكتبها بنفسك، ومن هنا دخل حسين عالم الكتابة”.

من يعرفون عالم حسين عبد العليم السردي في القصة والرواية، لا نستطيع اختصاره _ فيما كان يشاع _ في أنه كان يتناول العلاقة بين المسيحيين والمسلمين فقط، هو بالفعل كانت تتخلل سردياته تلك العلاقة التي تمزقت إربا إربا، وصارت نوعا من المسخ، بعدما أصابها التشوه الاجتماهي والفكري والسياسي، وكانت قصصه “تشرّ” دما بالفعل، فمن يقرأه سيشعر بالشعور القاسي الذي كان ينبعث من كتاباته، كما أنه يحاول أن يستدعي المفردات القديمة، كمن يعمل علي لملمة حجارة بيت قديم تناثرت في فضاء فسيح، وفي مساحة قاسية بضراوة.

ينطبق ذلك الشعور المبثوث في كل سردياته القصصية والروائية، وجدير بالذكر أنه أصدر في بدايات نشره، ثلاث مجموعات قصصية، وهي : “مهر الصبا الواقف هناك 1990، الرجل الذي حاول جمع شتات نفسه 1994، الأمسيات والضحك والولادة 1996”، بعدها كتب ونشر تسع روايات علي التوالي، دون الرجوع لعشقه الأول، وهو فن القصة القصيرة، رغم إجادته المفرطة، وتحقيقه لذروات إبداعية في هذا المجال، ورواياته علي التوالي هي : “رائحة النعناع 2000، فصول من سيرة التراب والنمل 2003، بازل 2005، سعدية وعبد الحكيم 2006، المواطن ويصا عبد النور 2009، موزاييك 2011، زمان الوصل 2011، الروائح المراوغة 2015، التماع الخاطرة بالسيرة العاطرة 2018”.

كانت سردياته تحفل بالتقاطع مع الحياة الحميمة الشعبية، والخاصة، والمؤلمة، ففي إحدي قصصه من مجموعته “الأمسيات والضحك والولادة” تأتي القصة الأولي، وهي قصة “عزه”، وهي مفعمة بالمفارقات والقسوة المفرطة، تلك القسوة الناطقة، وبالقدر الذي أراد فيه السارد أن يجعل تلك القسوة مفرطة في وصولها، استطاع كذلك أن يحرك كل شخوصه ومفردات قصته، وتلخيص القصة لا يصلح لإبراز جمالياته، إذا كانت هناك جماليات للقسوة.

عزة شابة وحيدة، تسكن منفردة في غرفة بمنافعها، أرادت أن تسكن وحدها لكي تستطيع أن تمارس حرية مشروعة، حرية أن تضع ماكياجا كما تريد، وكذلك تتعطر بالبارفان الذي تحبه، وتأتي سكناها أمام رجل كأي رجل يبحث عن صيد نسائي ثمين، وكان يحاول استدراجها بكل الوسائل، ولكنها كانت تصده بعنف، وفي إحدي الأمسيات، حرّض زوجته لكي تتحرش بها، أو تجرّ “شكلها” كما يقول العامة، ودارت معركة عالية الوطيس، وتدخّل الرجل بكل حقده المكبوت، وكانت زوجته قاسية بكل ما تملك من غيرة، حتي تمكنت “عزه” من اصطياده في خصيتيه، وظلّت تعصرهما للدرجة التي جعلته يقاومها بقوة، ويسحبهاها هو وزوجته داخل الشقة، ويعملان علي ضربها بشكل مفرط حتي تموت بين أيديهما القاسية، ويتركان الشقة في هيستريا صاخبة، وتصرخ الزوجة عاليا، وتلمّ حولها نساء الحارة، وتحرّضهن عليها، حتي يقسمن بأنهن سيصعدن إليها لكي يخلعوا ملابسها تماما، حتي يخرجوها “ملط”، ورفعت النسوة الشباشب والقباقيب وما شابه تلك الآلات العقلبية الشعبية.

في هذه القصة القصيرة، والتي لا تستطيع أي سطور اختصار رائحة الألم التي يشمها قارئ القصة في تمامها، يريد عبد العليم أن يقول بأن “عزه” ماتت بإرادة الجميع، وبأيدي عقابية اختلفت أغراضها، وتكمن في كل يد وعقل من هذه الأيادي والعقول، مساحة من التخلف والرجعية والغل والغيظ المكتوم، لا يريد حسين عبد العليم أن يقدّم نوعا من الموعظة، ولا يكتب مرثية لمجتمع ضاعت فيه عناصر النبل والمروءة والجمال منذ أن دخل الانفتاح الرأسمالي مصر، ومنذ أن تسلح المتأسلمون بذلك الرأسمال الفاحش، وأصبح الدين ليس نبلا وخشوعا، ولكنه صار تجارة وعنفا وعقابا.

هذه المعاني كلها تدور في سرديات حسين عبد العليم، ففي روايته الأخيرة “التماع الخاطرة بالسيرة العاطرة”، يؤسس لسردية شبه أسطورية، ولد وبنت تتحكم الظروف في أنهما سيتركان منزلهما، وذلك لجشع صاحبة المنزل، فتخترع قصة شبه وهمية، تقول القصة بأن البيت آل للسقوط، مما جعلها تطالب السكان بمغادرة البيت، وعندما يحاول سكان البيت مقاومة ذلك الطرد المتعسف، تكون هي قد استصدرت حكما من البلدية لهدم المنزل، وطردهم دون أي رحمة، وبعيدا عن كل ما يجري من استعدادات للمغادرة، يقترح الصبي علي شقيقته أن يقتني كاميرا، وعندما تسأله لماذا؟، يجيبها بأنه يريد تصوير البيت قطعة قطعة، الغرق والطرقات والصالة والحمام، ولكنها تباغته بلابد من تصوير الروائح التي تنبعث من كل مكان في البيت وفي الحارة، فيزيد هو بأنه سيعمل علي تصوير الناس وحركاتهم، ولكنهما يحتارا في محاولة اقتناء كاميرا، فتقرر هي له ولها أن يرسما هذه التفاصيل، وذلك أجمل وأكثر واقعية.

وبهذا الاقتراح يعمل الراوي علي تثبيت الزمن عند لحظة تاريخية معينة، يحاولان تجسيدها بأيديهما، وبأرواحهما، تلك الأرواح الفتية التي ستترك الكبار لكي يفكروا بطريتهم، ولكي يفكر الصبيان بطريقتهما، محاولة تثبيت العالم بكل مفرداته عند لحظة معينة، كما أن الرسم سيصبح أكثر واقعية وتأثيرا من التقاط الصور فوتوغرافيا.

يشعر القارئ أو يكتشف أن الكاتب ذاته، يتماهي مع الراوي، ومع أبطاله، ومع كافة المفردات التي تتحرك في الرواية، وهو بالفعل يبدي تعاطفا بكافة الأشكال مع الكائنات المهدرة، ويدحض كل الأفكار التي تبعث الخوف والتفرقة، لذلك يعيد إبداع العلاقات الطيبة بين المسيحيين والمسلمين التي كانت متجسدة في لحظات من التاريخ المصري، وهو يكتب عن هؤلاء المسيحيين برقة مفرطة، ففي مقدمة رواية “فصول من سيرة التراب والنمل” يكتب :” الأبرار يضيئون كالشمس في ملكوت أبيهم السماوي، انتقل إلي الأمجاد السماوية الدكتور عزيز بشري فانوس..”، ويظل يطرح العالم الحميم والخاص بمفردات تنتهي إلي سرد مفعم بكل المعاني الطيبة والجميلة.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم